مدير المتحف الوطني للمجاهد الدكتور مصطفى بيطام لـ "المساء":
الشعب كله صنع الثورة ومن واجبه اليوم تخليدها
- 2748
ذاكرة الجزائريين مستهدَفة، وهناك من يعمل ليل نهار من أجل أن نقطع الصلة بثورتنا
جمعنا 6000 شهادة حية عن الثورة التحريرية
قد لن نجد أمامنا مجاهدا على قيد الحياة بعد 15 سنة على الأكثر
وزّعنا 9,3 ملايين قصة حول الشهداء على 24 ألف مؤسسة تعليمية منذ 2010
نعمل على إبرام اتفاقيات ثنائية مع قطاعات التربية والتعليم والتكوين المهني
لا بد أن يتحول كل بيت جزائري إلى ندوة تاريخية
الخلافات بين المجاهدين أمر طبيعي وإيجابيات الثورة أكثر من سلبياتها
"إذا متنا فدافعوا عن ذاكرتنا" هي الوصية التي تركها الشهيد البطل ديدوش مراد، وحرص الدكتور مصطفى بيطام مدير المتحف الوطني للمجاهد على ترسيخها في رسالة صريحة وصادقة، يبعثها إلى كافة أفراد الشعب الجزائري من خلال هذا الحديث، الذي أبرز من خلاله واجب كل جزائري في الحفاظ على الذاكرة الوطنية بالإسهام في الجهد الوطني لتجميع الشهادات وكتابة التاريخ؛ تخليدا وتمجيدا لثورتنا العظيمة..
- بداية سيدي، هل لكم أن تعرّفونا بالمتحف الوطني للمجاهد؟
أنا سعيد جدا باستضافتكم في المتحف الوطني للمجاهد، وأحيّي بداية طاقم جريدة "المساء" مديرا وصحفيين على ما يبذلونه من جهد؛ من أجل تبليغ الرسالة التاريخية، ولا سيما للأجيال الصاعدة، حتى تكون على بصيرة بأن الحرية واسترجاع السيادة الوطنية لم تكن منحة من الغير وإنما هي حصيلة التضحيات الجسام التي دفعها الشعب الجزائري منذ احتلال فرنسا للجزائر من 1832 إلى 1962. أنتم متواجدون بالمتحف الوطني للمجاهد الذي يديره العبد الضعيف الدكتور مصطفى بيطام الأستاذ الجامعي، فنحن نعمل في هذه القلعة الحضارية على تخليد مآثر المقاومة والثورة التحريرية.
والمتحف الوطني للمجاهد هو جزء من مقام الشهيد، الذي اختير له هذا المكان لعدة اعتبارات، منها أن هذه الربوة التي بُني فوقها مقام الشهيد، كانت في القرنين الـ15 والـ16 معقلا للوطنيين الجزائريين الذين كانوا يدافعون عن السواحل الجزائرية، ويتصدون لهجمات الإسبان والبرتغاليين. كما شُيّد المقام في هذا المكان لاعتبار تاريخي آخر، هو أنه يوجد على بعد حوالي 800 متر من المنزل الذي احتضن اجتماع مجموعة الـ 22 التاريخية التي فجّرت ثورة نوفمبر المجيدة، وبجانب المقام أكبر مركز للتعذيب الاستعماري، وعليه فمقام الشهيد، في حد ذاته ومعه المتحف الوطني للمجاهد، يُعتبر معلما تاريخيا وقلعة حضارية ومكانا مميزا بالنسبة للدولة الجزائرية، وهو مقصد وقبلة لكل الزائرين، ولاسيما الأجيال الصاعدة، علاوة على الشخصيات الوطنية والدولية، ومنها رؤساء الدول والحكومات الذين يشدون الرحال إلى الجزائر، ويجعلون أولى وقفاتهم بها الترحم على شهداء الجزائر في هذا المكان الذي نعتز به أيما اعتزاز.
- ما هو الدور الذي يؤديه المتحف الوطني للمجاهد في نشر ثقافة الثورة وتعريف الأجيال بتاريخ الجزائر؟
كل أمة في العالم لها متاحف أو متحف مميز يكون له بعد وطني ودولي، وكل الأمم تحرص على أن يعكس هذا المتحف المميز تاريخها من خلال ما يتوفر عليه من معروضات مختلفة ومعالم تاريخية. وبالنسبة للجزائر فإن مقام الشهيد الذي شُيد في 1982، يعكس بامتياز مآثر المقاومة والثورة التحريرية ويخلّدها، حيث إن المتمعن في الشكل الخارجي لمقام الشهيد يجد 3 نصب تذكارية، يمثل الأول تمثالا لمقاوم جزائري إبان المقاومة الوطنية بلباسه التقليدي، والنصب الثاني يمثل مجاهدا من مجاهدي ثورة التحرير الوطني، والثالث يمثل جنديا من جنود الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني.
