اتفاقيات إيفيان ثمار نضال من أجل قضية عادلة

حنكة المفاوض الجزائري تقوض عظمة فرنسا

حنكة المفاوض الجزائري تقوض عظمة فرنسا
  • 6281
مليكة .خ مليكة .خ
في منتصف نهار يوم 19 مارس من عام 1962، تم وقف إطلاق النار، بناء على التوقيع على اتفاقيات إيفيان المبرمة يوم 18 مارس من نفس العام، بعد سبع سنوات  وأربعة أشهر من الكفاح والنضال. لم يكن من السهل تحقيق هذا الحلم الذي لطالما راود كل الجزائريين منذ عقود غابرة، بل تطلب ذلك أشهرا طويلة من المفاوضات العسيرة التي قادها خيرة أبناء هذا الوطن وأجبرت أخيرا الجنرال شارل ديغول على الرضوخ لمطلب الشعب الجزائري والقاضي بحق تقرير المصير.
 ففي بلدة إيفيان التي تقع على ضفاف بحيرة جنيف، التقى ممثلون عن الجانب الفرنسي برئاسة لويس جوكس، وزير الدولة المكلف بالشؤون الجزائرية، والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية برئاسة السيد كريم بلقاسم، يوم 18 مارس من سنة 1962.
فقبل شهر واحد من انطلاق مؤتمر إيفيان، وبالضبط يوم 20 ماي 1961، فشل انقلاب الجنرالات الفرنسيين في الجزائر العاصمة (الذين كانوا يريدون الاحتفاظ بالجزائر والاستقلال عن فرنسا). وضاعف المتطرفون من دعاة «الجزائر الفرنسية» الذين انضموا إلى العمل في صفوف منظمة الجيش السري، هجماتهم في الجزائر وباريس. في حين اغتيل رئيس بلدية إيفيان؛ كميل بلان يوم 31 مارس 1961.
وفي هذا المناخ المتوتر الذي أفرز جبلا من عدم الثقة، مثلما قال يومئذ الجنرال ديغول، جرت المحادثات التي بدأت في سرية تامة شهر جوان 1960 في مدينة مولون الفرنسية، بعد أن توقفت مرات عديدة، إلى أن وصلت في النهاية إلى مرحلتها النهائية الممتدة من 7 إلى 18 مارس من عام 1962 في مدينة إيفيان.
وعزز إجراء استفتاء تقرير المصير من قوة إتفاقيات إيفيان بعد أن صوت 99.72 بالمائة من الجزائريين لصالح الاستقلال، ليتم بعد ذلك الإعلان عن الاستقلال رمزيا يوم 5 جويلية.

خيار السلم مدرج في بيان أول نوفمبر
ولم يستبعد العمل المسلح الذي طغى على الثورة التحريرية المظفرة خيار السلم، حيث تجلى ذلك في الأهداف والمعالم والوسائل المحددة المتضمنة في بيان أول نوفمبر، فقد
عملت جبهة التحرير الوطني على تأكيد نواياها في مجال استتباب الأمن وتفادي التأويلات الخاطئة، من خلال العمل على وقف إراقة الدماء، حيث أعدت في هذا الصدد للسلطات الفرنسية وثيقة للمناقشة في حال إبدائها النية الطيبة، للاعتراف بحق تقرير مصير الشعوب التي تستعمرها.
كما حرص الجانب الجزائري على فتح المفاوضات على أسس الاعتراف بالسيادة الجزائرية ووحدة التراب الوطني، وهو ما ساهم في إطالة أمد المفاوضات التي بلغت سنتين، حيث التزم المفاوضون السبعة للوفد الجزائري، وهم على التوالي؛ كريم بلقاسم، سعد دحلب، بن مصطفى بن عودة، لخضر بن طوبال، الطيب بولحروف، محمد الصديق بن يحيى ورضا مالك، بالتزام اليقظة والانتباه في مفاوضة الطرف الفرنسي لعدم الوقوع في أية تنازلات تمس بمبادئ الوحدة الترابية، وحدة الأمة الجزائرية، السيادة الجزائرية واعتبار جبهة التحرير الوطني الممثل الوحيد والشرعي للشعب الجزائري.
