"ضغوط باريسية" للتشويش على زيارة "اللحظة القوية"
بيان الخارجية الفرنسية: خطأ في العنوان
- 619
حذرت الخارجية الفرنسية رعاياها من السفر إلى الجزائر وخصوصا التوجه إلى المناطق الجنوبية والشرقية من البلاد (إلا لأسباب اضطرارية)، تفاديا لأعمال إرهابية محتملة. من حق أي بلد حماية مواطنيه أو إشعارهم مسبقا بخطر محدق ولو من باب تبرئة الذمة وليس من باب الواجب فحسب أو تحمل تبعات التعويضات المالية (التأمين) لاحقا في حالة عدم التبليغ كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية أو في بلدان أخرى. هذا يعنى بتعليق ساخر أن فرنسا "الآمنة جدا" كما نعلم تنصح مواطنيها بعدم التوجه إلى الجزائر بسبب الخوف من وقوع أعمال إرهابية. والمؤكد أن "نيس" لا تقع في الجزائر. والشاحنة البيضاء لم تدهس 84 ضحية في شارع ديدوش مراد بالعاصمة الجزائرية ليلة الاحتفالات بـ 5 جويلية. وإنما في مدينة "نيس" الفرنسية ليلة الاحتفالات بـ 14 جويلية ؟!. لذلك نكتفي بالقول أن بيان الخارجية الفرنسية أخطأ في العنوان.
تحذير الخارجية الفرنسية (الذي أكرر يمكن اعتباره حقا مشروعا) يثير الاهتمام والسؤال: هل تملك فرنسا معلومات مؤكدة عن مخاطر إرهابية وشيكة تتهدد الجزائر؟. وإذا كان كذلك، هل تم تبادل معلومات استخباراتية محددة مع أجهزتنا الأمنية في إطار التنسيق الدولي لمكافحة الإرهاب وفي إطار التعاون الأمني بين البلدين؟. المفروض أن يكون الجواب نعم. بل لا بد من توفر هذا التنسيق الأمني الذي تستلزمه ظاهرة داعشية عابرة للقارات ألغت كل الحدود والأعراف، الإرهاب لا لون أو جنس أو عقيدة له. لكن صياغة بيان الخارجية الفرنسية والطابع "الإشهاري" الذي ميز أسلوب التحذير هو الذي يبعث على الاستغراب!؟. كنا نتمنى لو استشعرت فرنسا هذه المخاطر الإرهابية التي تكررت منذ العام الماضي في 13 اعتداء إرهابي داخل فرنسا. وجنبت الفرنسيين والأجانب الذين كانوا في باريس أو في مدن فرنسية أخرى تلك الاعتداءات والمجازر الإرهابية. وكنا نتمنى لو حذرت فرنسا (البلد الآمن جدا) مسبقا مواطنيها ورعايانا الجزائريين الذين سقطوا في "نيس" مادامت مصالحها وأجهزتها الأمنية "متمكنة جدا" وتملك معلومات دقيقة عن مخاطر واعتداءات إرهابية وشيكة في الجزائر!؟ أي خارج حدودها.
فرنسا تبحث عن تخفيف صدمة "نيس"
المحللون السياسيون يؤكدون بأن فرنسا تحتاج إلى "مشجب" تعلق عليه فشل أجهزتها الأمنية ومخابراتها (هذه حقيقة ثابتة تؤكدها اعترافات مسؤولين فرنسيين أنفسهم سواء كانوا من السياسيين أو حتى أمنيين). وكالمعتاد، ليس أفضل من الجزائر لتكون مشجبا تعلق عليه تلك الإخفاقات. الجزائر كانت دائما أرضا لمعاركهم الانتخابية ومسرحا لتجاذباتهم السياسية، وحتى أرضا لما لا يستطيعون قوله في مكان آخر، فهم استعمرونا بل سببوا لنا 132 سنة من التخلف والتجهيل والنهب حتى وإن سقطت كل أحلامهم وأطماعهم ذات ليلة من عام 1954 ... وبقية التفاصيل رضعناها أبا عن جد كحليب الأطفال في تاريخنا وبطولات شهدائنا وأبطالنا. وهذا حديث آخر ليس مجاله اليوم.
الموضوع اليوم هو بيان الخارجية الفرنسية. لا أحد فهم "الخرجة" الفرنسية الرسمية ؟!. أقول الرسمية لأن خارج المواقف الرسمية المستفزة والتي تكاثرت منذ أشهر وباستثناء المواقف العنصرية والمتشنجة لليمين المتطرف، فإن فرنسا العميقة هادية في سلوكاتها ومواقفها تجاه الجزائريين وغير الجزائريين. لا بد أن يكون ثمة سبب حرك الرسميين الفرنسيين ودفع خارجيتهم إلى استصدار بيان بمثل هذا "التخويف" وإفزاع الجزائريين على هذا النحو.