ووظيفة المتحف الوطني للمجاهد لا تتلخص فقط في إقامة المعارض والندوات وإنما تشمل كذلك العمل على جمع ما أمكن من الوثائق والأشياء المتحفية والمعالم التاريخية، وذلك من خلال الحرص يوميا على تسجيل أكبر عدد ممكن من الشهادات الحية من أفواه صانعي الحدث، لأننا نحس ولاسيما في مثل هذا الوقت بالذات، بأننا في سباق مع الزمن.. فأنا دائما أقول بأن الأعمار بيد الله، وتقديراتي أننا بعد 15 سنة على الأكثر، قد لا نجد أمامنا مجاهدا حيا، باعتبار أن الموت هو مصير كل كائن حي، وهذا الجيل العظيم الذي صنع المعجزات كان من المفروض أن لا نغفل عليه، ونجتهد في أخذ معلومات وما لديه في ذاكرته، لأن كل مجاهد يُعتبر جزءا من الذاكرة الوطنية، بما يحمله من معلومات ومن أسرار وويلات.. ولهذا الغرض نحن نعمل بكل الوسائل الممكنة على تسجيل أكبر عدد ممكن من الشهادات الحية حتى نقدّمها للباحثين، كمادة تاريخية، ولكل باحث طرقه المنهجية لتوظيف هذه الشهادات الحية في كتابة التاريخ الوطني.
- وكيف توصلون الشهادات والوقائع التاريخية إلى فئة الشباب؟
من مسؤولياتنا اليومية استقطاب أكبر عدد ممكن من الزوار، ولاسيما من فئة الشباب. والمتحف الوطني للمجاهد هو المتحف الوحيد الذي تبقى أبوابه مفتوحة يوميا من الساعة الثامنة صباحا إلى الساعة العاشرة ليلا، بما فيها أيام العطل والأعياد، وذلك بقرار من وزير المجاهدين السيد الطيب زيتوني، الذي كان يحرص كل الحرص على أن تبقى المتاحف مفتوحة حتى يتمكن الذين لا تسمح لهم ظروفهم في أوقات العمل من زيارتها، بأن يزوروها ليلا. كما نعمل في إطار البرنامج المسطر على إبرام اتفاقيات ثنائية مع العديد من المؤسسات، ولا سيما في قطاع التربية والتعليم والتكوين المهني، حتى نستقطب أكبر عدد من الشباب؛ لأن الشباب والناشئة هم رجال المستقبل الذين سيحملون مشعل الوطن، وبالتالي أحسن شيء نحصنهم به هو تلقينهم التاريخ..
ونحن نعلم أن أغلب طلابنا وشبابنا تلقوا معلومات ودروسا تاريخية، لكن المثل يقول: "ليس من رأى كمن سمع". وعندما يأتي الشاب إلى مثل هذه المتاحف يقف على شواهد حية ترسّخ المعلومات التاريخية التي تلقّاها في ذهنه بشكل أقوى. وإذ أذكر هنا بأن المتحف الوطني للمجاهد يقوم أيضا بعرض أشرطة وثائقية وأفلام تاريخية وينجز مطويات تاريخية، فلا بد من أن أشير إلى أن من بين أهم الأعمال التي يقوم بها في المرحلة الحالية، إصدار بعض المطبوعات الموجهة للتلاميذ، حيث شرع المتحف منذ 2010 في إصدار سلسلة بعنوان "من أمجاد الجزائر"، وهذه السلسلة تهتم بالشهداء الذين سقطوا في عهد المقاومة الوطنية وعهد الحركة الوطنية والثورة التحريرية، وقد ركزنا في بداية إصدارها على الشهداء الرموز الذين فجّروا الثورة وتقلّدوا مهام قيادتها، وهذا لا يعني أننا نفضّل بعض الشهداء على بعضهم الآخر؛ لأنهم جميعا "عند ربهم يُرزقون" وهم في درجة واحدة. وسننتقل في مرحلة ثانية إلى التعريف بكل الشهداء الذين سقطوا في سبيل هذا الوطن، وذلك مع توفر المعلومات عن كل شهيد من هؤلاء الشهداء.
