الأستاذ محمد الصالح الصديق لـ"المساء":

ليبيا ساندت الجزائر وأطلقت صوتها إلى العالم

ليبيا ساندت الجزائر وأطلقت صوتها إلى العالم
  • 1813
حاورته: نادية شنيوني حاورته: نادية شنيوني
حب الجزائر لم يستكنّ في قلوب الجزائريين وحدهم، باعتبار الجزائر بلدهم بل اتسع ليضم أشقاء أحباء ساندوا ثورة نوفمبر حتى النصر، ومن البلدان الشقيقة التي خصّصت إذاعات تصدح بصوت الجزائر غير مصر وتونس والمغرب، الشقيقة ليبيا التي احتضنت ضيفنا الكريم الأستاذ محمد الصالح الصديق، صاحب الفضل في تدشين وإطلاق صوت الجزائر من ليبيا في الفاتح من نوفمبر سنة 1958، هو الكاتب الصحفي المحاضر الفقيه المتبحر في اللغة والبلاغة وعلوم الدين، من مواليد 19 ديسمبر 1925 بزواوة ولاية تيزي وزو، حفظ القرآن وهو ابن التاسعة، أنهى دراسته بجامع الزيتونة في 1951، بدأ مشواره الصحفي سنة 1948، إلتحق بالثورة التحريرية منذ البداية أي في أول نوفمبر عام 1954، ولم يتوان في خدمة الثورة عسكريا، إذ كلف بجمع الأموال وشراء الأسلحة، وسياسيا إذ تولى مهمة الدعاية في ليبيا مشتغلا كمعلّق سياسي ما بين 1958 إلى غاية نهاية الثورة، كما كان سفيرا للجزائر مكلفا من طرف جبهة التحرير الوطني والناطق الرسمي عنها من خلال إذاعة صوت الجزائر من ليبيا؟
عن هذه المهمة الصعبة وعن دور الإعلام في دفع الثورة إلى الأمام، وعن كتبه المجسدة لأبطال الثورة وسر نجاحها: منها كتاب "عميروش" ومن قلب اللهيب "وعملية العصفور الأخضر، والجزائر بين الماضي والحاضر، والبعد الروحي في ثورة نوفمبر التحريرية، وعن الثورة ومدى تأثيرها في الشعب الشقيق الليبي، ومحاور أخرى جد هامة دار حديثي مع الكاتب الصحفي والعلامة المجاهد محمّد الصالح الصديق، الذي استقبلنا ببشاشته المعهودة في بيته الكريم المضياف لتكون لنا وإيّاه وقفات في محطات هامة من تاريخ ثورتنا المظفّرة..

^المساء: حظيتم بشرف تدشين "صوت الجزائر من ليبيا" بتكليف من الجبهة؟ فكيف كانت الانطلاقة، وما كانت أساسيات وأهداف هذه المهمة الإعلامية النبيلة، وهل كانت الأمور ميسرة في تلك الفترة الصعبة؟
^^الأستاذ محمد الصالح الصديق: بالفعل عيّنت مكلفا بالإعلام للثورة التحريرية بليبيا الشقيقة وهذا بتفويض من جبهة التحرير الوطني، حيث أرسل العقيد عمر أو عمران، لإخباري بالأمر فتوجهت من تونس حيث كنت أقيم إلى ليبيا تنفيذا لأوامر الجبهة، وعملا بما يمليه علي الواجب الوطني وفور وصولي تقابلت مع الأستاذ الهادي المشيرقي، الذي تعهّد أن يكون عيني المبصرة واليد المعينة لما أريد خدمة للجزائر الحبيبة، وانطلقت الإذاعة في الفاتح من نوفمبر على التاسعة صباحا، بحضوره وكان هناك في يوم الافتتاح حسن دباغين، بصفته وزير الخارجية للحكومة المؤقتة أنذاك وحسن يمي، وشخصيات هامة من وزراء ودبلوماسيين وأساتذة وطلبة كانت مهمتي تحرير كلمة  ـ صوت الجزائر ـ وتقديمها والقيام بتعليقات حول ما يحدث ويبث والكتابة في الصحافة الليبية، إضافة إلى إلقاء محاضرات على الطلبة الوافدين من الجامعات العربية كعين شمس بمصر والزيتونة وغيرها.. مهمتي كانت توعوية حماسية للتعريف بالقضية الجزائرية وتجسيد بشاعة المستعمر والتأكيد للعالم أنّ الجزائر ستتحرّر ولو مر أكثر من قرن على استعمارها.