تشويش على زيارة بلينكن؟
صدور البيان تزامن مع زيارة كاتب الدولة الأمريكي أنتوني بلينكن (زيارة استمرت لثلاثة أيام) والذي جاء ليؤكد للمسؤولين الجزائريين عزم بلاده الولايات المتحدة الأمريكية عن إعطاء دفع أكبر للعلاقات الثنائية وتطويرها في مختلف المجالات والقطاعات: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية.
بلينكن كما هو معلوم صرح عقب استقباله من طرف وزير الخارجية الجزائري وقبل ذلك من طرف الوزير الأول أن الحوار الاستراتيجي بين الجزائر وواشنطن "لحظة قوية". حوار كما أضاف يتعزز ويتوسع وبدأ يعكس توافقا كبيرا في المواقف ووجهات النظر. وانتهى إلى القول بأن البلدان يسيران نحو شراكة مميزة وقوية ستشمل كل المجالات.
هذه الرغبة المشتركة بين البلدين بالتأكيد أنها لن تبقي الذين لم يفصلوا بعد بين مصالح الدول وتطور العلاقات التي تخضع إلى منطق المصالح المشتركة من جهة و«عقدة التاريخ" على أن الجزائر ليست أكثر من "محمية" أو حتى ولاية خارج الحدود؟!. هذا للأسف شعور لم يمح من أذهان صديقنا الأوروبي.
هل يمكن اليوم القول أن فرنسا بلد آمن؟
ما سبق الشق السياسي للبيان. نعود لنطرح السؤال الأهم: هل فرنسا بلد آمن حتى تنصح رعاياها بعدم التوجه إلى الجزائر؟. للإجابة على هذا السؤال أو بالأحرى للمقاربة، لابد أن نعود إلى مجزرة "الشاحنة البيضاء". كيف تمكن "ذئب منفرد" أن يرتكب ما ارتكبه دون أن تتفطن المصالح الأمنية (التي كانت في حالة طوارئ) أوتستشعر الجريمة مسبقا، وهي التي تعطينا تنبيهات اليوم بالاحتراز من وقوع هجومات إرهابية على بلادنا ؟!. هل نكتفي بتعليق بليغ وعلى غاية من المرارة والانتقاد اللاذع جاء على الفايسبوك كتب صاحبه: "أعذرونا لقد كان رجال الأمن يشربون القهوة ويحتفلون بـ 14 جويلية!!".
العودة إلى "نيس": قررت السلطات الفرنسية عقب مجزرة "نيس" تمديد حالة الطوارئ إلى غاية 2017. وكان من المقرر أن يتم رفعها في 26 جويلية الجاري. قرار التمديد جاء تبعا لاجتماع "أمني" (تبعته أربعة اجتماعات أمنية أخرى) ترأسها الرئيس الفرنسي هولاند لدراسة تداعيات عدوان "الشاحنة البيضاء" ليلة الاحتفال بـ14 جويلية (عيد الجمهورية) بمدينة "نيس". العدوان للتذكير خلف وكما هو معلوم 84 ضحية من مختلف الجنسيات بمن فيهم جزائريون. هي الجريمة التي هزت العالم بأسره الذي سارع إلى إدانتها والتنديد بها، تماما كما تضمنته رسالة التعزية التي بعث بها الرئيس بوتفليقة إلى نظيره الفرنسي.
إذا كان الإجماع حاصل بشأن إدانة الجريمة دوليا دون تردد أو تحفظ فإن "الغموض" أو على الأقل التساؤلات تظل مطروحة فيما يخص التوقيت والمكان والظروف المحيطة. وربما حتى الجهات المدبرة والمنفذة (رغم تبني تنظيم داعش للعملية متأخرا). في الظاهر، العملية الإرهابية التي نفذها محمد لحويج بوهلال
(31 سنة) مواطن فرنسي الإقامة والمنشأ والتكوين ولو كان من أصول تونسية تصنف فيما يعرف بعملية "الذئاب المنفردة". هي تعني في التصنيفات الأمنية أفرادا أو مجموعات إرهابية محدودة العدد تقوم بجرائمها بشكل منفرد ومعزول. أي تتحرك في عمليات متقطعة، أفرادها يستدرجون ويكلفون بعمليات فردية لا تخضع لمنطق الأمير والتحرك في مجموعة، حتى إذا ألقي القبض على هذا "الذئب" لا تتمكن مصالح الأمن من التعرف على بقية المجموعة بسهولة أومباشرة لإلقاء القبض عليها أو تفكيكها. كما أن التحرك فرديا من الناحية الأمنية لا يجلب الاهتمام أوالأنظار والانتباه. وتعرف أمنيا أيضا بالتخفي أوالتمويه.
