غنّى الأحلام الجميلة ونشر الروح النقية

"إيدير".. أسطورة لن تتكرر

"إيدير".. أسطورة لن تتكرر
إيدير.. أسطورة لن تتكرر
  • 1640
نوال جاوت نوال جاوت

عُرف الفنان الراحل إيدير بأغنية "أفافا إينوفا"؛ فمَن مِن العائلات القبائلية لا يحفظ أفرادها كلماتها عن ظهر قلب؟ وكم من الأصوات التي أعادتها لتبقى من أهدأ الأغاني الحالمة ذات الدلالات العميقة! إيدير برحيله خلق ألما في النفوس؛ فهو مرجعية غنائية في حد ذاتها، وفنان تنحني له الرؤوس احتراما، وصوت أبى الانسياق وراء الفن التجاري الربحي، فأعماله الخالدة تترجم هذه القناعة، والمستمع لها سواء كان يفهمها أو يحس بها، يتأكد أن العمل نتاج اشتغال عميق على الكلمة واللحن وحتى الأداء.

إيدير الذي تربت على صوته أجيال كاملة ونقلها الآباء لأبنائهم كزخم موسيقي فريد وحرصوا على تلقينهم كلمات أغانيه، ترجَّل لكنه سيبقى أيقونة الفن الملتزم، حامل الانشغال الأمازيغي الدائم، وصاحب المواقف الثابتة من قضايا شعبه ووطنه.

خبر وفاة إيدير تناقلته المواقع الإخبارية العالمية، التي أجمعت على أنه أيقونة الأغنية الأمازيغية العالمية بدون منازع، ومن أعذب الأصوات التي عاشت للموسيقى وبالموسيقى، وكان تلك البوتقة التي تجمع نغمات العالم وتزاوجها، لتمنح المستمع الحلم الجميل والنغم المتجدد، ملغيا الحدود المادية، فاسحا المجال للفضاء الرحب الحامل لكل ما يسرّ الخاطر ويطرب الأذن.

ومن الأغاني التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بمسار الفقيد "أسندو" و"أبابا إينوفا"، وهما أغنيتان لا يمكن تجاهلهما لارتباطهما بعمق المجتمع الأمازيغي وإبرازهما لعادات وجوانب من حياة البسطاء، حيث ولدت أغنية "أفافا إينوفا" في منتصف سبعينيات القرن الماضي، واضطر إيدير لأدائها في الإذاعة الجزائرية بسبب غياب الفنانة نورة التي كانت ستغنيها، فانتقلت به من مهندس في حقل بيترول إلى نجم عالمي، حيث حققت نجاحا منقطع النظير وغير متوقَّع.

أغنية بسيطة النص واللحن تأخذ روحها من أصول الموسيقى الأمازيغية، لكنها، في نفس الوقت، متأثرة بموسيقى الفولك لفترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. تم تلحينها في أسلوب هدهدات الأطفال، وهنا يكمن سر نجاحها، لّحنها مغنيها إيدير، وكتب نصها محمد بن حمدوش.

أما طرافة قصتها فتكمن في أن إيدير لحنها للمغنية نورة، وهي من أولى الأسماء التي قدمت الأغنية القبائلية بنفَس تحديثي أوربي، لكن طارئا حال دون أدائها، وقام بذلك إيدير، ومرت بصوته على أثير الإذاعة الجزائرية. بعد هذا لم يتأخر النجاح، بل تحقق في وقت قياسي في الجزائر أولا، ثم تجاوز حدود المتوسط، ليصل إلى أوروبا لاحقا.

كانت "أفافا إينوفا" أول أغنية جزائرية تمر في الإذاعة الفرنسية، وسجل ذلك دخول أول أغنية من شمال إفريقيا إلى نوعية موسيقى العالم. وكتبت عنها الصحفية كاترين أمبو مقالا في صحيفة "لوموند" الفرنسية سنة 1978، فكسرت كل الحدود والحواجز والتحفظات.

تستلهم الأغنية كلماتها من قصة قديمة، تنقذ فيها فتاة والدها السجين في غابة يسكنها الوحوش والغول. وفي بعض مقاطعها هناك إشارة إلى السهرات الجميلة في جبال منطقة القبائل، وتركيز على قيمة وأهمية التراث الشفوي من حكايات وأشعار وأساطير وأغان، وكان لها صدى واسع في الكثير من بقاع العالم.

فإيدير الذي أحب فنه الكبير والصغير واحترم آراءه السياسية المتعصب والمعتدل، عرف كيف يدافع عن قضيته، ويلحّفها بالحكمة والاتزان محترما رأي الآخر، فخورا بأمازيغيته، متمسكا بجزائريته، ولم يشيّد لنفسه برجا عاجيا ولا قلعة زجاجية، ولكن فتح ذراعيه لكل التجارب الموسيقية والغنائية العالمية، ولم يحصر نفسه في طبع واحد، ولم يحد عن طريق الفن الجميل، فغنى الأحلام الجميلة، وكان نموذج البساطة ونقاء الروح.

إيدير غنى هويتنا وثقافتنا بألحانه الهادئة، وتقمص دور الحكواتي ليسرد علينا معالم ثقافتنا، فتساءلنا من هو "فافا إينوفا"، وكيف هو وحش الغابة، وجعلَنا نحس بقساوة الليالي الماطرة في القرى والمداشر الجبلية.

إيدير سافر بنا إلى النقاء بطبع هادئ خلوق، وحمل الحلم، وجسّده بكلم راق ولحن رائع.. رحل لكنه حفر في أرواحنا النقاء والطيبة، وفتح عوالم للسكينة بعيدا عن الابتذال والأغاني الهجينة بكلمتين ووزن واحد؛ فهو أسطورة لن تتكرر إنسانيا وفنيا.