يأتي ذلك في الوقت الذي اعتمدت جبهة التحرير الوطني منهج الموازنة بين العمل العسكري في الداخل والنشاط السياسي والدبلوماسي، حيث لم تكد تمر ستة أشهر من عمر الثورة حتى دوى صيتها في الكثير من المنابر والمحافل الدولية، بما أتاح تدويل القضية الجزائرية من خلال تمثيلها بوفد في جلسات أشغال مؤتمر باندونغ، في حين لم تغفل عن إيجاد الإطار الملائم لفتح باب التفاوض التزاما بما تضمنه بيان أول نوفمبر 1954.
فعلى ضوء ذلك، حرصت جبهة التحرير الوطني على إبقاء باب الاتصالات مفتوحا وممكنا واستجابت لجميعها، بما في ذلك الاتصالات السرية، على الرغم من سوء نية الطرف الفرنسي الذي وجد فيها مجالا لجس النبض، وتشخيص مكامن الضعف وإيجاد أساليب لضرب الثورة في الداخل والخارج. غير أن سلسلة الاتصالات تواصلت وتكررت في فترات متقطعة بين سنوات 1956 - 1959 دون أن تحقق نجاحا يذكر، بسبب عدم جدية الطرف الفرنسي الذي كان يفضل إدراج الاتصالات ضمن استراتيجية الحل الأمني العسكري، مما جعلها لا تعدو سوى مناورات سياسية ترمي إلى مساومة قادة الثورة، وحملهم على قبول فكرة إيقاف القتال أولا، بعدها إجراء انتخابات ينبثق عنها ممثلون للتفاوض مع فرنسا.
وفي المقابل، أكدت الثورة الجزائرية بما لا يدع مجالا للشك، صمودها من خلال انتصاراتها العسكرية على الجيش الاستعماري، ونجاحها في إخراج القضية الجزائرية إلى حيز أوسع من الحدود الوطنية والإقليمية، وفرضها في المحافل الدولية، كما فضحت مناورات ديغول بكافة أشكالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمخططات العسكرية، مثل سلم الشجعان، إيجاد قوة ثالثة، مشروع قسنطينة، مخطط شال، تقوية الأسلاك المكهربة على الحدود من خلال الاستعانة بقوات من الحلف الأطلسي، وأخيرا المفاوضات الرسمية.
وفي ظل هذه الظروف، ازداد الوضع السياسي والاقتصادي في فرنسا تأزما، بحيث لم يبق لديغول من مجال لقلب الهزيمة العسكرية إلى انتصار سياسي، سوى الدعوة إلى الشروع في مفاوضات مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وقد دعا بشكل رسمي وعلني عبر الخطاب الذي ألقاه يوم 14 جوان 1960 إلى الجلوس حول طاولة التفاوض.

فشل لقاءات مولان
لقد استجابت الحكومة الجزائرية المؤقتة لدعوة ديغول من خلال إرسال مبعوثين اثنين هما؛ محمد بن يحيى وعلي بومنجل، غير أن هذه المفاوضات فشلت نتيجة استصغار الطرف الفرنسي لمبعوثي الحكومة الجزائرية المؤقتة ومعاملتهما على أساس متمردين، إضافة إلى استعمال فرنسا للدعاية المغرضة بترويج إشاعات مفادها أن فرنسا تدعو للسلام وأن الطرف الجزائري يرفض ذلك.
بيد أن فرحات عباس رئيس الحكومة المؤقتة، شرح في نداء وجهه للشعب الجزائري يوم 5 جويلية من عام 1960، موقف الطرف الجزائري من محادثات مولان حين قال؛ «... فعندما اتخذنا في العشرين من جوان الأخير قرارا يقضي بإرسال بعثة إلى فرنسا، لم يفتنا أن نذكر بأن هناك خلافات كبرى بيننا وبين الحكومة الفرنسية، وفي مولان اتضح أن هذه الخلافات أكبر مما كنا نظن.. فلم يكن هناك تقارب بين وجهات نظر الفريقين فحسب، وإنما وجد مبعوثانا نفسيهما أمام رفض الدخول في المفاوضات... حتى في المفاوضات تقف الحكومة الفرنسية موقف الاستعماري العنيد وترفض كلية مناقشة الند للند...» .
في المقابل، تواصلت انتصارات الثورة من خلال إفشال مخطط شال، ومشروع ديغول «الجزائر فرنسية»، بعد أن استجاب الشعب الجزائري لنداء الجبهة بخروجه في أبهى صور التضامن والوطنية في مظاهرات 11 ديسمبر 1960 التي عمت مختلف مدن الجزائر.
