الأمثال والحكم الشعبية
ثروة أجداد آيلة للزوال
- 2615
كانت ولا تزال الأمثال والحكم الشعبية تشكل حلقة مهمة في يوميات الأشخاص الذين يستعملونها في مواقع ومواضع مختلفة للتعبير عن حالة أو أمر معين، وغالبا ما تكون حاضرة وبقوة، خاصة عند بداية خطوة هامة في الحياة، على غرار دخول القفص الذهبي أو عند عقد شراكة أو اختبار صديق، وأهم ما يميز الأمثال الشعبية؛ قوة تأثيرها على النفوس سواء بالنسبة لقائلها أو متلقيها، ولأنها عنصر فعال في العرف الاجتماعي، تتوارثها الأجيال وتوظف في الفعل التربوي، حيث يحملها الأبناء على لسان الآباء بكل صدق، وهو ما يفسر استمرارها وعيشها في القاموس الشعبي بكل كرامة. التكنولوجيا الحديثة، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، حملت هذا الإرث في جوهرها بسبب حرص الشباب أيضا على حفظه، لكن بطريقة خاصة، إذ بات يوظفها في تعليقاته ومنشوراته على الكثير من الأشياء باعتبارها سندا قويا يفي بالغرض، مكيفا إياها وفق يومياته وما تفرضه الحياة العصرية. "المساء" حاولت من خلال هذا الملف أن تظهر أهمية الأمثال والحكم في يوميات المواطنين ومدى حرصهم على المحافظة عليها، خاصة من قبل الكبار، كما نقلت لكم أراء المختصين فيها والخطر الذي يهددها وطرق المحافظة عليها من قبل أشخاص جابوا ربوع الوطن لجمع الكبيرة والصغيرة منها.
بشير صحراوي كاتب و شاعر مختص في علم الآثار: حرصي على الأمثال والحكم دفعني إلى جمعها في ديوان
يعتقد بشير صحراوي، كاتب وشاعر مختص في علم الآثار، أن تاريخ الأمثال والحكم يعود إلى فن الرواية التي لها جذور ضاربة في عمق التاريخ وجدت ما قبل المسيح عند الأمازيغ، وقال لدى نزوله ضيفا على جريدة "المساء"؛ "إن الأمازيغ كانت لديهم ثقافة واسعة، وقد اشتهروا بفن الحكواتي الذي يعتبر من أعظم الروايات في تاريخ الأمازيغيات، مشيرا إلى أن التركيز على النساء دون الرجال مقصود، لأن التاريخ يعطي صورا عن نسوة اشتهرن بالرواية، ومنهن الملكة "تينهينان" التي كانت كاتبة وشاعرة وفنانة تعزف على بعض الآلات، وكانت راوية ورواياتها معبأة بالأمثال والحكم.
لم تكن تخلو بيوت سكان الأمازيغ في الشمال من الروايات، حيث كانت تتقمص دور الراوية إما الجدة أو الأم أو الخالة أو العمة. وأشار الشاعر بشير إلى سيدتين لم ينلن حظا من التاريخ رغم دورهما في نشر الرواية، وهي السيدة "تسعديت" والسيدة "زهور"، هذه الأخيرة كانت متواجدة بالقصبة من أصول أمازيغية ولعبت دورا بارزا في نشر الثقافة عن طريق فن الرواية الذي كان متشبعا بالأمثال والحكم والأقوال"، مشيرا إلى أن الفضل في انتشار فن الرواية هو تداولها من طرف الحكواتي في مختلف الأماكن التي كان عادة يتجمع فيها الأفراد، كالمقاهي والأسواق الشعبية، وما يجهله البعض عند الحديث عن ثقافة الشعوب، حسب الباحث بشير، أن الجزائريين فيما مضى لم يكنوا من العامة بل كان أغلبهم من النخبة، وكان رصيدهم العلمي والثقافي منتشرا كثيرا في شكل رواية ولم يكن منحصرا في المدن فحسب، بل كان منتشرا في القرى والمداشر وكان أشراف الأمازيغ يحرصون على نقل الرواية إلى أبنائهم منذ الصغر، حتى لا يضيع هذا الموروث الذي لعب دورا كبيرا في تربية وتهذيب الأجيال بالنظر إلى ما كان يحويه من أمثال وحكم مستمدة من تجارب الحياة.
