منارة، ركب، عيد للكرز، أحجيات وأساطير
التراث غير المادي لمليانة.. ثراء وتنوّع

- 96

التراث غير المادي لمليانة ثريّ كثراء تراثها المادي، فهي معروفة بالمنارة التي تصنع بمناسبة المولد النبوي الشريف، كما تشتهر أيضا بعيد الكرز وكذا بمجموعة من القصص والأحداث، بعضها مرتبط بالولي الصالح سيدي أحمد بن يوسف وأخرى بجبل زكار حامي المنطقة وحاضن أسرارها.
جبل زكار.. رمز قويّ لشموخ مليانة
بالمناسبة، قال المهتم بالتراث شمس الدين حاج علي إنّ قمة جبل زكار كانت تحتضن معبدا في العهد القديم، وتعود تسميتها إما لكلمة "أحمر" بالبربرية للحديد المتواجد به أو للجبل الرب حسب الفنيقيين، بينما جاءت كلمة مليانة في مؤلّفات المؤرّخين شبيهة بالاسم القديم وهناك من يقول عنها "زوكابار" وتعني بالفينيقية "سوق القمح".
ونوّه المتحدّث بمساهمة جبل زكار في الثورة التحريرية، فقد كان معبرا للمجاهدين إلى الجزائر العاصمة وشرشال والبليدة وحتى غليزان، وكان كلّ من يريد الالتحاق بالثورة من مليانة يصعد إلى جبل زكار مثل حال خال جدّته، طبيب الولاية الرابعة، إسماعيل محفوظ دهلوك، الذي تخلى عن دراسته في السنة السادسة طب. وقبل ذلك، شهد الجبل عدّة مظاهرات من عمّال منجم زكار للمطالبة بحقوقهم.
وأكّد المتحدّث قيمة جبل زكار الكبيرة عند سكان مليانة، فالكثير من القبائل تحبّذ العيش في الجبال التي ترمز أيضا للثورة التي انطلقت منه، كما يوجد في قمة جبل زكار ضريح سيدي عبد القادر الذي كانت النساء والأطفال يذهبون إليه كلّ نهاية أسبوع، ويطبخون في قمّته "البركوكس" ويبيتون في الضريح أحيانا خاصة حينما لا يسقط المطر حيث تذبح النساء، الديك ويكثرن من الدعاء وحينما يتحقّق الدعاء يعدن الكرة لكن هذه المرة لزيارة زاوية سيدي بوزيان في السهل أي أسفل المدينة.
وأضاف أنّه، حسب دائما ما أخبرته جدّة والدته رحمها الله، فقد كان سكان مليانة يحتفلون بالسنة الفلاحية يناير وكانوا يقولون "اليوم الأوّل حشيش والثاني عيش والثالث ريش" أي أنّهم في اليوم الأوّل كانوا يطبخون الخضر والحشائش وفي اليوم الثاني البقوليات والثالث الدجاج الذي كان قديما أغلى من اللحوم الحمراء. وأخبرته أيضا أنّه في يناير لم يكونوا ينزعون ريش الدجاج في المنزل حتى تمرّ السنة ببركتها ولم يكونوا يضعون "القفال" في القدر لطبخ الكسكسي حتى لا يمرّ العام الجديد مقفلا.
من جهته، تحدّث عباس كبير بن يوسف عن التراث غير المادي لمليانة، ففي ليلة المولد النبوي، يستعرض العديد من سكان المنطقة لمناراتهم في الشارع ثم يلتقي الجميع في مسجد سيدي أحمد بن يوسف حيث يبيعون بالمزاد العلني منتجات المنارة مثل قارورة عطر وكلّ الأموال التي تجنى من عملية البيع تذهب إلى المسجد، وهناك أيضا ركب بني فرح وهو عبارة عن زيارات موسمية (ماي). للضريح لمدة ثلاثة أيام.
الحاجة طيبوني.. شهادة من ذهب
لا يمكن الحديث عن تقاليد مليانة من الجانب الأكاديمي فقط بل من الضروري الاستعانة بشهادة امرأة عرفت مختلف أوجه مليانة بحكم سنها (92 سنة)، الحاجة طيبوني، امرأة نطقت اسم الولي الصالح سيدي أحمد بن يوسف حينما سألتها "المساء" عن أوّل ما يدور بخلدها عند سماعها كلمة "مليانة"، وأضافت "سيدي أحمد بن يوسف قلاع الهنا" أي أنّه يذهب الحزن عن الآخرين، وكان لديه ثلاثة "قناديز" أي طلبته وتبعه، وهم فرقة مرزوقة وفرفة بلخيثر وفرقة بوزار.