أما على المستوى الخارجي، فنشطت بعثات جبهة التحرير الوطني على جميع الأصعدة، مما أجبر حكومة ديغول على العودة إلى طاولة المفاوضات. فبمساعي سويسرية ممثلة في شخص أوليفي لانغ، تجددت اللقاءات بين وفدي الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية والحكومة الفرنسية في لوزان ونيوشاتل، وجمعت أحمد بومنجل وأحمد فرنسيس وسعد دحلب بممثلي الحكومة الفرنسية براكروك، ثم شايي. ولاحقا التقى جورج بومبيدو دولوس بالسيد الطيب بولحروف في نيوشاتل.
ويعد لقاء لوزان المنعقد يوم 20 فيفري 1961 أول لقاء جدي بين الجزائريين والفرنسيين، رغم أن مواقف الطرفين كانت متباعدة جدا، وأهم ما ميز هذه المحادثات في الجانب الفرنسي، تمسكه بمطلب الحكم الذاتي مع فصل الصحراء، إضافة إلى تجزئة الجزائر عرقيا وتقرير الهدنة، وطبعا رفض الطرف الجزائري هذه المطالب وتمسك بمبادئه.
وتقرر استئناف المفاوضات يوم 7 أفريل 1961، لكنها تأخرت بسبب الوضع السياسي المتأزم في فرنسا، بالإضافة إلى رفض جبهة التحرير فكرة إشراك أطراف أخرى في المفاوضات بعدما أفصح لوي جوكس في 31 مارس من سنة 61، عن نية حكومة بلاده في إشراك الحركة الوطنية الجزائرية، بالإضافة إلى حادثة اغتيال رئيس بلدية إيفيان وما تلاه من أحداث نتيجة الضغط الذي أظهره المستوطنون المتصلبون بمواقفهم المنادية بشعار «الجزائر فرنسية»، حيث ذهبوا إلى أبعد من ذلك، بتأسيس المنظمة الإرهابية (منظمة الجيش السري O.A.S)، كما حاول أنصار الجزائر فرنسية من الجنرالات المتطرفين من أمثال صالان وجوهو وزيلر وشال، الإطاحة بالرئيس ديغول في 22 أفريل 1961، مما أدى إلى تأجيل المفاوضات إلى غاية يوم 20 ماي 1961 بمدينة إيفيان.
ورغم الجلسات المتكررة بين 20 ماي و13جوان 1961، لم يتم الحسم في القضايا الجوهرية، حيث اصطدمت مرة أخرى بإصرار الطرف الفرنسي بمناقشة ملف وقف إطلاق النار بمعزل عن بقية الملفات والمساس بالوحدة الترابية للجزائر، في إطار سياسة فصل الصحراء، ومسألة محاولة فرض الجنسية المزدوجة للفرنسيين الجزائريين، إلا أن الطرف الجزائري رفض المساومة على المبادئ الأساسية التي أقرها بيان أول نوفمبر 1954، الأمر الذي دفع بالسيد لوي جوكس رئيس الوفد الفرنسي إلى تعليق المفاوضات إلى يوم 13جوان 1961.
كما استؤنفت المحادثات في لوغران  بين 20 - 28 جويلية 1961، لكن بدون جدوى، بسبب إصرار الحكومة الفرنسية على التنكر لسيادة الجزائر وصحرائها، مروجة لمغالطة تاريخية مفادها أن الصحراء بحر داخلي تشترك فيه كل البلدان المجاورة، بهدف ضرب الوطنية وإضعاف الثورة وتأليب دول الجوار عليها.
ولم تباشر الحكومة المؤقتة اتصالاتها إلا بعد أن تحصلت على اعتراف صريح من الرئيس الفرنسي شارل ديغول يوم 5 سبتمر 1961، في خطاب ضمنه اعتراف فرنسا بسيادة الجزائر على صحرائها.
على إثر ذلك، تجددت اللقاءات التحضيرية أيام 28 - 29 أكتوبر 1961، ثم يوم 9 نوفمبر 1961 في مدينة بال السويسرية، جمعت رضا مالك ومحمد الصديق بن يحي بشايي ودو لوس عن الطرف الفرنسي، حيث كان التركيز هذه المرة من الجانب الفرنسي على حماية ممتلكات الأجانب وحرية الدين والعقيدة، مع مطالبة بقاء الجزائر ضمن منطقة الفرنك، في حين تمسك الطرف الجزائري مرة أخرى بمبادئه الأساسية.
