ربوة تطل على وادي الصومام

موقع "ملاكو" الأثري يكشف تاريخه

موقع "ملاكو" الأثري يكشف تاريخه�
  • القراءات: 1761
ق.ث � ق.ث

بأعالي ربوة تطلّ على مجرى وادي الصومام، يظهر الموقع الأثري «ملاكو» المعروف باسم «بترا» للعيان وسط مساحة زراعية تحاصرها ورشة أشغال عمومية، بفضل جهود فريق من الأثريين من جامعة الجزائر وبمساعدة جمعيات محلية منها جمعية «تالويت» (السلم بالأمازيغية) ومساهمة السكان والجمعيات في إثراء النقاش والاقتراحات حول مستقبل الموقع.

هذا الموقع الذي يحتضن إقامة أحد ورثاء الملك البربري نوبال التي هّدمت خلال ثورة ابنه فيرموس على الروم في أواخر القرن الرابع للميلاد، يكشف عن بعض أسراره عقب أشغال التنقيب التي أجرتها بعثتين سنة 2014، ولم يبق اليوم من إنجازات تلك العصور سوى أجزاء جدران من الحصى والحجر الكلسي تتحدى الزمن وسط النباتات البرية، وهي شاهد عن وجود أسوار وبنايات تتربّع على مساحة قدّرت بأكثر من هكتارين، حسب الفريق الأثري، إضافة إلى بعض التجويفات الجديرة بالاهتمام، وبقيت هذه التجاويف حسب شهادة السكان مزارا يأتيه الناس من أجل دعوة الأولياء الصالحين، وهي معتقدات شعبية راسخة في المنطقة قد تعود إلى ممارسات ثقافية قديمة. 

وبعد التسييج الذي أصبح يفصل الموقع الأثري عن مسار محور الطريق الذي ينجز على بعد بعض أمتار عن المكان، يؤكّد الخبراء أنّه يتم الشروع في العمل ورسم حدود الموقع وتبيان قيمته استنادا لقاعدة معلومات تاريخية قبل رفع التقرير إلى وزارة الثقافة، وهي العملية التي انطلقت في ماي 2014،  من جهة أخرى، كان على المختصين أيضا تحسيس جهات عمومية أخرى (الوكالة الوطنية للطرق ومديرية الولاية)، حيث ساهمت الجمعيات في هذا العمل التحسيسي من خلال قيامها بعرض القطع الأثرية التي عثر عليها في الموقع في فترات مختلفة، ويؤكّد المختصون أنّ هذه القطع التي تكتسي أهمية كبيرة بالنسبة للأثريين وتم ـ للأسف ـ استعمال بعضها كـ»مواد بناء» يتم جمعها حاليا في القرية والمناطق المجاورة قصد استرجاعها، كما أنّ مشاركة المواطنين في إعادة الاعتبار لهذا الموقع يتجلى من خلال شهادات الأكبر سنا بخصوص حالة الموقع من قبل، إضافة إلى مساعدتهم اللوجيستية أثناء عمليات التنقيب، حيث يحضر في كلّ مرة قرابة الـ30 طالبا من معهد الآثار. 

للتذكير، سجّل علماء الآثار المنتمون إلى جامعة الجزائر في العدد 11 من مجلة «أثار» التابعة للمعهد وجود «غموض» بشأن التواجد الجغرافي لموقع بترا، حيث تستند مختلف الدراسات التي تحدّثت عن الموقع إلى مصدر واحد لاتيني (أميان مارسولين)، أمّا المشرفون على الموقع فمقتنعون بأنّ «أثار الهدم» وبروز جزء من الجدار أثناء أعمال الحفريات الأولى، تؤكّد أنّ المكان هو فعلا الموقع الذي هدّم خلال حملة القائد الروماني تيودوز ضد فيرموس والقبائل المتحالفة معه (370-372)، وإضافة إلى كشف النقاب عن مكان تواجد الموقع، عثر الأثريون على قطع من الأثاث والعملة ولوازم الزراعة وجزء من المقبرة، إلا أنه لم يعط توضيحات أكثر عن هذه الاكتشافات. 

مثل هذه النتائج وغيرها، يؤكّد المختصون، ستسمح بكتابة صفحة من تاريخ الجزائر الذي لا نعرف عنه الكثير باستثناء ما كتبه «المنتصرون «و يمكن لإسرار بترا العتيقة أن تقدّم معلومات مهمة عن أسباب ثورة الأمير التي لا تزال نزاعاته الانفصالية محلّ نقاش من قبل المؤرّخين، ويؤكّد أحد المختصين مستشهدا بالمؤرخ الفرنسي شارل اندري جوليان، أنّ إعادة تشكيل ملحمة ابن نوبال يمكن أن يفيد بخصوص إرادة في إقامة دولة مؤسّسة في الجزائر العتيقة بين القرنين الثاني والرابع.   

لم يخف سكان ملاكو سعادتهم وافتخارهم بما يجري في قريتهم ويستعدون من الآن لإعادة تسمية محلاتهم بأسماء عتيقة، كما يحلمون أن بالقيمة الإضافية التي يمكن أن يمنحها هذا الاكتشاف للسياحة في المنطقة خاصة أنّه يقع قرب مكان حظي بمشروع ذي هيكلة تحتية هامة. 

للإشارة، كانت بترا (بجاية) التي دمّرت من طرف الجنرال الروماني تيودوس خلال حملة عسكرية ضدّ فيرموس، إقامة لساماك، ابن نوبل، والتي كانت بـ»حجم مدينة»، حسب المؤرخ الروماني، أميان مارسولين، وتمّ اكتشاف الموقع سنة 1901 من قبل المؤرّخ والأثري الفرنسي ستيفان غزيل بعد العثور بأغزر أمقران (قرب بترا) على ناقشة حجرية، تشير إلى تأسيس ساماك قلعة تعلو جبلا، تطلّ على وادي الصومام، لتبقى شاهدة على وفائه لروما، وهذه القطعة الأثرية هي اليوم معروضة في المتحف الوطني للآثار القديمة في الجزائر العاصمة، وقد دمرت بترا التي يقدمها الأثريون على أنها «مقر الإقامة والحكم بالمنطقة» بعد أن قتل فيرموس أخاه ساماك، حيث ثار ضد سلطة الإمبراطور الفلنتيني، ويصف غزيل خلال ما دوّنه حول نقوش أغزر أمقران حصنا يحكم من الجهة الشمالية الواقعة بين وادي صدوق ووادي ساحل (الصومام) وآثارا حائطية وأعمدة ماتزال محفوظة»، بالإضافة إلى «صخور تحمل حروفا لاتينية ورسومات».

وتظهر اليوم من هذه الإقامة بعض الأسوار والآثار التي يحتمل أن تكون بقايا حائط أو بناية في مساحة قدرت بأكثر من هكتارين.

من جهة أخرى، يرى أثريون من جامعة الجزائر أنّ وصف غزيل للموقع  «مختلف جدا» عما هو عليه أثناء حفريات عام 2014، مما يفسر حجم الخراب الذي أصابها خلال قرن.