المحتشدات جريمة في حق الشعب الجزائري

مخطط لعزل الشعب عن ثورته

مخطط لعزل الشعب عن ثورته
  • 5378
 مريم. ن مريم. ن
تبقى آثار المحتشدات شاهدا على وحشية لم تعرفها الإنسانية من قبل، فلقد زجّ شعب بأكمله في سجون جماعية حصدت آلاف الأرواح البريئة، خاصة من النساء والأطفال، وبقيت آثار هذه الجريمة حتى بعد انتزاع الجزائريين حريتهم.
كان المرحوم يوسف بن خدة، رئيس الحكومة المؤقتة، يؤكد رسميا أن عدد هؤلاء الجزائريين الذين عاشوا ويلات المحتشدات يقدر بمليونين و500 ألف، بينما أحصى المؤرخ ميشال كورانطون ثلاثة ملايين ونصف مليون جزائري محتشد.
لقد قام الجيش الفرنسي بخلق المحتشدات لجمع سكان الأرياف من الجزائريين، بهدف تجفيف منابع قدرات جيش التحرير الوطني البشرية والمادية، وهي الخطة التي أخذ بها وشجعها الجنرال جورج بارلنج، كاستراتيجية عسكرية تكميلية لسياسة المناطق المحرومة، وأحصت محافظة العمليات الاستعجالية للقوة المحتلة 2332 محتشد بشري في الفاتح أفريل 1961، وهو رقم غير مؤكد، حيث تشير الشهادات إلى وجود أكثر من ذلك بكثير، تحول المحتشدون فيها إلى معدومين ومفقودين، بعد أن هدمت ديارهم، ومنهم من مات بسبب الجوع والأمراض المنتشرة وسط هذه المحتشدات.
يروي المجاهد محمد بن سليمان خليفة في كتابه «محتشدات السكان إبان حرب تحرير الجزائر من 54 إلى 62»، أن المناطق المحرّمة في الفترة الممتدة بين 55 و57،  انتشرت من جبال الأوراس إلى كامل التراب الوطني من القبائل والظهرة والأطلس الصحراوي. حيث أن سياسة عزل الشعب عن جيش التحرير بإنشاء المناطق المحرمة، أثبتت للجيش الفرنسي محدوديتها، بل فشلها، إذ نتج عن هذه السياسة تسابق الشباب للانضمام إلى الثورة، هكذا وبداية من سنة 1957، بدا لضباط فرنسا أنه لا يوجد حل آخر إلا حشد السكان في مكان واحد، والقصد منه تجويع جنود جيش التحرير ومنعهم من الاتصال بأقاربهم، كما أن الهدف من هذه المحتشدات هو قطع جيش التحرير عن قواعده الشعبية وعن الدعم اللوجيستيكي والتموين والتجنيد والعلاج والاستعلامات.
تهدف هذه المحتشدات أيضا إلى إخضاع جموع المحتشدين بفعل الضغط النفسي المفروض عليهم والموكل لضباط الفرق الإدارية المتخصصة «لاصاص»، بالتالي فإن جمع السكان في المحتشدات ماهو إلا امتداد وتكملة للمناطق المحرمة.
تزعم بعض الكتابات الرسمية الفرنسية أن سياسة حشد السكان هي من تصور منظري المندوبية العامة للحكومة، وأن المحتشدات الأولى يرجع تاريخ إنشائها إلى سنتي 57 و58، غير أن العملية شرع فيها قبل ذلك في الأوراس، إذ يرجع تاريخ إنشائها إلى سنة 55، وصاحب فكرتها هو الجنرال بارلونج الذي طبقها في باتنة وجمع القرويين دون الاكتراث لحالتهم، حيث مات منهم الكثيرون جوعا ومرضا وبردا.
من جهة أخرى، شرع الجيش الفرنسي في تجميع السكان الرحل سنة 1957، خاصة بالجنوب الوهراني، وغالبا ماكان مسايرا للعمليات العسكرية، وقد شهدت العديد من الجرائم، كالتي أدلى بها ألفريد مولير من اللفيف الأجنبي في الجيش الفرنسي للصحافة الألمانية سنة 1960، يقول فيها؛ «في جانفي 1960، الوحدة التي كنت أنتمي إليها كان موكل لها في إطار عملية بلان، تجميع كل سكان القرى والعروش الرحل في مراكز الاحتشاد، وفي إطار هذه العملية كل القرى التي تم إخلاؤها دمرت عن آخرها... 35 مدنيا حاولوا إنقاذ جزء من أموالهم المنقولة من الدمار، تم فصلهم عن بقية السكان الذين وقع تجميعهم وإعدامهم من طرفنا قرب مركز عسكري للفيف الأجنبي على الطريق الرابط بين البيض وبوقطب، ودفنوا جماعيا في قبر واحد.. الملازم المرموز له بحرف «إكس» هو قائد الكتيبة الثانية التابعة للفيلق الثاني للفيف الأجنبي، هو المنفذ لهذا الاغتيال الجماعي».