حرص الشاعر صحراوي على حفظ الموروث من الضياع، لاسيما أن الأمثال والحكم لم يعد يجري تداولها اليوم ولم تعد تستعمل لأغراض التربية، مما دفعه إلى التفكير في جمعها، وقال؛ "نحن كمجتمع أمازيغي مطالبون باحترام هذا الموروث المعنوي الضارب في عمق التاريخ، الذي كان له فضل في انتعاش الحركة الثقافية في المجتمع الأمازيغي. وعني شخصيا، شرعت في الآونة الأخيرة في التحضير لديوان يجمع كل الأمثال والحكم من خلال البحث في الروايات القديمة والأشعار التي كانت موزونة بجمل من الأمثال والحكم. ينتظر أن يكون الديوان باللغة العربية والفرنسية والأمازيغية ليكون في متناول كل الشرائح الراغبة في الاطلاع على هذا الموروث، مشيرا إلى أن السلطات المعنية مطالبة اليوم ببذل المزيد من الجهود في سبيل الحفاظ على الموروث المعنوي الذي يعكس ثقافتنا، كشعب له تاريخ عريق.
المؤلفة وردة زرقين ل’’ المساء ": أسعى إلى الحفاظ على موروث أجدادنا والمساهمة في ترسيخه عبر الأجيال
تحرص المؤلفة والصحفية وردة زرقين على جمع التراث الشعبي الشفوي، بحيث جمعت العديد منه في مؤلفات جابت من خلالها ربوع الوطن، وكان آخرها عمل خاص بالأمثال الشعبية باللغة الشاوية من جمع، ترجمة، شرح وتعليق، ثم إيداعه على مستوى وزارة الثقافة، إلى جانب كتاب تحت الطبع حول الأغاني الثورية بمنطقة قالمة، وهي الآن بصدد البحث لتحضير كتاب حول التراث القبائلي من أمثال شعبية، محاجيات، قصص شعبية وترانيم قبائلية. "المساء" حاورت السيدة زرقين ونقلت لكم هذا الحوار الشيق.
❊ قدمت كتبا مختلفة عن الأمثال والحكم الشعبية، حدثينا عنها ولماذا اخترت الكتابة في هذا المجال؟
❊❊ المعروف أن الأمثال الشعبية بمثابة تراث أجدادنا وأسلافنا الشعبي، ومجتمعنا زاخر بالتراث اللامادي من أمثال وألغاز شعبية، أغان ثورية، بوقالات، ترانيم أو أغاني المهد، قصص شعبية وغيرها. ورغم غزارة الموروثات الثقافية وانتشارها في ربوع بلادنا، إلا أنها في طريق الزوال، وإيمانا مني بهذه الأفكار حول أهمية هذا التراث، فقد سعيتُ من خلال عملية بحث واسعة إلى جمعه من ذاكرة أناس حفظوا هذه الجواهر الشعبية الثمينة، وقد اتجهت إلى ولوج هذا العالم كحب وهواية وكذا فضول مني للحفاظ على ثقافة أجدادنا، حتى أساهم بشكل أو بآخر في ترسيخ هذا الموروث عبر الأجيال، وقررت أن أغوص في أعماق الذاكرة الشعبية والإبداع الشعبي الذي يسوده النسيان، وتحول اهتمامي بهذا الكنز إلى ممارسة منتظمة. في البداية بدأت بإصدار 3 كتيبات بحجم متوسط بعنوان "خالط العطار"، "يا زارع الخير" و«يا شاري لبلاد"، يحتوي كل كتيب على مجموعة من الأمثال الشعبية، جمعتها من مختلف مناطق الوطن، وفي إطار تظاهرة "قسنطينة عاصمة الثقافة العربية"، تم طبع كتاب من 270 صفحة بعنوان "العنقود" بدعم من وزارة الثقافة، يحتوي على مجموعة هائلة من الأمثال الشعبية، البوقالات والألغاز الشعبية.