- لمن هي موجهة هذه السلسلة؟
هي موجهة للناشئة ولا سيما في الطورين الأول والثاني، وقد تم طبع 93 قصة لـ93 شهيدا رمزا، بحجم 100 ألف نسخة لكل شهيد، حيث وزّعنا 9,3 ملايين قصة على 24 ألف مؤسسة تعليمية وذلك منذ سنة 2010، فيما يتواصل العمل لإصدار وتوزيع قصص أخرى، حيث لدينا اليوم أكثر من 300 قصة جاهزة، تم منها طبع 93، وهناك حوالي 70 قصة جاهزة للطبع وقصص أخرى جاهزة للإنجاز. ولا بد أن نشير في هذا المقام إلى أن الأمر لا يُعد سهلا مثلما يبدو، لأننا راعينا مستوى الأطفال في تحرير القصص بأسلوب سلس وسهل وبالتشكيل، وكانت طموحاتنا أن تكون هذه القصص مشفوعة بالصور التي يحبها الأطفال، غير أننا وجدنا صعوبة في اقتران النصوص بالصور لقلة الناس الذين يستطيعون الجمع بين النص التاريخي والصورة المناسبة. وربما نحن البلد الوحيد الذي انتهج هذا الأسلوب في هذا العمل. وأذكر أن الأديب نجيب محفوظ عندما سئل: لماذا الكتابة للأطفال قليلة؟ أجاب بأن كتابة القصص للأطفال عسيرة..
- هل تعتقدون أن هذه الطريقة في تلقين الناشئة تاريخ وطنها كافية؟
نعتمد في مهمتنا هذه على الله، ثم على الناس الذين يزوّدوننا بالمعلومات حول الشهداء. حقيقة، ليس كل الشهداء كتبنا عنهم، وهناك شهداء أبطال لم نفهم حقهم، لأن معرفتنا بهؤلاء كانت قليلة جدا، ولذلك علينا أن نتواصل ونتصل بكل من له معرفة بهؤلاء، حتى نستطيع أن نكشف الغبار عن شهدائنا، وقد عوّدنا الإعلام الوطني الكتابة عن عميروش وحسيبة ولطفي وبن مهيدي ومصطفى بن بولعيد وعبان رمضان وسي الحواس وآخرين معروفين، لكن هناك أبطالا كبارا لهم بطولات علينا أن نوفي رسالتهم.. ولذلك فنحن نعمل على أن نتوسع في هذه السلسلة بالكتابة على شهداء ثورتنا إلى أبعد حد، والعمل متروك للأجيال وللناس الذين سيتعاقبون في المسؤوليات، وبالرغم من قلة التعريف بها إعلاميا فإن هذه السلسلة أصبحت مكسبا كبيرا ومتميزا؛ لأن الهدف الاسمى المراد تحقيقه من خلاله، هو أن لا يجهل الشباب الجزائريين أبطالهم.
- هل لديكم اتفاقيات رسمية مع قطاعات أخرى لإنجاح هذه المهام؟
هي ليست اتفاقيات وإنما يمكن أن نسميها علاقات وطيدة مع قطاعات التربية والتعليم والتكوين. تمكن الطلاب في مختلف الأطوار من زيارة المتحف الوطني للمجاهد، خاصة في المناسبات والأعياد الوطنية، لكن طموحاتنا يجب أن تكون أكبر، وأذكر أنه في سنة 2002 زار سفير فرنسا بالجزائر المتحف، وقبل مغادرته سألني كم يستقطب المتحف من الزوار سنويا، فقلت له إننا نستقبل في حدود 300 ألف زائر، فقال إن هذا العدد ضئيل جدا، وإنه من المفروض أن يستقطب هذا المعلم الملايين سنويا بالنظر إلى تاريخ الجزائر العظيم.. لقد أثرت فيَّ كثيرا إجابة هذا الدبلوماسي الذي ينتمي إلى بلد كان بالأمس عدوا للجزائر، ولكن رغم ذلك أحس بصدق ما قال، وبضرورة استقطاب التاريخ الجزائري أكبر عدد من المهتمين.
- وهل تعتقدون أن هذه الغاية ممكنة التحقيق؟
حتى نصل إلى الملايين من الزوار نحتاج إلى التوعية والتحسيس بدءا من الأسرة، التي عليها أيضا المشاركة في تجميع المعطيات التاريخية والشهادات الحية، ففي الجزائر لا يوجد عائلة لا تضم جامعيا في صفوفها؛ فلماذا لا يتم كتابة التاريخ بتدوين الشهادات من داخل الأسرة؟.. هذا أمر ممكن جدا، فلا بد أن يتحول كل بيت جزائري إلى ندوة تاريخية، وتصوّروا لو أن كل عائلة سجلت الحدث، سيكون كل الشعب الجزائري يشارك في تخليد الثورة. الجزائر ليست بلدا لشخص واحد أو مجموعة من الأشخاص، وإنما الشعب الجزائري كله بطل، وكل أفراده صنعوا الثورة وساهموا في تحرير البلاد، ولا بد لهم أن يشاركوا في تخليد هذه الثورة المجيدة، اعتبارا من قول الله تعالى: "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه".
