الفنان عمر رقان برواق "عائشة حداد"

تجليات من ذاكرة الوجدان

تجليات من ذاكرة الوجدان
  • القراءات: 1009
مريم. ن مريم. ن
يختتم اليوم برواق "عائشة حداد" معرض الفنان التشكيلي عمر رقان صاحب الظلال الهادئة والألوان المتدفّقة والأضواء الخافتة الذي برز في محاورة الطبيعة والحياة البسيطة بكل تجلياتها وهوامشها بقدرة سحرية ترصد وجدان المعاناة الإنسانية.
عرضت اللوحات الـ32 ذات الحجم الكبير ظاهرة للعيان لا تخطئها العين، حيث المساحات الواسعة التي تسمح لمضمون اللوحة بالبروز للتعبير عن اهتمام ما أو مشهد ذي دلالات مختلفة تختصر فيه في أحيان كثيرة بعض التناقضات، وتتراءى الخلفيات السوداء في تكرار يشمل كلّ اللوحات أضفت على المعرض نوعا من العتمة، كما حضرت العديد من الأساليب الفنية والتقنيات كالأسلوب الانطباعي والتصويري والتجريدي وتقنية التنقيط وغيرها وترك الفنان كلّ هذه الأعمال بدون عناوين ليدع لجمهوره حق التصرّف في قراءتها والتعليق عليها.
يلاحظ الزائر حالة من السكون التي تجتاح اللوحات ليضرب الصمت الذي يشبه صمت الليل، ورغم ذلك فإنّ الحياة لا تهدأ وتستمر بحراك مختلف، وتتصدّر الطبيعة هذه الأعمال لتتجسّد بشكل مختلف مع لمسة العتمة تبرز في إحدى اللوحات من خلال العصافير منها الحسون الذي يقف هناك بعيدا في الأعلى يتأمّل سكون القرية والبيوت والحقول والميناء دون أن يزعج أحدا لعلمه ربما أنّ الجميع يغصّ في سبات عميق بعد ضوضاء النهار المبصر.
في اللوحة المجاورة تجتمع القرويات حول المنبع بفساتينهن المتلألئة بالألوان ليملأن الجرار وهن يستمتعن بالطبيعة والدروب التي تقطع الحقول الخضراء وقد زاد ضوء القمر من حسن المشهد، وبرزت تقنية التنقيط في لوحة كانت عبارة عن بورتري امرأة يلف وجهها البريء وشاح منقّط بألوان صاخبة وتمتد هذه الألوان والنقط إلى كل فضاء اللوحة وتصل حتى القمر.
تتوالى صور الطبيعة الفاتنة والهادئة كتلك الصورة التي يزرع فيها بيت صغير بين المروج ومجرى النهر الذي ينتهي بشلال، إضافة لمشهد الغابات المتشابكة وامتدادها إلى أفق السماء علما أنّ الأخضر غالبا ما يكون قاتما وبعيدا عن التدرّج عكس الألوان التي تسلّط عليها أضواء النهار.
في إحدى اللوحات المعروضة هناك رجل يجلس في حافة الغابة وحيدا حزينا بعدما فرّت من قفصه العصافير وظلت تراقبه من بعيد وكأنّها تلومه على تصرّفه فبينما كان يحمل حقيبته للسفر بكلّ حرية كان يحتجز عصافيره، وتتجلى في لوحة أخرى شخوص بشر مبهمي الملامح لا يظهر في رؤوسهم سوى العقل يتأملون به الطبيعة ذات التلاوين المتموجة.
في قلب المعرض تنتصب لوحة العلم الوطني الجزائري العملاق وسط المروج تقابله الزهور التي تتلوّن بألوانه الأبيض والأحمر والأخضر وهذه هي اللوحة الوحيدة التي لا ظلمة فيها كدلالة على الحرية وشمس الاستقلال، لتعود العتمة التي تكسو الغابات والمروج والتي تعبّر عبر دروبها قوافل أفراد جيش التحرير الوطني لتصعد إلى الجبل، حيث نور القمر كدلالة على درب الجهاد والحرية.
في لوحات أخرى، يتكرّر مشهد البحر سواء في صورته الطبيعية أو من خلال عرضه كضفائر أو حبال أو غيرها من الصور ناهيك عن السمك وقوارب المهاجرين والعواصف والمنارات وحوريات البحر وغيرها وهذه اللوحات هي الأكثر إبداعا وعمقا وفلسفة حياة، وعن تلاحم الأجيال وأهمية التاريخ تظهر في إحدى اللوحات فتاة يمسك بيدها شيخ هرم ليقطع بها الظلمة وهو ينير لها الدرب بشمعة يحملها.
مظاهر أخرى من هذه الحياة كالبؤس المسلط على بعض الفقراء الذين يحصلون على قوّتهم بالأعمال الشاقة، وتبقى عتمة الليل السيدة في المعرض تعيش فيها مخلوقات غريبة، وتتجسّد فيها تجربة حياة مليئة بالتجارب.
ويلاحظ في المعرض أيضا الحضور القوي للأسطورة وللحركات غير المتناهية التي تكاد تتخطى حدود اللوحة، من جهة أخرى يعكس المعرض قوّة أفكار هذا الفنان العصامي وإلمامه بجوانب مهمة من التاريخ والفلسفة والفن والدين وغيرها، كما يحرص الفنان عمر رقان على نصرة قضية المرأة من خلال عرض معاناتها وتطلعاتها والدفاع عن حقها في حياة كريمة، ورسم الفنان قاربا يحمل ظلال أشخاص قرّروا الهجرة من أجل حياة أحسن، ورسم فوقهم سماء تغطيها خيوط العنكبوت، أمّا البحر فأمواجه قاتلة تتربّص براكبي القارب.
لوحات عمر قطع من ذاكرته الاجتماعية والثقافية علما أنّه يرفض رسم الواقع كما هو، بل يعطيه بصمته الساحرة والحالمة فهو يرسم العالم كما يتخيّله أو كما رآه في طفولته البريئة.
للإشارة، الفنان عمر رقان من مواليد سنة 1966 بالبويرة وسبق وأن شارك في عدّة معارض عبر مختلف الولايات.