الحاج محمد الطاهر الفرقاني

... عندما تُغَنِّي الصحراء في قسنطينة على هوى إشبيلية

... عندما تُغَنِّي الصحراء في قسنطينة على هوى إشبيلية
  • 1813
الأستاذ فوزي سعد الله الأستاذ فوزي سعد الله

«من بين جميع كبار فناني المالوف القسنطيني، لمع محمد الطاهر الفرقاني بشكل لم يعهده غيره من قبل في قسنطينة وأصبح مدرسة قائمة بذاتها يقلده عدد كبير من الأجيال الجديدة ويسير على نهجه. بل أهم ما تمكن محمد الطاهر من إنجازه هو إخراج المالوف القسنطيني من الحدود الضيقة للمدينة العتيقة وجَعْله يتجاوز أسوار قسنطينة ليشيع ليس في المدن والقرى المجاورة فحسب، بل في جميع أنحاء الجزائر، ليتحول إلى تراث موسيقي ذي بُعد وطني.

تَوفَّرَتْ لمحمد الطاهر الفرقاني عدة ميزات جعلته يصبح النجم الأول لهذا النوع الموسيقي الحضري العربي الأندلسي الجذور،  وأفضل ممثل له عبْر كامل الجزائر. فهو نجل الفنان الكبير الحاج حمو الفرقاني، أو بالأحرى الرَّقَّاني لانحداره من واحة رَقَّانْ في الصحراء الجزائرية، الذي أحسن تكوينه وتعليمه الموسيقي منذ نعومة أظافره، بدءا بالموسيقى الصوفية في «حضرات» الطريقة الحنصالية إلى الحفلات الدينية في المساجد وأضرحة أولياء المدينة وأبروز رموزها الصُّوفيِّين. وعندما يكون الوالد هو الحاج حمُّو والعائلة هي عائلة الفرقاني التي كانت منخرطة أبًا عن جدّ في النشاط الموسيقي القسنطيني الحضري الديني والدنيوي، فلا بد أن يكون الوسط الذي ينشأ فيه الابن محمد الطاهر وسطا فنيا بامتياز يُوفِّر فرصةَ الاحتكاك بكبار رموز هذا الزخم الفني، بمنْ فيهم الشيخ سيد أحمد البستانجي والشيخ الكرد والطاهر بن كرطوسة وبابا عبيد قارة باغلي وعبد الحميد بن البجاوي وريموند ليريس وسِيلْفان غْرِيناسية وغيرهم.

هذه هي الأجواء التي وُلد فيها محمد الطاهر الفرقاني في 9 ماي/إيار من العام 1928م وفيها نشأ وتشبع بالموسيقى الحضرية القسنطينية التي كانت تعيش نهضة غير مسبوقة،  وسط غليان سياسي وثقافي تُحرِّكُ دواليبَه الحركةُ الوطنية الجزائرية التي كانت شديدة الانشغال بالهوية الثقافية للبلاد. وليس صدفة أن تنخرط شخصية بمنزلة الشيخ عبد الحميد بن باديس، رئيس جمعية العلماء المسلمين، في تنشيط جمعيات ممارسة وتعليم موسيقى المالوف في مدينة قسنطينة منذ بداية سنوات 1930م والتشجيع على تأسيسها. 

بدأ محمد الطاهر خطواته الأولى في عالم الموسيقى في الوسط العائلي، لكنه صبَّ في البداية جُلَّ اهتمامه على تَعَلُّمِ حرفة الطرز على الطريقة القسنطينية التي تُعتبر فنا رفيعا يُعرف محليا بالـ«مَجْبُودْ»، وتَحوَّل إلى اختصاص نبغتْ فيه أسرةُ الفرقاني حتى أصبحتْ هذه الصناعة التقليدية تُعرف باسم عائلة الفرقاني.

