التربة السوداء تعانق الثلوج البيضاء على صخرة سيرتا
سطيف والبيّض تثريان برنامج عاصمة الثقافة العربية
- 3087
امتدت حبات رمل الصحراء الواسعة لتعانق نسمات الهضاب العليا على صخور عتيقة بعاصمة الثقافة العربية، لصنع نسيج عنوانه "ثراء الثقافة الجزائرية"، وهي امتزاج لحضارة صنعها الإنسان في مسيرة أكثر من 6 آلاف سنة ضاربة في أعماق التاريخ، تشهد على حقبة الديناصورات التي اكتُشفت بمنطقة طريق الرقاصة. جاءت لتعانق مدينة منبع الإنسان وملتقى الحضارات، مدينة الأكثر من مليون سنة، مدينة ستفيس، أزديف أو التربة السوداء، التي تحولت إلى تربة حمراء بعدما روتها دماء الشهداء في 8 ماي من سنة 1945، فكان لقاء بين ولاتي البيّض، بياض الثلوج التي تكتسيها مع سطيف التي تشاركها في ارتداء حلة البياض كل شتاء، في إطار الأسابيع الثقافية المشتركة التي ينظمها الديوان الوطني للثقافة والإعلام، ضمن فعاليات قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015.
تتواصل فعاليات الأسابيع الثقافية الولائية بقاعة العروض أحمد باي بقسنطينة عاصمة الثقافة العربية، التي احتضنت مساء الخميس المنصرم، ولاية شمالية ممثلة في ولاية سطيف المجاورة لقسنطينة، والتي حملت معها موروثها الثقافي المادي واللامادي لتعرضه على جمهور عاصمة الثقافة العربية، تقابلها في الجهة الأخرى ولاية البيّض من الجنوب الغربي، التي حملت معها بياض قلوب أهلها، وقطع وفدها أكثر من 700 كلم برا، لا لشيء إلا ليقولوا نحن جزء من هذه الثقافة الجزائرية الغنية والمتنوعة، حملت معها صنعة الأجداد ورسالة إلى الأحفاد.
ودشن المدير العالم للديوان الوطني للثقافة والإعلام السيد لخضر بن تركي، على زخات المطر، معرض الولايتين، معلنا عن افتتاح الأسبوع الثقافي لولايتي سطيف والبيّض بعاصمة الثقافة العربية، حيث كان مرفقا بمدير الثقافة لولاية قسنطينة ممثلا عن والي الولاية ومديري الثقافة بكل من البيّض وسطيف.كانت البداية مع الأفراح، حيث تم تقديم عرض عن الأفراح التقليدية بولاية البيّض من تنشيط فرقة "العلاوي النجمة"، التي أدت وصلة رقص باستعمال بنادق صيد خشبية، تلاها تناول وجبة عشاء تقليدية، شكّل الكسكس طبقها الأساس، وهو الطبق الذي يقدَّم في أعراس البيّض، وزاد من جمال المشهد، احتضان الخيمة الصحرواية لهذه المأدبة.في الجهة المقابلة، شاهد الحضور تفاصيل دخول العروس بولاية سطيف وما يرافقه من رقص سطايفي إلى تفاصيل الحناء من أداء التعاونية الثقافية لنشاطات الفروسية التقليدية والفنون الشعبية. بعد ذلك، طاف الوفد بمختلف أجنحة المعرض الذي ضم أكلات شعبية تزخر بها موائد كل ولاية، قبل أن يتم تقديم صورة بسيطة عن كل ولاية، امتدادها التاريخي، عاداتها وتقاليدها، مخطوطاتها وأهم المؤلفات التي تناولت كل منطقة، بالإضافة إلى معارض تقليدية مثل صناعة القشابية والزربية بولاية البيّض، وصناعة الألبسة التقليدية وفساتين الأفراح، النقش على الخشب، الحلي الفضية، الخزف الفني وصناعة السلال بالنسبة لولاية سطيف. كما ضم المعرض ألواحا فنية تشكيلية، مجسمات مصغرة للفنون التقليدية وصورا فوتوغرافية لكل ولاية.
