الفن يحفظ ذاكرة غزة تحت الركام

إبداعات من حقيبة الذكريات والنزوح

إبداعات من حقيبة الذكريات والنزوح
  • 189
ق. ث ق. ث

شرعت المعمارية والفنانة البصرية الفلسطينية، ولاء شبلاق، في خريف عام 2022، في مشروع فني توثيقي استثنائي، كانت تتنقل بين أزقة البلدة القديمة في غزة، ترسم قبابها العتيقة، وأسواقها الحجرية، وبيوتها التي تختزن ذاكرة أجيال متعاقبة. بعين فنانة وحس إنساني، حاولت أن تجمع بين الفن والسرد، وأن تحفظ للمدينة معالمها المهددة بالاندثار، فكانت النتيجة كُتيبًا حمل عنوان: "مسار ما تبقى لنا".

هذا المشروع، الذي حصل على منحة من وزارة الثقافة الفلسطينية، بدأ في الأصل كبحث فني، يهدف إلى تتبع أثر الإنسان في فضاء البلدة القديمة، وتوثيق ما بقي من معالمها، باعتبارها شواهد تاريخية وثقافية. أرادت شبلاق أن يكون الكتيب دليلا مرئيت، يحفظ "ذاكرة المكان" للأجيال القادمة.

بين الذكريات والفن

انبثقت فكرة المشروع، من ارتباط شبلاق بطفولتها في بيت جدها لوالدتها، عبد القادر بسيسو، وهو أحد البيوت الأثرية المميزة في حي الشجاعية. هناك تفتحت موهبتها في الرسم، ومع دراستها لهندسة العمارة، تعمق إيمانها بأن العمارة الحقيقية ليست جدرانًا فقط، بل فضاء يحتوي الإنسان جسدًا وروحًا. ومع مرور الوقت، اكتملت أكثر من 60 لوحة ومشهداً فنياً، كان من المفترض أن تجمع في كُتيب ورقي، قبل أن تداهمها الحرب وتحول الحلم إلى أنقاض.

لوحات في "حقيبة النزوح"

حين اشتدت الحرب على غزة في فيفري 2024، اضطرت ولاء للنزوح أكثر من مرة. كانت تحفظ لوحاتها كما يحفظ الناس وثائقهم الثمينة، وتضعها في "حقيبة النزوح". غير أن الحصار الذي استمر تسعة أيام في أحد منازل حي الرمال، انتهى بتفجير البيت، وفقدت الفنانة كل شيء: لوحاتها، حاسوبها، دفتر ملاحظاتها، وحتى أوراقها الرسمية.

نزحت مع عائلتها سيرًا على الأقدام، عبر شاطئ البحر نحو جنوب القطاع، وهناك واجهت صدمة فقدان ثمار جهد سنوات. لكن الاستسلام لم يكن خيارها. استعادت ما تبقى من صور المشروع عبر أرشيف تطبيقات التواصل الاجتماعي، وبدأت من جديد على هاتفها البسيط. رتبت الصور، أعادت كتابة النصوص، ودمجت اللوحات مع الكلمات، لتكتمل النسخة الإلكترونية من الكتيب، وإن تعذرت طباعته ورقيا، بسبب الحرب. واليوم، يجري العمل على ترجمته إلى عدة لغات.

محتوى الكتيب

يتضمن "مسار ما تبقى لنا" مقدمة واعتذارا، يروي رحلة المشروع منذ بدايته وحتى ضياعه وإعادة جمعه، ثم فصولاً متتابعة وهي: "غزة تاريخ وأثر"، الذي يتناول خصوصية المدينة عبر العصور. و«الزمان والمكان"، حيث تغوص شبلاق في ذاكرتها البصرية. و«محطات" وهو جولة مصورة في معالم البلدة القديمة. ويُختتم برسالة وجدانية لأهل المدينة بعنوان: "وبعد، يا أهل مدينتي الطيبين. ما يميز الكتيب أنه يجمع بين التاريخ والأدب من جهة، والفن والعمران الإنساني من جهة أخرى، ليصنع وثيقة متكاملة تحفظ هوية المكان رغم الخراب.