في بداياته الفنية، وهو في الثانية عشرة من العمر، كان محمد الطاهر يعزف على نوع من الناي يُعرف في الجزائر بـ: «الفْحَلْ» في جوق محلي كان يُشرف عليه فنان يدعى عمر بن مالك، ثم بدأ يغني لأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب بأسلوب متميز كشف مبكرا عن قدرات صوتية كبيرة لم تكن متوفرة للكثير من فناني جيله، من خلال السينما التي فتحت أعين الجزائريين على ثراء الثقافة الموسيقية المصرية والمشرقية العربية بشكل عام، حتى أصبحت موضة يُقتدى بها في جميع ربوع الوطن. 

وبرزت هذه النزعة الموسيقية المصرية لدى الفرقاني أساسا في الفترة التي انخرط فيها في جمعية «طلوع الفجر» الموسيقية القسنطينية، حيث كان من بين الذين تعرف عليهم بداخلها وأفادوه في المستقبل محمد دَرْدور مسؤول الجمعية ومؤسسها. 

وبلغ هُيام محمد الطاهر الفرقاني بالموسيقى المشرقية مستوى جعله ينخرط في الجوق العصري الذي كان يشرف عليه الفنان الموسيقار الجزائري الكبير عَمْرَاوِي مِيسُومْ كأحد المغنين المتخصصين ضمن هذه الأوركسترا في الغناء الشرقي لمدة عام تقريبا، شارك خلاله في العديد من الجولات الفنية للفرقة. واضطر الفنان الشاب خلال هذه الحقبة من مشواره إلى الإقامة في مدينة الجزائر.

وعندما جرَّب محمد الطاهر الفرقاني غناء الحوزي العربي الأندلسي الجذور، كان حينها قد تخلى عن حرفة الطرز، سرعان ما نصحه الفنان المتخصص في الزجل الشيخ حسُّونة علي خوجة، الذي كان صديقَ والده بابا حَمُّو، بالتخصص في موسيقى المالوف.

استهوت الفكرة الفتى محمد الطاهر الذي لم يكن غريبا عن المالوف ولا المالوف كان غريبا عنه، بِحُكْمِ تَشَبُّعِ العائلة بأكملها بهذا الفن العريق أبا عن جدّ، إذ بالإضافة عن تعلمه المالوف عن والده بابا حمو استفاد كثيرا أيضا من خبرة شقيقه عازف العود المعروف الزّْوَاوِي الفرقاني (1913م – 1995م). وابتدأ منذ هذه الفترة مشوارا طويلا وثريا سيكون الأكثر نجاحا في الوسط الفني القسنطيني خلال النصف الثاني من القرن 20م. 

في عام 1951م، شارك بأغنية من نوع المالوف في مسابقة فنية في مدينة عنابة ولمع خلالها بشكل فائق، إذ حصل على الجائزة الأولى. كان حينها في بداية عشرينياته، وشعر الذين تابعوا أداءه من خبراء المالوف أن مستقبلا واعدا كان ينتظره في هذا النوع الموسيقي. ولم يخطِأوا في توقعاتهم، لأن شهرة الطّاهر الفرقاني فاقت لاحقا شهرة والده بابا حمو وغيره من كبار فناني المالوف في قسنطينة وعنابة. 

ومن بين الذين فهموا مبكرا أن للفرقاني مستقبل زاهر في مجال المالوف، محمد دَرْدُورْ الذي سارع إلى إقناعه بالتعاقد معه لتأسيس شركة لإنتاج الأسطوانات سيكون محمد الطاهر أول نجومها الفنيين. وتم التعاقد عام 1951م وأُطلِق على هذه الشركة التي التقت فيها موهبة محمد الطاهر بالثقافة الكبيرة والمال والحسّ التنظيمي والعلاقات التي كان يتمتع بها دردور، اسم «ديريفونّ» نسبة إلى دَرْدُورْ. أما أول إنتاج للشركة فهو تسجيل أغنية «حْبِيبَكْ لاَ تَنْسَاهْ» بصوت محمد الطاهر، وقد كانت أوَّلَ تسجيلٍ صوتي لهذا الفنان الواعد.