وفي أيام 9، 23 و30 ديسمبر 1961، التقى سعد دحلب بلوي جوكس في مدينة لي روس لدراسة النقاط الأساسية ومناقشة قضايا التعاون وحفظ النظام أثناء المرحلة الانتقالية، ومسألة العفو الشامل. وبعد أن ضمن المفاوض الجزائري تحقيق المبادئ الأساسية والسيادية، خلال المفاوضات التي جرت بلي روس بين 11و19 فبراير 1962، ومصادقة المجلس الوطني للثورة الجزائرية على مسودة محادثات لي روسو أبدى استعداده للدخول في مفاوضات المرحلة النهائيةو لكن التاريخ الحقيقي كان يوم 08 أوت1961.
وقد جمع لقاء بال الأول المنعقد بين 28 و29 أكتوبر 1962 مرة أخرى الطرفين للتفاوض،
وبعد مناقشة كل بنود الاتفاقية التي لم تدخل عليها سوى بعض التصحيحات التي أخذت 12 يوما كاملا، وقع الوفد الجزائري على الاتفاقية في 18 مارس 1962، ليعلن من إذاعة تونس عن وقف إطلاق النار بهذه العبارة؛ «باسم الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وبتفويض من المجلس الوطني للثورة، أعلن عن وقف إطلاق النار في كافة أنحاء التراب الجزائري، ابتداء من 19 مارس 1962».
 
الجزائر تكسر طموح "ديغول" في بناء إمبراطورية فرنسية
عرف عن الجنرال ديغول، طموحه في بناء إمبراطورية فرنسية تمتد إلى حدود بلاده، وبالطبع كانت المستوطنات أهم ركائز سياسته لبناء هذه الإمبراطورية، متمسكا بـ«عظمة» الدولة الفرنسية التي أضعفتها الحربين العالميتين والمشاكل السياسية الداخلية، إلا أن «أحد أهم الجنرالات» في التاريخ الفرنسي لم يستطع الصمود في وجه شعب وجبهة رفضت الخضوع وأجبرته على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، فبخسارة الجزائر تكون فرنسا قد خسرت حلمها في إعادة مجد «الإمبراطورية».
من جهة أخرى، وبخصوص الجدل القائم حول تنازلات المفاوض الجزائري عن بعض المسائل خلال هذه المفاوضات، أكد علي هارون العضو السابق في فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا لـ«المساء»، أن اتفاقيات إيفيان لم تكن مجحفة بالنسبة للجزائر، لاسيما بخصوص بقاء الفرنسيين في القاعدة العسكرية مرسى الكبير سنة 1967 والتجارب النووية في الصحراء.
وأكد المسؤول أن «مشروع الاتفاق تمت مناقشته والتصويت عليه في فيفري 1962 من طرف المجلس الوطني للثورة الجزائرية. وكلف هذا المجلس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بالتفاوض «اعتمادا على وثيقة» تمت الموافقة عليها بالإجماع، باستثناء أربعة من القيادة العسكرية وهم؛ هواري بومدين والرائد سليمان (قايد أحمد) وعلي منجلي وناصر بويزم من الولاية الـخامسة.
إذ وصفت قيادة جيش التحرير الوطني بعض بنود اتفاقيات إيفيان بأنها تنم عن «نزعة استعمارية جديدة»، فقد أوضح علي هارون أن «الوضع الذي كانت عليه الجزائر في مارس 1962» لم يكن يسمح بمواصلة الحرب بما أنه «كان من المستحيل تمرير الأسلحة إلى الخارج بسبب خطي شارل وموريس»، وأشار إلى أن هذه الاتفاقيات سمحت بانتزاع «استقلال البلد وتحقيق الوحدة الترابية للجزائر ووحدة الشعب الجزائري، لأن فرنسا كانت ترغب في تكريس طبقية بين المواطنين»، وأردف يقول بأن «فرنسا اعترفت بملكية الجزائر لمرسى الكبير، وأن هذه القاعدة لم تستغل بعد سنوات من رحيل الفرنسيين».
وبخصوص الترخيص للتجارب النووية في الصحراء، أشار علي هارون إلى أن هذه التسوية بين الجزائر وفرنسا» لم تكن متضمنة في اتفاقيات إيفيان، بل في الاتفاقيات الخارجية».