تعلّق سكان مليانة بالولي الصالح سيدي أحمد بن يوسف بارز للعلن حتى أنّ الكثير من أبنائها اسمهم بن يوسف، وفي هذا قالت الحاجة إنّه كان يقال إنّ "مليانة مليانة الزبل سكنها بن يوسف الفحل ردّها خرزة من الذهب في يد السوامة" وأنّ الولي الصالح سأل "شا يديرو في الزواج فقيل له "يديرو الخلخال والمسايس والمناقش" فقال "كلشي عوج وأحمد ما يتزوّج" أي أنّ شكل الحلي أعوج ولهذا لن يتزوّج.
وعن ركب سيدي أحمد بن يوسف أو ركب بني فرح، تحدّثت الحاجة فقالت إنّه حينما يحلّ وقت الركب، تقوم نساء مليانة بإعداد خبز الفطير والتوجّه إلى ضريح سيدي أحمد بن يوسف حيث يتم استقبال الضيوف القادمين من أكثر من منطقة. وهناك في الضريح يوجد مسجد يصلي فيه الجميع، وكانت هناك خادمة الولي الصالح لالة بغورة، مشيرة إلى أنّ الولي الصالح مقامه في العامرة (عين الدفلى) ومدفنه في مليانة.
أما في فصل الربيع، فتقوم الحاجة رفقة قريناتها بغلي البيض والقرنون والصعود إلى الجبل حيث ضريح الولي الصالح سيدي عبد القادر، ويصنعن القهوة ويتبادلن الحديث، إلاّ أنّ هذه الخرجات إلى الجبل لم تعد ممكنة بعد اندلاع الثورة التحريرية. وتابعت طيبوني أنه حينما يحل علينا شهر رمضان المبارك، تنظف البيوت ويصنع الفطير والمبسس والمربي بمختلف أنواعه خاصة السفرجل الذي يطبخ أيضا في طبق "لحم حلو"، مضيفة أنّه في القديم كانت النساء يدا واحدة في الفرح والقرح أما اليوم فـ«الشاطرة تدفن ميتها".
أما عن الأكلات التي تقدّم في رمضان فهي الكسكسي باللحم والدولمة والشوربة التي تتغيّر مكوّناتها حسب الفصول، ففي فصل الصيف تصنع بالكوسة وفي فصل الربيع بالبازلاء والقرنون والفول، بينما تصنع بالخرشف في فصل الشتاء، فيما توضع فيها "المقطفة" التي تسمى بـ«الرمية" التي تصنع يدويا. وتابعت أنهم كانوا يأكلون أكلا "حيّا" فمثلا تقوم النسوة بصنع الكسكسي ثم طبخه وكن يجفّفن الطماطم ثم ينزعن عنها القشور ثم يهرسنها ويضفن عليها الزيت فيكورنها ويطبخن بها. أما عن الحلويات والعجائن التي تصنع في مليانة في بداية القرن العشرين، قالت الحاجة إنّ النساء كن يصنعن المعارك والبغرير والتشاراك والمقروط ثم لاحقا المشوّك.
وحينما يمرض أحدهم بالزكام، يشرب عشبة "لويزة" ولمعالجة السعال يشرب الزعتر المنقوع، ويبخر بمزيج من الزيت والسكر والقهوة، وفي حال كان طفلا يتم شواء الثوم ومزجه بالزيت ويدهن بها صدره أو يشربه، فلم تكن هناك الحاجة للذهاب إلى الطبيب.
و«ماذا عن نفاس المرأة؟"، تجيب الحاجة أنّه حينما أنجبت طفلتها الأولى قامت حماتها بذبح ديك ودجاجة وقالت لها إنّ الدجاجة لها وإنها زوّجت ابنتها أي حفيدتها بالديك، أي أنّ كنتها تأكل الديك لدر الحليب لابنتها، كما طبخت حماتها لها البيض والحليب والزبدة معا ثم قدّمته لها وللجيران. بينما أهدت لها والدتها قطعة صابون لكي تغسل ملابس الرضيع ففي تلك الفترة لم يكن يستعمل الجافيل بل كانت المرأة تضع كمية من الصابون على موقع اتّساخ الملابس وتعرّضها للشمس وحينما تجف تغسلها مستعملة في ذلك ماء البئر أم ماء السانية.
أما عن الأعراس المليانية، فكانت المرأة ترتدي ألبسة تقليدية وفي هذا قالت "كان لأمي سروال من القطيفة طولها 6 أمتار يسمونها "تبروري في المراح"، أما في زمني أنا ظهر سروال شلقة، فقمت بصنع سروالين من سروال أمي الطويل، وارتديت أيضا البرنوس والحايك الذي طرزته بنفسي وما زلت أحتفظ به".