في «ديروفون» التي حققت نجاحا فائقا بفضل العمل الدؤوب الذي قام به الشريكان دردور ومحمد الطاهر، تم تسجيل أبرز أعمال الفنان الصاعد خلال المرحلة الأولى من مشواره الفني. وبعد مرور أكثر من نصف قرن على هذه التجربة الكبيرة، قال محمد الطاهر متحدثا عن وتيرة العمل القوية التي طَبعت نشاطَه بهذه المؤسسة: «خلال يومين فقط، سجلت 10 أسطوانات من 45 دورة وأسطوانتين من 33 دورة».

أكدت هذه التجربة موهبة محمد الطاهر الفرقاني وجلبت له الاعتراف محليا وحتى خارج حدود قسنطينة، ليصبح أحد نجوم المالوف الكبار في فترة كان يهيمن فيها على هذا الفن في قسنطينة مجموعة من المغنين من الوزن الثقيل، من بينهم بابا حمو وبن البجاوي والطاهر وبن كرطوسة وبابا عبيد وريموند ليريس وغيرهم.

وفتح هذا الاعتراف لمحمد الطاهر خلال السنوات اللاحقة، سنوات 1950م، أبواب جوق من أهم الأوركسترات القسنطينية، كان من بين عناصره شقيقه الزواوي الفرقاني ومعمر بن الراشي وقدور الدرسوني وبابا عبيد قارة باغلي.

لكن هذه السنوات السعيدة التي طبعت بدايات نجل بابا حمو لم تدم طويلا، لأن أحداث الثورة التحريرية أدت إلى تقليص أو حتى تجميد النشاطات الفنية عبر كل الجزائر تقريبا. ولم يشذ الفرقاني عن هذه القاعدة، مما اضطره إلى التوجه من جديد إلى حرفة الطرز طيلة سنوات الثورة التحريرية كمورد أساسي للرزق.

عند استقلال الجزائر عام 1962م، شهد محمد الطاهر الفرقاني انطلاقة جديدة أهم وأقوى من سابقتها، ليصبح النجم الأول لموسيقى المالوف بمختلف الأنواع المتفرعة عنها إلى اليوم، بما فيها المحجوز والحوزي والعْروبي والزّنْداني...إلخ. ولم يتردد في الاستعارة من الأساليب الغنائية الأندلسية الأخرى السائدة في مدينتيْ الجزائر وتلمسان، بالتالي في إدخال أغاني حوزية أو عْروبية في المالوف، مثلما فعل بأداء لامع لأغنية «عَنْدْ لاَلَّة سَهْرَانِينْ» الشهيرة لبومدين بن سهلة التلمساني، مما سيقربه أيضا من عشاق الموسيقى الحضرية التلمسانية ونظيرتها الخاصة بمدينة الجزائر. 

وأكد الفرقاني مكانته في مختلف التظاهرات الموسيقية في الجزائر وخارجها؛ من مهرجانات الموسيقى الأندلسية، بدءا بالمهرجان الأول الذي نُظم في مدينة الجزائر بين نهاية ديسمبر/ كانون الأول عام 1967م وبداية يناير/كانون الثاني  سنة 1968م، إلى الأسابيع الثقافية في البلدان العربية وفي أوروبا الغربية ودول الكتلة الاشتراكية.

كما سجل الفرقاني خلال هذه المرحلة كمّا هائلا من الأسطوانات في شركته الخاصة التي أطلق عليها «صوت المنيار»، ليصبح من القلة القليلة من الفنانين الجزائريين الذين أمسكوا بمصيرهم ولم يتركوه في أيدي الأخرين، كمحبوب باتي في مدينة الجزائر، وإن كان هذا الأخير قد اكتفى بتأليف الأغاني وتلحينها وإنتاج الأسطوانات.