❊ يقال بأن الأمثال والحكم كنوز الشعوب بحكم غوصك في هذه العوالم، كيف ترين هذه المقولة؟
❊❊ يعتبر التراث الشفوي الشعبي أصلا لكل الشعوب، ويعبر عن ثقافة شعب عبر أزمنة مختلفة، والأمثال الشعبية مستمدة من خلال التعامل بين أطراف المجتمع، فهي خلاصة أفكار مستنتجة من تجارب أصحابها في ذلك الزمان والمكان، وأثناء حديثي مع الجدّات والمسنات حول الأمثال الشعبية المتداولة، استنتجت أنها بمثابة حكمة وقدوة يستعين بها الفرد في حياته اليومية، فهي قدوة وعبرة للأجيال، وتعتبر كنوزا لأن الأجيال تتوارثها عن الأجداد الذين حفظوا هذه الجواهر الثمينة، وهذا الإرث لا يفنى مهما تعاقبت عليه الأجيال، لذلك كل شبر من العالم يحاول الحفاظ على تراثه.
❊ ما هي ميزة الأمثال الشعبية الجزائرية؟
❊❊ الأمثال الشعبية تعبّر عن واقعنا وحياتنا اليومية، وهي في الحقيقة تربية وقدوة تورث للأجيال لما فيها من حكم وعبر تمسّ الصميم وتنير تجارب الإنسان في حياته الشخصية والعملية. وخلال بحثي المتواصل والدءوب في المدن، خاصة في البوادي حول الأمثال الشعبية، أستطيع القول بأنّ الأمثال الشعبية الجزائرية تختلف في ألفاظها وصيغها، لكنها تلتقي في مضمونها حسب مصدرها، كهذا المثل الشعبي الذي يتحدث عن الإنسان الكتوم الذي يخفي وراءه أشياء كثيرة قد يفاجئ بها الناس: "الساكت على الهم نابت" ويمكن تداوله في منطقة أخرى بصيغة أخرى وهي "السكوتي تحت الحجرة نبوتي"، ثم كل الأمثال الشعبية تتحدث عن المواضيع الاجتماعية بلغة التلميح والتعبير، وهناك أمثال يمكن تداولها في مواضيع مشتركة، ويمكن للمثل الواحد أن يقال في عدة مواضيع، كهذا المثل الشعبي: "الله ينجينا من بن آدم الحاسد، والوقت الكاسد، والولد الفاسد"، فهذا المثل يمكن تداوله في الحسد والغيرة، الوقت والأبناء.
❊ إلى أي مدى مازال المواطن يحافظ عليها في حديثه اليومي؟
❊❊ خلال الإبحار في هذا العالم من الموروث الثقافي، لاحظت أن المجتمع أو المواطن يتخذ تلك الأمثال على حسب المواقف وتجاربه اليومية، لأن المثل مستمد من خلال التعامل بين الناس، وجدت ميولا كبيرا من مختلف فئات المجتمع لهذا الموروث الثقافي الشعبي.
❊ حدثينا عن العمل الجديد الذي تحضرين له؟
❊❊ بلادنا شاسعة في مساحتها وكبيرة في تنوع ثقافتها بتعدد اللغات واللهجات، لازلت أواصل جمع التراث الشعبي الشفوي، بحيث أنهيت عملا خاصا بالأمثال الشعبية باللغة الشاوية من جمع، ترجمة، شرح وتعليق، وهو كتاب على مستوى وزارة الثقافة، إلى جانب كتاب تحت الطبع حول الأغاني الثورية بمنطقة قالمة، والآن أنا بصدد البحث لتحضير كتاب حول التراث القبائلي من أمثال شعبية، محاجيات، قصص شعبية وترانيم قبائلية.