ضاع الرسم وزال المرسوم

تضاعفت صدمة شبلاق، عندما رأت صورا تؤكد أن معظم المواقع التي وثقتها لوحاتها، قد دُمرت بالكامل: الجامع العمري الكبير، قصر الباشا، البيوت الأثرية في الزيتون والشجاعية، وحتى الكنائس. لم يبق حجر على حجر. ومع ذلك، ترى الفنانة أن ما فعلته بات أكثر أهمية الآن، لأنه يمثل المرجع البصري الوحيد لتلك المعالم التي طمستها الحرب. تقول: "بعدما رأيت حجم الدمار، أدركت أن التوثيق الذي قمت به هو كل ما تبقى لنا، دليل وشاهد نعتمد عليه عندما يحين وقت الترميم والإعمار".

شهادات أخرى من غزة

لم تكن شبلاق وحدها في مواجهة هذا الفقد. الباحث أيمن البلبيسي، مؤسس فريق "حكاوي غزة"، اعتاد أن ينظم جولات أسبوعية، لتعريف الناس بتراث البلدة القديمة. لكن مع العدوان الأخير، وجد أن 80٪ من تلك المواقع دُمر بالكامل أو جزئياً، ومنها حمام السمرة، المسجد العمري، مسجد ابن عثمان، قصر الباشا، والمقابر التاريخية. ويؤكد البلبيسي، أن ما يحدث اليوم، امتداد لتدمير مماثل، نفذته بريطانيا إبان الحرب العالمية الأولى عام 1917، حين محيت غزة تقريباً من الوجود.

أما عاصم النبيه، عضو المجلس البلدي لمدينة غزة، فيبدي مخاوفه من أن الاحتلال يسعى إلى طمس الهوية التراثية للمدينة بشكل منهجي. ويشير إلى أن الدمار امتد شرق شارع صلاح الدين، حتى وصل إلى أطراف البلدة القديمة، ما يهدد بفقدان أهم مرافقها التاريخية.

توثيق رسمي للأضرار

رغم صعوبة الوصول إلى كثير من المواقع، بسبب القصف، أصدرت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية تقريرًا، أوضح أن 226 موقعًا أثريًا تضرر في قطاع غزة، من أصل 316 تم حصرها. تضمنت القائمة مساجد تاريخية وكنائس وقصورًا وبيوتًا تراثية وحمامات ومقابر. ومن أبرز ما دُمر في البلدة القديمة: الجامع العمري الكبير، كنيسة القديس بيرفيريوس، جامع كاتب الولاية، مسجد عثمان بن قشقار، قصر الباشا، دار السقا، دار الطرزي، دار العلمي، وحمام السمرة.

ذاكرة وهوية لا تُمحى

رغم قسوة المشهد، تحافظ شبلاق على تفاؤلها. تقول: "لن يخسر سكان غزة، فهويتهم تجري في دمائهم، وذاكرتهم محفورة في وجدانهم، مهما خُربت معالمها ظاهريًا". وتشبه مدينتها بالعنقاء التي تنهض من رمادها: "على خطى الأجداد نعود إلى المسار الأصيل، لنبدأ من جديد".

هكذا، يصبح كُتيب "مسار ما تبقى لنا" أكثر من عمل فني. إنه شهادة حية على تاريخ مدينة، حاول الاحتلال محوه، لكنه بقي محفوظًا في ذاكرة أبنائها، وفي رسومات فنانة أصرت أن تنتصر على الفقدان. فالفن هنا لم يعد مجرد جماليات، بل فعل مقاومة وحفظ للهوية، يعيد بناء ما تهدم على الورق والصورة، انتظارًا ليُبنى على الأرض من جديد.