بلادي الجزائر في مطلع الحفل
الشطر الثاني من حفل الافتتاح خُصص للجانب الفني الغنائي ووقفة ترحّم على روح الفنان سمير بلخير المدعو سمير السطايفي فقيد الأغنية الجزائرية، وكانت البداية مع أبيات شعرية أداها الشاعر السطايفي شبيح عبد الحميد، الذي قدّم قصيدة بعنوان "شهيد" من كتابه "سباعيات"، استهله بقوله في المقطع الأول:
بلادي الجزائر يا موعدي ... وفي القلب مأواك والكبدِ
سأزرع وردا إذا حقدوا ... فمد يداك، فهذه يـــدي
لعينك قلبي وكل الهوى... وبالروح أفديك وبالجســدِ
فمن سرقوا الحب فجر الصبا... وهدوا بقاياه في خلدي
هم الزائلون بلا رجعة... وأنت البقاء لنـــا فأخلدي
تهاوت جراحك في مقلتي... شهـيد أموت فـاشهدي
ودمعك غيمة هذا الثرى... سيأتي الربيع وفي الموعد
ثم تلا في المقطع الثاني:
بلادي الجزائر ُمدِ يدا ... وضـم جراحـك رغـم العِـدا
تهافت شرق وغرب على ... جمال مُحـياك في ذا المدى
أرادوكِ قبرا بلا شمعة ... فـكوني البـشائـر والمـولـدا
أرادوكِ ليلا بلا نجمة ... فـكوني إلى فـجـره مـوعـدا
وفي كل طلعة نجم شهيد...يـردد أحـلامـه منـشـدا
أيا زارع الورد أبشر به ... ويا زراع الشوك لن تسعـدا
لنا في الجروح دروب الحياة...لك الورد والدمع والشهدا
فـكوني البشائـر والمولـدا... فـكوني البشائـر والمولـدا
الشاب عراس وبكاكشي الخير يُلهبان القاعة
ألهب الفنان السطايفي المشهور بكاكشي الخير، ركح قاعة العروض الصغرى أحمد باي، في افتتاح الأسبوع الثقافي لولايتي سطيف والبيّض ضمن فعاليات قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015، حيث قدّم الفنان الذي يُعد رمزا من رموز ولاية سطيف، بعض الأغاني المشهورة، رافقته فيها فرقة السلام للأغنية العصرية، على غرار " يا ظلمني نوكل ربي عليك" و«يا جاري يا محمود"، وهي الأغنية التي اشتهرت في كل الأقطار العربية تحت عنوان "يا جاري يا حمودة".
وقبل أن ينزل من الركح أوصى بكاكشي الخير الحضور بالجزائر خيرا، حيث قال: "تحيا الجزائر وما عز منك غير ربي والوالدين".خلفه على الركح فنان صنع لنفسه هو الآخر اسما في الأغنية السطايفية، وهو الشاب عراس، الذي قدّم أغنية سطايفية محضة تحت عنوان "وي وي تعجبني غير أنتِ"، ثم قدّم أغنية مزيجا بين الرومانسي والسطايفي بعنوان "نوال عيونها كحل"، وقد تفاعل الجمهور كثيرا مع أداء الفنان عراس.الحفلة السطايفية كانت مزيجا بين الفنانين المشهورين والجيل الشاب، حيث ارتأت الجهة المسؤولة عن التنظيم تقديم طبق فني متنوع، واختارت مجموعة من الوجوه الشابة التي تألقت وفازت بالمراتب الأولى في فعاليات مهرجانات الأغنية السطايفية، على غرار الشاب عمار، الذي أدى أغنية "نونة بنت الحاج"، الشاب عماد الذي أدى أغنية "لميمة لحنينة نشفتيلي دمعي"، والشاب فاتح "لوبلان" الذي قدّم أغنيتين بعنوان "عايرتيني وقلت زاوالي" و«شوفوا خالي عمار".
الشعر الملحون والتغني بالشهداء من طرف وفد البيّض
أما الشطر الثاني من الحفلة الفنية فكان مخصصا لولاية البيّض، حيث اعتلت فرقة أبطال "أكسال" من 5 أفراد بلباسهم التقليدي الأبيض، المشكَّل من "القندورة" (القميص)، البرنوس والشاش، وأدت أغنية ثورية، وكانت من المفارقة أنها حملت نفس عنوان القصيدة الافتتاحية لولاية سطيف، التي جاءت بعنوان "الشهيد"، استهلتها الفرقة ببعض الأبيات من الشعر الملحون باللغة العامية، قالت فيها:
أرقد هاني هذا نهارك يا شهيد ...تبختر في الفردوس وانعم بثمارو
في كل شبر سال دمك يا صنديد... في الشعبة والوادي وشجارو
في الصحرى والغرب السعيد... والشرق اللي فيه كان انتشارو
ترك بعد ذلك المجال للشاعر مليود بوموس، الذي قدّم من جهته، قصيدة من الشعر الملحون، بعنوان "الوقت قصاص كبيرة"، تلته فرقة الموسيقى التراثية بقيادة الفنان الشيخ نعماوي بوعمامة، التي أدت أغنيين من الطابع التقليدي الصحرواي بعنوان "راح للبيضا" و«لالة فاطمة الزهرا"، وخلفتها على الركح فرقة القول والصف النسوية، التي أدت نوعا غنائيا اشتهرت به ولاية البيّض منذ قرون، وهي أغاني تتغنى برجال الله الصالحين، على غرار سيد الشيخ، حيث غنت الفنانة "أما عائشة" أغنية بعنوان "سال بني جلول لعرج".
