رحيل عميدة المذيعات أمينة بلوزداد

قامة وطنية في ذاكرة الجزائريين

قامة وطنية في ذاكرة الجزائريين
  • 1811
انتقلت عميدة المذيعات السيدة أمينة بلوزداد، صباح أمس، إلى رحمة الله عن عمر ناهز الـ83 سنة وسيوارى جثمانها الثرى اليوم بعد صلاة الظهر بمقبرة سيدي امحمد، وقبلها سيسجى جثمان الفقيدة بقصر الثقافة مفدي زكريا لإلقاء النظرة الأخيرة عليها والترحم على روحها الطاهرة. تختزن الراحلة ذاكرة التلفزيون الجزائري، وكانت ترجع بذكرياتها إلى ما قبل فترة الاستقلال حين كانت تعمل بمبنى التلفزيون الذي كان بدوره تحت يد الإدارة الاستعمارية في نهاية الخمسينيات، وفي هذه الظروف كانت السيدة أمينة (ربيعة سي الشريف)، تشحن نفسها بالقيم الوطنية وكانت تجتهد كي لا تكون أقل شأنا أو مستوى من المذيعات الفرنسيات، وهي سمة شاركها فيها زملاؤها الجزائريون العاملون معها في نفس المبنى، وكان منهم طبعا المرحومان مصطفى قريبي ومصطفى بديع.
كان يحز في نفسها هذا التمييز العنصري المسلط عليها وعلى زملائها، وتذكر أن الفرنسيين العاملين معها كانوا يسمونها بـ"الموريسكية" قصد افتزازها والنيل من جزائريتها وعلى أنها مواطنة من الدرجة الثانية، لكن ما كان يواسيها هو اعتزازها العلني بهويتها وجزائريتها وبمهنيتها التي أجبرت هؤلاء الفرنسيين على الاعتراف لها بها، وهي التي لم تستفد كغيرها من المذيعات الفرنسيات من أي تكوين أكاديمي، أو تربص لتعتمد فقط على اجتهادها في البحث وعلى مساعدة بعض زملائها الجزائريين.
اعتمدت السيدة أمينة، تقديم البرامج كمذيعة ربط لتكون أول مذيعة في تاريخ الجزائر، على الرغم مما جاء في شهادة السيدة فريدة صابونجي، التي قالت مرة إنها أدت مذيعة ربط في التلفزيون الجزائري إبّان الاستعمار وذلك بطلب من إدارة التلفزيون كي تعوّض مذيعة فرنسية تغيبت لظروف قاهرة، وهنا اشترطت فريدة، أن تقدم بالفرنسية والعربية في آن واحد فكان لها ذلك، لكن يبقى حضور أمينة، هو الحضور الأهم والدائم الذي استمر إلى غاية ما بعد استرجاع الاستقلال الوطني.
أمينة من مواليد حي بلوزداد (بلكور سابقا) عاشت وسط عائلة محافظة على القيم والوطنية، وكانت ببيت والدها مكتبة صغيرة دخلتها منذ الطفولة الأولى لتقرأ فيها بالفرنسية والعربية على حد سواء، فاكتشفت لامرتين والمنفلوطي والعقاد في وقت واحد ممّا وسع في ثقافتها وخلق بداخلها رقّة الأدباء والشعراء وحكمة الفلاسفة وثورة الوطنيين.
لم تكن السيدة أمينة، تقيم بعيدا عن التلفزيون تسير بمفردها إليه لكن لم يكن الكثيرون يعرفونها لأن أغلبية الجزائريين في تلك الفترة لم يكن لديهم جهاز تلفزيون ومع ذلك كانت تعمل وتثابر إلى أن جاء اليوم الموعود يوم الاستقلال في 1962، وبعدها بشهور قليلة تدخل التلفزيون يوم 28 أكتوبر، وترى لأول مرة العلم الوطني يرفرف فوقه بفضل الرجال الذين أعادوا الحق لأصحابه، وهنا وجدت أمينة، نفسها أمام امتحان آخر وهو التحدي للبرهان على قدرتها تماما كما فعل زملاؤها الذين اشتغلوا ليل نهار لضمان استمرار البث، وهكذا وجدت أمينة نفسها تخاطب شعبها بلغته وتقدم له كل ما لذّ وطاب من برامج لتصبح مذيعة الجزائر الأولى عبر الأجيال، حاضرة بذكراها وثقافتها ورشاقتها وسماتها الجزائرية الواضحة التي افتكت بها احترام العدو قبل الصديق، وهكذا استمر العطاء إلى غاية الثمانينيات لتترك المكان لمواهب أخرى أعطت لها كل ما تملك من خبرة ونصيحة.
غادرت السيدة أمينة التلفزيون لكنها لم تغب فظلت وفية لزملائها ولمختلف المواعيد الثقافية والوطنية وكانت تلبي الدعوات رغم تقدم سنّها وتعبها وذلك بكل تواضع وكانت لا تفوت فرصة تكريم أصدقائها خاصة من الفنانين لتهنئهم، وتذكر "المساء" كيف كانت السيدة أمينة، تحضر تلك المناسبات بكل وقارها وهي في أجمل حلّة، حيث لم تكن تفرط في أناقتها وطلّتها البهية لذلك كانت تدلل من الجميع، وهنا نذكر المنشط جلال شندرلي، الذي كان يدللها بعبارة "الآنسة" كي يحفزها على صعود منصة المسرح. ظلت الراحلة وفيّة للجزائر ولذكرى الشهداء، وكانت تعتبر أن أي مشروع أو نهضة لا تستحضر تراثنا الثوري لا معنى لها لذلك كانت تغرس هذه القيم كلما سمحت لها الفرصة بالألتقاء بجيل الشباب خاصة في مجال الإعلام المرئي.