بالمقابل، قالت الحاجة التي لم تدرس طويلا بفعل الأمريكان الذين قدموا إلى الجزائر وصاحبتهم إشاعة خطف البنات. إنها منذ أن أدركت الحياة وتقليد المنارة قائم بمليانة، مضيفة أنّ المنارة أوّلا ظهرت في شرق مليانة، وتصنع بالألواح وتوضع عليها عجلات، ثم أصبحت تصنع أيضا في منطقة زوقالة بفحص مليانة، بعدها تجلب هاتان المنارتان إلى زاوية سيدي أحمد بن يوسف ويحتفل الجميع هناك، ثم تؤخذ المنارات إلى زاوية سيدي بلقاسم ويتجلون بها في المدينة.
وعن الأحجيات التي كانت تقصّ على الأطفال، حكت الحاجة لـ«المساء" أحجية "ودعة مجلية سبعة" عن امرأة أنجبت ستة أولاد وبنت ثم توفيت، كبرت الطفلة وازدادت جمالا فغارت منها زوجات إخوتها فجلبن لها بيضة ثعبان وطلبن منها من باب المرح، بلعها، ففعلت وبعد أيام انتفخ بطنها فصرخت النسوة "ياللعار" فطلب الإخوة من أخيهم الصغير أخذ أختهم إلى الغابة والتخلّص منها والدليل على ذلك وضع بعض من دمائها على فم الكلب.
أخذ الأخ الأصغر أخته إلى الغابة وجرح أصبعها وملأ فم الكلب بدمها ثم طلب منها أن لا تبرح مكانها وذهب بدون رجعة، وغير بعيد فرّ أمير من مملكة أبيه رافضا أن يتزوّج بامرأة لا تروق له، فالتقى بالشابة وأعجب بها جدا، بعدها أطعمها من لحم مشوي مملح جدا ثم علّقها من قدميها في شجرة حفر قرب جذورها حفرة وملأها بالماء ثم طلب منها أن تفتح مبسمها وما إن فعلت خرج الثعبان باحثا عن الماء فقتله الأمير ثم أخذ حبيبته إلى القصر وتزوّجها وبعد أن أنجبت له طفلين طلب منها زيارة أهلها فخافت لكنّه طمأنها وحينما رآها إخوتها وعرفوا قصتها عاقبوا نساءهم شر عقاب.
الفخار.. حرفة الأجداد
تعتبر حرفة صناعة الفخار من بين الحرف التي ازدهرت في مليانة ثم عرفت انتكاسة لتعود شيئا ما إلى الواجهة بفعل وعي الجزائريين بأهمية تناول الغذاء في أطباق صحية، وفي هذا قال الحرفي أحمد بن عاشور لـ«المساء" إنّه كان ميكانيكيا لكنّه لم يكن يحبّ هذه الحرفة رغم إتقانه لها. لهذا تخلى عنها والتحق بشركة خاصة لصنع الأرصفة التي يملكها عميد مسؤولي المناجم بالجزائر، عبد القادر بلحاج، ليعمل كسائق، وهناك وجد الأدوات الخاصة بحرفة صنع الفخار فحاول تعلّمها رغم أنّه حينما كان صغيرا كان لا يتحمّل أن يضع قدميه في الطين، لكنّه لم يستطع ومع ذلك لم يتوقّف عن المحاولة إلى أن التقى بشخصين قدما إلى المصنع وكانا ضليعين في هذا المجال فعلّموه لينطلق في المسيرة التي تدوم منذ 30 سنة.
قال بن عاشور إنّه استفاد أيضا من دورات تكوينية، كما كوّن بدوره حرفيين آخرين، إلاّ أنّه نظرا لتغييره للمحل الذي كان يستأجره إلى محل صغير، فإنّه غير قادر على تكوين الشباب خاصة أنّ أغلبهم متسرّعون لا يصبرون على إنجاز الأواني وتركها تجف ومن ثم بيعها. وأضاف أنه يجلب المادة الأولية من خميس مليانة ويأمل في أن يكون هناك سوق أسبوعي في مليانة حتى يتمكّن من بيع أوانيه الفخارية تجزئة وليس جملة مثلما هو عليه الحال الآن. كما أكّد انجذاب المواطن الجزائري للأواني الفخارية بفضل وعيه لصحتها، خاصة وأنّه لا يطليها رغم وجود طلاء غذائي، إلاّ أنّه يمكن أن يكون مغشوشا.