وكان آخر السهرة التي عرفت العديد من التكريمات للوفود الزائرة وضيوف قسنطينة، من تنشيط فرقة لعلوي للرقص، التي قدّمت لوحات فنية جميلة، نالت إعجاب الجمهور، واستعملت فيها الراية الوطنية.
محاضرات، فلكلور، سينما وطرب
اختار الوفدان المشاركان في هذا الأسبوع الثقافي، أن يكون البرنامج ثريا ومتنوعا، حتى يقدما طبقا دسما ولوحة متكاملة عن الجوانب الثقافية بولايتيهما، حيث أبى وفد البيّض إلا أن يشارك بعرض فيلم سينمائي بعنوان "الوهم"، عُرض مساء أمس، وكان متبوعا بنقاش. كما قدّمت فرقة «الوئام" لعين ولمان وفرقة "أحرار" من حمام السخنة بسطيف في نفس الأمسية، استعراضات فلكلورية.وعرفت سهرة الجمعة تقديم قراءات شعرية من الفصيح والملحون والأمازيغي المشهور بالبيّض، ومن سطيف مع الشاعر علاوة كوسة، تلاه حفل فني ساهر ومتنوع مع فرقة الموسيقى التراثية بقيادة الفنان رقيق قويدر، فرقة القول والصف النسوية، فرقة الشيخ "مباركية نبيل" للموسيقى الشعبية، جمعية ليالي الأندلس للموسيقى الأندلسية.
واختتم الأسبوع الثقافي أمس السبت، إذ تمت برمجة عرض فيلم سينمائي من البيّض بعنوان "فؤاد"، متبوع بنقاش، وتنظيم استعراضات فلكلورية من طرف فرقة "نجوم الهضاب"، جمعية "نجوم الليل" للفلكلور والبارود بحمام السخنة، فرقة النجمة للعلاوي، وتنظيم قراءة شعرية مع الشاعر السطايفي قيس راهم. وفي السهرة، تم برمجة مجموعة من الأغاني للمجموعة البوليفونية لجمعية أنغام سطيف، وحفل فني للأغنية السطايفية مع جمعية "أنغام سطيف"، بمشاركة كل من سمير العلمي، فيصل رحماني، الشاب فتحي، داهل نسيم، محجوب، حورية، الشاب حسام والشاب حميدو، ومن البيّض كل من فرقة الغناء البدوي أبطال أكسال وفرقة الموسيقى التراثية بقيادة الفنان بلحاج البشير.
سمير مفتاح (ممثل الديوان الوطني للثقافة والإعلام):
الأسابيع إثراء لبرنامج التظاهرة
أكد السيد سمير مفتاح، مدير الإعلام على مستوى الديوان الوطني للثقافة والإعلام خلال حفل الافتتاح الخاص بالأسبوع الثقافي لولايتي البيّض وسطيف، أن هذا اللقاء يُعد خطوة أخرى من خطوات الاستمرارية في إطار قسنطينة عاصمة للثقافة العربية 2015. وقال إن الحضور تابع باهتمام محطات تاريخية وفنية من خلال زيارته للمعارض المدشنة، معتبرا أن هذا الموروث المعروض ما هو إلا قطرة من بحر الثقافة الجزائرية القادمة من مدينتين عرقيتين، هما مدينة البيّض، التي وصفها بمدينة الأصالة والنضال والموروث الثقافي، ومدينة سطيف التي قال عنها إنها مدينة الحضارة والشهادة، ليؤكد أن هذه النشاطات الثقافية مستمرة بفضل الإرادة الرشيدة من كل المؤمنين بالرسالة السامية التي تحملها الثقافة.