- وكيف يمكن تحفيز الجزائريين على المشاركة في هذا الواجب الوطني؟
أعتقد أن المشكل يرتبط بالتحسيس والتوعية، فكان يُفترض أن تكون لنا منابر وقنوات إذاعية وتلفزيونية متخصصة في تاريخ المقاومة الوطنية والثورة التحريرية، لكن رغم ذلك نقول اليوم الحمد لله، لأن في وسائل الإعلام صحوة، ومبادرات على الرغم من قلتها، ناهيك عن وجود متاحف أخرى تسيَّر من قبل وزارة الثقافة، وتخلّد الحقبات التاريخية التي سبقت 1830، كما يمتلك قطاع المجاهدين اليوم عدة منشآت، منها أكثر من 41 ملحقة في الولايات و6 مركبات تاريخية كبرى.
- أين وصلتم في تجميع الشهادات عن الثورة؟
سأعتمد هنا على تصريحات الوزير الأخيرة التي أشار فيها إلى أنه لدينا اليوم 13 ألف ساعة من الشهادات حول الثورة التحريرية، أما فيما يخصنا في المتحف الوطني للمجاهد، فقد جمعنا 6000 شهادة، يتم استغلالها بطريقة علمية مدروسة؛ فقد حددنا الكيفية التي تسمح لأي باحث أو كاتب أو دارس بتصفح أي وثيقة يريدها، وسخّرنا الوسائل اللازمة والأجهزة الضرورية لتسهيل هذه المهمة، حيث نقوم في البداية بفرز الأرشيف كمية بكمية، وبعد التمحيص فيها من قبل لجنة القراءة نقوم بصبّها في الأرشيف الموجّه للاستغلال.
- أحيانا تصدر خلافات بين مجاهدين حول أحداث ووقائع ثورية، هل ترون في ذلك نعمة أم نقمة على كتابة التاريخ؟
هذا أمر طبيعي، فكل شيء في الحياة فيه إيجابيات وسلبيات ونقائص، بما فيها الثورة التحريرية، ولكن إيجابيات الثورة أكثر من سلبياتها، وما أمقته فيما يحدث هو أن بعض الناس منذ الاستقلال يهتمون بجزئيات ومسائل خلافية، حول من قتل هذا؟ ومن عنّف هذا؟ ونسوا بذلك التاريخ الحقيقي وأهم ما في الثورة الجزائرية العظيمة..
-ما هي الرسالة التي تقدّمونها لنشر ثقافة الثورة التحريرية؟
أريد في هذا المقام أن أنطلق من مقولة الشهيد ديدوش مراد عندما طُوّق مع أقلية من المجاهدين وأشاروا إليه بمحاولة الانفلات من التطويق، فرد بقوله: "لن نفعل ذلك؛ لأن التاريخ سيكتب علينا أننا كنا من الفارين"، وأضاف قبل أن يستشهد: "إذا استشهدنا فدافعوا عن ذاكرتنا".
ذاكرتنا اليوم وذاكرة الشهداء وذاكرة كل الجزائريين مستهدَفة؛ هناك من يعمل ليل نهار من أجل أن نقطع الصلة بيننا وبين هذه الثورة المجيدة؛ وكأن ديغول هو الذي أعطانا الاستقلال والحرية، فلا بد أن نبقى أوفياء لما قاله أمثال ديدوش مراد.. والذاكرة ترمز لكل شيء؛ فهي ترمز إلى التاريخ وإلى المعارك والكمائن والويلات التي ذاقها الجزائريون، فينبغي أن ندافع عنها بالعمل على تبليغ رسالة الشهداء بمبادئها وقيمها، وبالعمل على جمع ما أمكن من الوثائق والأشياء المتحفية وتسجيل الشهادات الحية بالحفاظ على أرشيف الثورة المادي والمعنوي، والعمل على تجسيد هذه البطولات في شكل أفلام وأوبرات، وإقامة منابر وتنظيم ملتقيات وورشات وغير ذلك.. حتى يبقى هذا التاريخ منبعا للأجيال تستقي منه ما يحصّنها أمام كل الويلات التي قد تأتي لا ندري من أي جهة..