^س: لاشك أنّ دعم القلم كان له دوره أيضا في إيقاظ الضمائر النائمة، فما هي أهم الصحف والمجالات التي رأيتموها أهلا لاحتضان قضية مصيرية هامة والمتمثلة في تحرير الجزائر؟.
^^ج: حرصت على الكتابة في الصحف الهامة والمستقطبة لأكبر شريحة من الأمة، كتبت في 35 مجلة وجريدة داخل الوطن وخارجه على سبيل الذكر لا الحصر: البصائر، المنار، الجيش، المجاهد، الشعب الأصالة، الثقافة الصبح والاستقلال بتونس، ومجلة الآداب اللبنانية، وطرابلس الغرب التي كنت مداوما على الكتابة فيها لديّ تقريبا يوميا عمود بعنوان أخي العربي، وكنت على احتكاك دائم بمديرها محمد فخر الدين ليبي، ولد في تركيا ورئيس تحريرها محمد الشاوش، وجريدة المقاومة والعربي والطليعة في ليبيا، وقد بلغت مقالاتي نحو 3700 مقال أو تزيد، ألفت حاليا 113 كتابا، آخرها البعد الروحي في ثورة نوفمبر التحريرية، قدمت برامج تاريخية منها: الرافضون عبر التاريخ، من وحي السماء، وشهداؤنا فالتاريخ والكتابة هما عشقي الأبدي؟

^س: حدثنا عن دور إذاعة صوت الجزائر من ليبيا في دعم الجبهة والثورة في تلك الحقبة العصيبة؟
^^ج: كان لإذاعة صوت الجزائر من ليبيا دور رائد وخطير على فرنسا، وقد ساهمت هذه الوسيلة الإعلامية في نشر الوعي، وتفنيد الأكاذيب التي كانت تختلقها فرنسا لإفشال عزيمة الشعب وإخماد نار الثورة، كما ساهمت في إيصال صوت الجزائر لأبعد الحدود وهذا هو المطلوب وكانت بذلك الداعمة القوية للثورة والجبهة، هذه الأخيرة التي ما أنشئت إذاعة ليبيا إلاّ بأمر منها، واستمرت حتى نلنا استقلالنا لتؤدي بذلك واجبها على أكمل وجه.

^س: مهمة مكلّف بالإعلام والناطق باسم بلد مستعمر من طرف متعجرف غاشم لاشك لم تكن قطعا سهلة، ألم تتعرض لمحاولة اغتيال ترمي لوأد الكلمة المتطلعة للحرية؟
^^ج: أكيد، إذ أرسلت فرنسا من يراقبني ويقتفي خطواتي ليقتلني، لكن وجود هذا الشخص المرسل من طرفها لفت الانتباه وأخبرت القيادة الليبية آنذاك بالأمر فأمسك وحقّق معه وتبيّن أنه بالفعل جاء خصيصا للقضاء عليّ، وبعدها وضع حرس مرافق لي وعلى باب منزلي لحمايتي وأهلي وبهذا لم يتسن لفرنسا الوصول إليّ وتنفيذ خطتها الإجرامية في حق صوت الجزائر الذي ظل يدوي من الإذاعة الليبية حتى يوم النصر.

^س: شعوب عربية كثيرة ساندت الثورة بحكم الأخوة والجوار والدين، وبحكم عدالة هذه الثورة التي كانت تنشد الحرية، تنشد السلام والشعب الليبي كان على رأس هذه الشعوب المساندة معنويا وماديا، فبحكم معايشتكم للأحداث ومعرفتكم بهذا الشعب الحر الأبيّ حدثنا عن سر شجاعة شعب ناصر الحق رغم كون الباطل وقتها كان الأقوى عتادا وقوة وجيشا؟
^^ج: مهما تحدثت عن أصالة وطيبة والمواقف النبيلة اتجاه القضية الجزائرية، تراني عاجزا عن الوصف إنه شعب انفلت من كل القيود والأغلال وتحرّر من كل الأسباب التي من شأنها أن تقعده أرضا، أو تشده إلى الوراء فيتراجع، أو تثقله عن الحركة والانطلاق والزحف حتى لا يقوم بالواجب ويؤدي ضريبة الأخوة من أجل الجزائر، وأنّ صورت تأليفا هذا الشعب البطل الذي شارك فعليا في الثورة التحريرية من خلال كتاب الشعب الليبي الشقيق في جهاد الجزائر، صورت هذا الشعب في فترة من فترات الوعي والنضج والإدراك وقد استبد به الشعور بالواجب فراح يضرب أروع الأمثلة في التضحية من أجل الجزائر، صورت هذا الشعب وهو يقنع الدنيا بأن العبرة في قيمة الشعوب وعظمتها ليست فيما تملكه من مال وعدة وعتاد، ولا في كثرة جيوشها ولكن العبرة في وعيها وروحها وخصائصها الذاتية النابعة عن إيمانها بالقضايا المصيرية وفي الدفاع عنها صيانة لكرامتها وأنفتها، صورت هذا الشعب المتمسك بالدين المقدس له وللتاريخ باعتبار التاريخ سجل الزمن وذاكرة الشعوب، صورت هذا الشعب الذي عشت على ترابه وخالطت أبناءه وأكلت من زاده وتقاسمنا معا الألم والفرحة، صورته وهو في قمّة العطاء من أجل نصرة الجزائر؟ وقد تحول إلى عزيمة لا تني وحركة لا تفتر وزحف لا يتوقف ونبع لا ينضب وغيث لا ينقطع، صورته كتابة وتأليفا وهو يقف تجاه الجزائر مواقف تهتزّ لها المشاعر تخال من نسج الخيال لكنها حقيقة شهدناها وشهدها التاريخ وخلّدها.