ومن حيث مراكز الاحتشاد العملاقة، فإن دائرة مشرية أحصي بها أكبر عدد للأشخاص المحتشدين، بسبب وجود مراكز حشد ضخمة، منها مركز البيوض الذي حشد فيه 7364 شخص.
من جهة أخرى، قام الجيش الفرنسي بتطبيق سياسة المناطق المحرمة، حيث أنشأ 3 أصناف أعلنها مناطق محظورة وهي: المناطق المحرمة بصفة مؤقتة، المناطق المحرمة التي تشمل كل النواحي الجبلية والمناطق المحرمة بصفة مطلقة، وهي كل الأراضي المتواجدة وراء سد مكهرب.
قدم الرائد في الجيش الفرنسي فرومانتن تقريرا خاصا في 11 ديسمبر 1960 عن ظروف ترحيل السكان من منازلهم وأراضيهم، جاء فيه «لا يمكن إخطار كل سكان منطقة جبلية، مثل الونشريس أو جبال جرجرة، عند الإعداد لإبعاد السكان من مساكنهم، فإن تنفيذ عملية لهذا الغرض يراعى فيه عامل المباغتة، حيث عندما تنطلق، تتوخى المفاجأة أن تحقق أقصى ما يمكن من النتائج». يتحدث عن عين الحلو فيقول؛ «لا يسبق الترحيل أية تهيئة للأرضية التي تستقبلهم، عندما وصل المرحلون إلى محتشد عين الحلو عام 1958، لم يكن في حوزتهم أي شيء، كانوا مرهقين بالتعب بسبب إرغامهم على المشي دون توقف، وجوههم متسخة، ينامون في العراء لأنهم لم يجدوا مأوى في محتشدهم».
في غالب الأحيان، كان الجزائريون يحتشدون في 10 إلى 20 كم٢، وفي الأوراس كان محتشدو «حمامة» يحشرون في 80 كم٢ وعانوا الجريمة التي وصفتها الصحافة الفرنسية بـ«الإبادة الجماعية».
تدل المعطيات الفرنسية أن الجيش الفرنسي كثف في الأشهر الأخيرة التي سبقت إعلان وقف إطلاق النار من عملياته العسكرية، ففي الفترة الممتدة بين الفاتح أفريل 1961 و15 فيفري 1962، أنشأ أكثر من 1343 مركز احتشاد وجمع فيها 391.438 جزائري، وبهذا الرقم بلغ العدد الإجمالي للمحتشدين في 15 فيفري 62 إلى 2.350.00 محتشد.
للإشارة، يتم إحاطة المحتشدات بالأسلاك الشائكة التي تعلوها أبراج عالية للمراقبة، تحرسها قوة من الحركى والقومية ومصالح الشؤون الأهلية، وقد أنشأت طبقا للمادة السابعة من قانون حالة الطوارىء الذي يسمح لوزير الداخلية وحتى الوالي العام بنفي أي مشبوه إلى هذه المحتشدات، مادام يشكل خطرا على الأمن والنظام العام، وكان عدد المحتشدات يفوق العشرة في كل منطقة سكانية سلطت فيها كل أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، كما أن المحتشدات كانت تخضع لتفتيش يومي دون مراعاة أدنى شروط المعيشة، مما أدى إلى تفشي الأمراض المعدية والخطيرة بسبب سوء المعاملة والمعيشة المتدنية، وقد زاد الاكتظاظ من سوء وضعية المحتشدين، حيث كان البيت الواحد تقطنه أكثر من أربع عائلات بأكملها.
و​يؤكد المؤرخ والباحث لزهر بديدة لـ«المساء»، أن المحتشدات جريمة فرنسية بامتياز، عملت على سجن الجزائريين وحرمانهم من الحياة والحرية والإنسانية، لذلك تعتبر تعديا على الحريات وجريمة ضد الإنسانية، وهذه المحتشدات عزلت الناس عن بعضهم وحوائجهم الطبيعية، وكانت عقابا جماعيا ضد الشعب، لأنه تبنى الثورة وانخرط في صفوفها.