أقول إن التساؤلات تطرح كيف تمكّن "ذئب إرهابي" من التسلل في ليلة يفترض أن تكون كل الاحتياطات الأمنية قد اتخذت بحزم. تماما كما أن المصالح الأمنية من المفترض أن تكون على درجة عالية من اليقظة في تلك الليلة؟!. لكن بوهلال تمكن من القيام بجريمة دهس جماعي ومجزرة على المباشر لما كان الفرنسيون يحتفلون بعيدهم؟!. كيف لشاحنة مجنونة أن تسير مسافة 2 كلم دون أن يوقفها أحد في طريق أغلقت من المعلوم على حركة المرور (ولو أن مصالح الأمن الفرنسية خفضت من باب تخفيف الصدمة والفضيحة وعدم خدش كرامة مصالحها الأمنية تلك المسافة لتقول إن المسافة التي قطعتها الشاحنة ليست أكثر من 300 م. وكأن 300 م مسافة هينة من الناحية الأمنية!؟). "الذئب الإرهابي" سار في شارع يفترض أن يكون مؤمنا 100 في المائة في ليلة تحتفل فيها فرنسا الرسمية والشعبية. ومن ثمة فإن كل حركة مشبوهة أو "مثيرة للشبهات" يفترض أن تثير الانتباه أو حتى الفضول والنظر وعلى الخصوص يقظة واهتمام مصالح الأمن الفرنسية التي كانت في تلك الليلة متواجدة بقوة كبيرة وغير مسبوقة في "نزهة الأنجليز"؟!. إذ لا ننسى أن فرنسا تعيش حالة طوارئ ناجمة عن مجازر العام الماضي كما سلف الذكر، سواء الاعتداء على الأسبوعية الساخرة "شارلي إيبدو" أواعتداءات وتفجيرات باتكلان وملعب باريس في 13 نوفمبر الماضي. وبلغت الاعتداءات 13 اعتداء منذ نوفمبر الماضي.
أسئلة جدية عن .. فضيحة "نيس"
يفترض أن تكون مصالحها في تأهب دائم ومتواصل لاسيما بعد التهديدات الجدية التي تلقتها السلطات الفرنسية من قبل تنظيم الدولة الاسلامية "داعش" أو حتى بلدان أخرى مجاورة لفرنسا منذ أشهر. وزادت جديتها قبل انطلاق قمة المناخ العام الماضي وكذا عشية انطلاق البطولة الأوروبية.
سؤال يطرحه خبراء الأمن بجدية واستغراب: كيف انخفضت درجة التأهب بهذه السرعة وبهذه الهشاشة ؟!. مجزرة "نيس" وحتى غالبية الاعتداءات والتفجيرات التي هزت فرنسا العام الماضي نكاد نقول إنها حدثت بطريقة تثير الاستغراب وحتى الضحك؟!. نكاد نقول "بسهولة" لا يمكن حدوثها حتى في بلدان غير "استخبراتية" وغير مستقرة وغير آمنة.. هذه حقيقة صادمة؟!. الإعلام والأحزاب والشارع الفرنسي نفسه في حيرة من أمره !. يتساءلون: هل يمكن اعتبار فرنسا بلدا آمنا بعد الذي حصل!؟. ثم من يقتل من؟!. لم تمض سوى أيام معدودات عن نهاية البطولة الأوروبية أوكأس أوروبا لكرة القدم. هذا يعني أن مخطط تأمين "الأورو" لم يرفع بشكل نهائي. في العرف الأمني يستمر المخطط في مناسبة أو استحقاق دولي بهذا الحجم يفترض أن يستمر أسابيع أطول. خاصة أن نهاية بطولة كأس أوروبا تزامنت مع انطلاق احتفالات عيد الجمهورية.