وهكذا أصبح الفرقاني فنانا ومنتجا ورجل أعمال ينظم نشاطه الفني ويتفاوض على العقود، وينتج ويوزع اسطوانات شركته الجديدة «صوت المنيار» ويحيي الحفلات للإذاعة والتلفزيون الجزائري...إلخ.

من بين ما حققه محمد الطاهر الفرقاني خلال مسيرته؛ إخراج المالوف من حدوده المحلية الضيقة، ليعطيه بعدا وطنيا ويوسع قاعدته الشعبية بشكل غير مسبوق في الجزائر.

خلال هذه المرحلة الجديدة والمزدهرة من مشواره الفني، لم يكتف محمد الطاهر بالغناء والتسجيل وتمثيل الموسيقى المالوف وحصد الجوائز في المهرجانات الجزائرية والعربية والدولية، بل تجاوزها إلى الإبداع وضخ حيوية جديدة في هذا الفن العريق.

فقام باستعارة عناصر موسيقية من أنواع عربية وغربية ليحقن بها الموسيقى القسنطينية ويبث فيها لمسة جمالية سح...... عشاق المالوف في كل أنحاء الجزائر.

وهكذا، فإن المالوف في نسخته الفَرْقانية أصبح يتضمن جماليات ومواويل مستوحاة من الغناء المشرقي، مثلما هو حال تسجيل شهيرٍ يعود إلى عقود كاملة لأغنية «بالله يا حمامي»، ولمسات من موسيقى الفلامنكو الإسبانية، خصوصا في الافتتاحيات الغنائية الخالية من الإيقاع والتي تُسمى في الغناء العربي الأندلسي الجزائري «الاستخبارات». وهذا، بغض النظر عن «البَشْرَافَاتْ والسَّمَاعِيَّاتْ المَشْرِقِيَّة»، على حد تعبير نجله الفنان سليم الفرقاني.

كما استلهم محمد الطاهر الفرقاني بعض عناصر فنه من المالوف التونسي ومقاماته الموسيقية التي وإن كانت أندلسية هي الأخرى، إلا أنها تحمل في بعض جوانبها لمسة تونسية محلية بحتة. وتعد أغنية «منْ فْرَاقْ غْزَالِي وَالعَيْنْ الكَحْلَة..الَنَّوْمْ مَا يَحْلاَ لِي...» إحدى أبرز الاستعارات من المالوف التونسي. 

ويقول محمد الطاهر ذاته عن نفسه: لقد «مَزجْتُ المقامات المشرقية بالمقامات القسنطينية فأعطيتُ للمالوف رونَقه».

في خريف عمره، سجل الحاج محمد الطاهر الفرقاني إلى جانب عبد المؤمن بن طوبال، النوبات العشر التي تُشكل كل ما تبقى من تراث المالوف الأندلسي الإشبيلي في الجزائر «ليبقى للأجيال»، على حد تعبيره، داعيا في الوقت ذاته إلى «تدوينه بالسولفيج».

الفرقاني اليوم يبلغ من العمر ثلاثة وثمانين عاما، ولم ينجح ثقلُ السِّنين وعبء الشيخوخة بعد في إسكات صوته الذي ما زال يصدح منذ نحو 62 عاما، ولا في إحالته على التقاعد، بل ما زال يُحيي الشيخ من حين لآخر السهرات والحفلات ولو بشكل محدود، مرفوقا خصوصا بنجله سليم الفرقاني الذي برع أكثر من غيره من أبنائه في المالوف والموسيقى الحضرية القسنطينية بشكل عام، والذي قال فيه الشيخ عبد القادر التومي سيّاف إنه «فنان بأتم معنى الكلمة...».

محمد الطاهر الفرقاني فارق الحياة قبل يومين في فرنسا، بعد أن أُجريت له عدة عمليات جراحية، رحمه الله.