ترحيب بالضيوف باسم والي قسنطينة
أثنى والي قسنطينة في الكلمة التي ألقاها نيابة عنه مدير الثقافة بالولاية السيد جمال فوغالي، على مجهودات الوفود المشاركة، مؤكدا أنه من الافتخار أن تمتلئ أروقة القاعة الكبرى أحمد باي بهذا الزخم الثقافي، التاريخي، النضالي والثوري، الذي يتعانق من ولاية إلى أخرى، لتكون بعد ذلك المشكاة التي تضيئ الجزائر كلها من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، مضيفا أن قسنطينة التي تتكئ على ثلاثة آلاف سنة، تسعد وتفخر لاعتناق كل هذه الأسابيع التي تأتي مثنى مثنى إلى عاصمة الشرق وعاصمة الثقافة العربية، معتبرا أن هذه الأسابيع بأيد أمينة حتى تصل إلى مجراها.وقال فوغالي إن نزول سطيف والبيّض بكل موروثهما الثقافي والتاريخي، شرف لقسنطينة، مضيفا أن هذه التشكيلات المختلفة والمتنوعة والزاخرة تؤكد الثراء الذي تتميز به الثقافة الجزائرية، وأن هذا الأسبوع سيكون ثقافيا بامتياز، وعلى الجمهور التقرب وزيارة المعارض بقوة.
عريبي زيتوني مدير الثقافة لولاية سطيف:
أبرزنا تقاليد وأعراف المدينة
اعتبر مدير الثقافة لولاية سطيف السيد عريبي زيتوني، أنه يمكن لكل ولاية أن تساهم في بناء لبنة وإبراز التراث الثقافي الجزائري المتنوع، ومنها سطيف التي تزخر بتاريخها، تراثها، عاداتها وتقاليدها، خاصة أنها - يضيف محدثنا- مدينة قديمة ضاربة في عمق الزمن؛ حيث عاصرت العديد من الحضارات الغابرة.وقال في تصريح مقتضب لجريدة المساء: "جئنا بمعرض يمثل نسبة كبيرة من تقاليد وأعراف المدينة، كانت البداية بعرس سطايفي تقليدي يحمل طقوس الأعراس بالمنطقة، كما ركزنا على معرض الآثار بمشاركة متحف سطيف، إضافة إلى معارض أخرى على غرار الأشغال اليدوية، الألبسة التقليدية، الأكلات التقليدية والشعبية التي تشتهر بها المنطقة في الأعياد والأفراح، صور فوتوغرافية ولوحات تشكيلية وكذا كتب حول مدينة سطيف وأعلام المنطقة"، مضيفا أن هذه المساهمة تُبرز مدى تنوع وذكاء الإنسان الجزائري بشكل عام، وبشكل خاص السطايفي الذي يعيش في منطقة فلاحية بدأت تتحول مع الوقت إلى منطقة صناعية تساهم في بعث الاقتصاد الجزائري، وقال: "جئنا بوفد يضم عددا معتبرا من المشاركين، منهم حوالي 60 مشاركا سيمكثون بقسنطينة، والبقية ستغادر إلى سطيف في ظل قرب المسافة بينها وبين قسنطينة، ونأمل أن يكون حضور الجمهور القسنطيني بقوة".
لعلوشي مجيد (مدير الثقافة بولاية البيّض):
تنوع الثقافة الوطنية يختصر قارة
قال مدير الثقافة لولاية البيض السيد لعلوشي مجيد في دردشة مع "المساء": "جئنا بقافلة ثقافية تعكس ولو بصورة مبسطة على ما تحوزه ولاية البيّض من زخم ثقافي، ونظرا لموقع الولاية في الجنوب الغربي، فهي تُعتبر ولاية الشعراء بامتياز، فلا يكاد يخلو بيت من شاعر، فالطبيعة أثرت على الإبداع الثقافي، وكل فرد من مجتمع البيّض له إبداع في ميدان ما، سواء في الرسم، الشعر أو الرقص، وأردنا نقل هذه الصورة ليشاهدها الجمهور القسنطيني عن قرب"، مضيفا أن "هناك تنوعا ثقافيا بالجزائر التي تُعتبر قارة في حد ذاتها، حملنا معنا تراثا ماديا وآخر لا مادي، جئنا بشعر وفن تشكيلي وأغان شعبية محلية وتاريخ وثقافة ليتعرف عليها الجمهور، الذي ندعوه للحضور بقوة حتى يطّلع على إبداعات إنسان البيّض".