«فضيحة نيس" تطرح أسئلة جدية. أول الأسئلة يتعلق بالهشاشة الأمنية في فرنسا حتى لا أقول شيئا آخر بشأن المصالح نفسها. وهو أمر محير ومخيف طرحته المعارضة وأطراف في السلطة نفسها التي باتت تدعو إلى إصلاحات جذرية للمنظومة الأمنية ومختلف أسلاكها. فقبل "فضيحة نيس" كانت الهجومات الإرهابية على ستاد دو فرانس (لقاء فرنسا وألمانيا) حيث تسلل إرهابيون إلى مداخل الملعب والتفاصيل معروفة في أمسية تفجيرات متزامنة ومجازر بأماكن مختلفة و«مصالح الأمن" لم تتفطن "ولم تتحرك إلا بعد وقوع الفأس على الرأس؟.
في التسعينات طرحوا أسئلة "خبيثة"
نعم من يقتل من في فرنسا؟! . سؤال تردد في التسعينات حول ما كانت تشهده الجزائر من اغتيالات ومجازر جماعية... ولأننا في الجزائر ملتزمون بحقوق التأليف والإخراج، فإن هذا المصطلح أوالشعار المغرض هو "علامة فرنسية بامتياز". فرنسا هي صاحبة المصطلح والتأليف والإخراج "من يقتل من؟ في الجزائر". لذلك نحن نعيد اليوم طرح نفس السؤال: "من يقتل من في فرنسا"؟. السلطات الفرنسية شككت في مجازر بن طلحة والرايس والرمكة... كان إعلامهم وفضائياتهم ومسؤوليهم "متواطئين، ينسجون التلفيق" ويزرعون التشكيك في كل ما كان يحدث.. آخر مسرحياتهم "رهبان تبحيرين".
لا نقول إنهم باتوا يحصدون ما كانوا يزرعون ولكن نقول إنهم أخطأوا التقدير وأساؤوا استشراف وفهم ظاهرة الإرهاب مبكرا. الإرهاب كالنار إذا لم يجد ما يأكله يأكل نفسه ومن أشعله.
استغرب الفرنسيون "بخبث" كيف تحدث مجزرة في بن طلحة وعند مدخل الحي المذكور توجد ثكنة عسكرية؟!. ماذا لو يعيد الفرنسيون (أقصد أولئك الذين كانوا يعطون الغطاء السياسي والإعلامي والأمني لجرائم الإرهاب في الجزائر في التسعينات) يعيدون طرح السؤال ومن حقنا المشروع كما كانوا يفعلون: كيف يمكن لـ"ذئب إرهابي منفرد" أن يدهس 84 ضحية في شارع رئيسي بـ"نيس" يحتضن احتفالات فرنسية رسمية تتواجد فيه كل الأسلاك الأمنية؟!. وكيف يتمكن كوليبالي وجماعته من ارتكاب هجومات إرهابية على ملعب لكرة القدم في قلب باريس يحتضن مقابلة يحضرها الرئيس هولاند وكل الشخصيات والأوزان المدعوة، يفترض أن يحظى الملعب بتغطية أمنية دون اختلال؟!. نحن لا نعيد أو نجتر ما كانوا يرددون لحسابات لم يتوقعوا نتائجها وانعكاساتها لاحقا من يقتل من هذه المرة؟. ولكن نقول إنهم تأخروا كثيرا في فهم ظاهرة الإرهاب والتطرف. لقد كانوا يلعبون بالنار، بل أتعبونا كثيرا بتواطؤ اتهم ودسائسهم وتمويلهم وتغطيتهم للأعمال الإرهابية والإجرامية واحتضانهم لغلاة المتطرفين والمدبرين وحتى المنفذين لمجازر بن طلحة والرمكة وسعيدة ومعسكر وبلعباس ومقطع عايشة والزبربر وجيجل والبابور وعين الدفلى... كل المجازر التي حدثت في الجزائر كانت من تخطيطهم وتدبيرهم وتمويلهم هم أو أمثالهم وأتباعهم. لقد كانت الجزائر أكثر وعيا بظاهرة الإرهاب وفهمها لأخطبوطها حين كانوا كالصراصير يتلذذون.
ضغوط من أجل صفقات إضافية
لذلك نقول إن بيان الخارجية الفرنسي الذي ينصح مواطنيه بعدم التوجه إلى الجزائر تفاديا لمخاطر إرهابية هو عودة إلى أسلوب قديم ومبتذل. هو شكل من الابتزاز والضغوط غير المباشرة على الجزائر من أجل صفقات إضافية تملأ خزائن صديق لم يستطع أن يتقبل أن تخرج الجزائر من دائرة "الحماية" والوصاية التي أثقلتنا طويلا وعطلت نمونا الاقتصادي بشكل متنوع وأكثر انفتاحا على مختلف الشركاء.