^س: هل لنا بنماذج حيّة وبعض الصور المؤثرة التي عايشتموها شخصيا و المبرزة لمساندة الشعب الليبي للثورة التحريرية في تلك الحقبة الصعبة؟
^^ج: الصور كثيرة ولعل أروعها موقف ذلك الأب الليبي الذي فقد ابنه في حادث سير المتسبب فيه أحد عناصرنا إذ بعثناه مسرعا بسيارة مليئة بالأسلحة وكان عليه الوصول قبل ثلاث ساعات إلى المكان المحدد، وحدث ما حدث على مرأى أب الشاب المتوفى فأوقف المتسبب في الحادث وهم أهل الضحية للاقتصاص منه لكن حين رأوا العلم الجزائري على السيارة وفهموا القصة توقفوا واستبشر الوالد خيرا واعتبر ابنه شهيد الثورة، وحين هممنا بإرسال الفدية له مع أحمد بودة، غضب الأب وانتفض قائلا: "الشهداء لا ديّة لهم وابني شهيد الجزائر وهو في الجنّة، وموقف ذلك المتسول الأعمى الذي صادفته في طريقي يسأل المارة وفي المساء جاء ليتبرع بما جمعه فرفضنا أخذ ماله فغضب، ولم يتزحزح حتى سلّم الكيس الذي جمعه ليتبرع به للجزائر مؤازرة للثورة؟ ولعل من المواقف النبيلة المؤثرة ما كان من تلك العروس المقبلة على هودجها لبيت زوجها والتي عندما رأت سيارة عليها العلم الجزائري متوقفة والناس ملتفة حولها تساءلت عما يحدث؟ فقيل لها إنها سيارة لجمع التبرعات لمساندة الثورة التحريرية، فأبت إلاّ أن تنزع كل ذهبها وتهبه للجزائر يوم عرسها ولم تترك عليها أي شيء وعندما همّ عمّها بتذكيرها أنه يوم عرسها، وأنّه لا يصح أن تبقى دون مصاغ أجابته قائلة: "أقسم بالله ما فرحت إلاّ حين تفرح الجزائر.. والحقيقة أنّ المواقف النبيلة لهذا الشعب الأبيّ كثيرة ولا تحصى ولا تعد ودونتها كلها في كتبي وفي المجلدات التي ستصدر قريبا إن شاء الله.

^المساء: هل من كلمات خالدة قيلت في الجزائر وشعبها من طرف شخصيات صادفتها في فترة توليك مهمة الإعلام في ليبيا؟
^^ج : لعل من أروع وأصدق ما قيل في حق الجزائر من طرف الملك إدريس السنوسي، كان بمناسبة زيارة وزراء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية برئاسة فرحات عباس ـ رحمه الله ـ في فيفري 1959: "إنّ الله معكم والنصر حليفكم، فامضوا في طريقكم، من مات منكم فهو شهيد، ومن حيي فهو عزيز.. ومن هتاف الجماهير الشعبية الليبية وهي تحمل على الأعناق أعضاء الحكومة الجزائرية: "نحن لك يا جزائر، والكل متحرّق لليوم الذي تأمر فيه قيادة شعبنا العربي هذه الصفوف الخلفية لـتأخذ مكانها في الصفوف الأمامية مندفعة في صف واحد نحو خط أحمر في صيحة الجهاد المدوية: الله أكبر..
ولعل من أجمل وأصدق ما قيل في الجزائر وثورتها هو ما تفوه به الأستاذ فريد أبو حديد، كاتب صحفي مصري في مجلة الرسالة عيّن وقتها مستشارا في ليبيا، وكنت أشد المعجبين به وبما يكتب وسلمته نسخة من كتاب "من قلب اللهيب" المصور للهيب الثورة فبكى وقال: "لو أمكن أن يكون هناك شعب نبي لكان ذلك شعب الجزائر ومعجزته ثورة التحرير".

^المساء: قد ينكر من لم يعايش الثورة عظمتها وعظمة رجالها فما هي رسالتك لهذا الجيل الجديد الذي لم يواكب الثورة ولم تلفحه نيرانها؟
^^ج : لو أدرك من ينكر عظمة الجزائر قيمة هذا البلد وقيمة الجزائر لصلى لله شكرا لمجرد انتسابه لهذه الأمة، يكفيه فخرا أنه رغم كون فرنسا احتلت الجزائر لمدة قرن ويزيد، أبادت ونكّلت وسلّطت كل أنواع الحرمان ضاربة بسور من حديد، منعت من دخول الكتب وحرمت شعبا برمّته من حقه في التعليم وجعلت الدول تعتقد أن الجزائر فرنسية، لكن هذا لم يحدث إذ استجمعت الجزائر قواها وثار شعبها وانتفض وأسمع العالم صوت الجزائر الذي وحّد العرب، فيكفي هذا الجيل فخرا انتماءه لثورة باتت معجزة من معجزات الله في الأرض.