❊ هل لشباب اليوم القدرة على المحافظة على هذا الإرث؟
❊❊ الحقيقة، وسائل التكنولوجيا الحديثة طغت وأصبحت حاجزا بين أفراد المجتمع الجزائري، وبالرغم من أن بعض القنوات الإذاعية أخذت بعين الاعتبار هذا الموروث الثقافي، كما أن بعض القنوات التلفزيونية تبث حصصا قصيرة عنه، إلا أن هناك نقص كبير في الحفاظ وترسيخ هذا الموروث الثقافي الشفهي الشعبي عبر الأجيال، فلابد أن يكون هناك اهتمام من المفكرين والباحثين بغرض جمع شمل وشتات هذا التراث، لأن المشكل هو عدم تدوين المادة الشعبية، لهذا لجأت إلى تدوينها لأنّني أعتبر الكتاب أحسن طريقة للحفاظ عليها، في المقابل لاحظت اهتماما كبيرا من طرف شريحة من المجتمع بأصالته وثقافته الشعبية رغم تطور وانتشار التكنولوجيا، كالأنترنت والفايسبوك وغيرها، ويتجلى ذلك في نشر الأمثال الشعبية عبر صفحات الفايسبوك، بحيث أن البعض يجيب أو يعلق على صورة أو حدث بالأمثال الشعبية. باختصار، شباب اليوم يريد ضرب عصفورين بحجر واحد، كما يقال "الجديد حبو ولقديم لا تفرط فيه".
يعتبرها الكبار ملح الحديث وراحة النفوس ....الأمثال الشعبية "لسان" حاضر في كل الأوقات
استطاعت الأمثال الشعبية أن تجد لها مكانا في البيوت والقلوب، نظرا لميزاتها العديدة المتمثلة في الفعل التربوي وتعزيز الأخلاق الحميدة وذم التصرفات السلبية، فقد كانت في زمن مضى تلازم الأشخاص في كل الأوقات، ليلا نهارا، إذ كان لكل حديث مقام ـ كما يقال ـ، فقد كانت تصاحب الرجال في المقاهي والسيدات في جلسات الأنس أو معالجة مواضيع الحياة، خاصة بوجود كبار السن الذين كانوا يطبعونها بالاسترسال في القول والتعبير عن كل حالة وفي الوقت المناسب.
أجمع محدثو "المساء" من السيدات والرجال وكبار السن الذين سألناهم عن ماهية الأمثال والحكم الشعبية في حياتهم على أنها ملح الحديث، وأن وجودها في وسط الكلام أساسي وجوهري، وأنها جزء لا يتجزأ منه، كما أنها تختصر الكلام أحيانا كثيرة لما لها من قدرة على التعبير المباشر والصريح. كما أنها تريح القلب في حالات كثيرة نظرا لخاصية أسلوبها المباشر الذي يلامس القلب عند القول، تقول الحاجة رابحة 77 سنة: "لسنوات طوال، طبعت الأمثال الشعبية التي ورثتها عن والدتي حياتي، حيث ورثتها بدورها عن أمها وهي ابنة القصبة التي تعتبر جد غنية في هذا المجال، فلسان الأهالي ولزمان بعيد كان ينطق بها، وشخصيا مازلت أستعملها في حياتي عند الحديث مع أبنائي أو كنّاتي، فإذا غضبت من أحدهم قلت "كيما ادّير ايديرولك يا شاري دالة"، وإذا عملت بطريقة جيدة أقول "يا سعدك يا فاعل الخير"، ولدي الكثير من الأمثال التي ينطق بها لساني في الوقت المناسب وبدون مقدمات، بحيث تحضر ذاتيا لتقال وفق الحاجة والوقت".
ويرى السيد عبد القادر، 65 سنة، بأن الأمثال لغة تعبيرية صادقة مريحة للقلب، يمكن الاغتراف منها في كل الأوقات، وبإسهاب يقول: "لقد حفظت الكثير من الأمثال عن والداي، رحمهما الله، فقد كانا يستعملانها كثيرا في حياتهما اليومية، كما كان يعبران من خلالهما على كل كبيرة وصغيرة تخطر على بالهما، وأنا الآن أستعين بها مع أبنائي وأحرص على أن أنقل لهم منها بعض الحكم التي تساعدهم على فهم الحياة ومتاعبها، لكن للأسف، ما لاحظته أن أبناء هذه الأيام لا يستعملونها كما كنا نحن في وقت سابق، وشخصيا أعتقد أن عدم النهل منها يعود سلبيا على المخزون الشفوي للفرد، لأن ذكاء وفطنة الرجل ومعرفته بأمور الحياة تقاس بطريقة حديثه".