زيارة لمتحف الإذاعة الوطنية بشارع زبانا

تراث من ذاكرة الأثير

تراث من ذاكرة الأثير
  • القراءات: 1024
مريم ـ ن مريم ـ ن
يخزن متحف الإذاعة الكائن بشارع زبانا الكثير من المعالم والذكريات والوسائل الشاهدة على جانب مهم من تاريخ الجزائر المعاصر. ويسهر القائمون عليه على إيصال هذه الذاكرة للأجيال بطرق ووسائل حديثة تساعد على إدراك هذا التراث الذي هو جزء من الهوية الوطنية الجامعة.
أكد مدير المتحف السيد، عثمان عظامو أن هذا الصرح المهم بالنسبة لذاكرتنا كجزائريين يلقى توافدا كبيرا من الجمهور فقلما يستقبل المتحف في اليوم الواحد أقل من 72 زائرا، وهو دليل على اهتمام الجزائريين بتاريخهم خاصة إذا كان مجسدا بالوثائق والصور والوسائل.
قام الأستاذ عظامو رفقة "المساء" بجولة داخل المتحف مقدما الشروحات الوافية وقد بدأها بالهبة التي قدمها المجاهد، قدور ريان، صديق الراحل مسعودي للمتحف، منها صور ورخص مرور للإذاعة يعود تاريخها لزمن ثورة التحرير.
بالنسبة للكثير من محتويات المتحف، فقد اقتناها السيد عظامو شخصيا بعضها ملكا له وهنا يوضح قائلا: "إلتحقت بالإذاعة سنة 1962 كتقني صوت كان عمري حينها 17 سنة وكان لي الشرف أن كنت أول تقني يسجل للراحل الكبير عيسى مسعودي وكان حينها مسؤولي المباشر وهكذا بدأ مشواري المهني في الصوت والإرسال والتسجيل والبث المباشر ومع حلول سنة 1963 بدأت أتعامل أكثر مع آلة التسجيل اليدوية (مانيفال) وهكذا أيضا استمر مشواري المهني إلى سنة 2006، حيث كانت سنة تقاعدي بعد أن أصبحت رئيس مصلحة".
مشواره التقني في الإذاعة سمح له بمسايرة تطور هذه المؤسسة الإستراتيجية وسمح له أيضا بمشاهدة أحداثا ومراحل مرت على الجزائر المستقلة، فلقد شهد مثلا القمة العربية في بداية السبعينيات وقمة 2006 وحضوره الإعلان عن الدولة الفلسطينية وحادثة تحرير الرهائن الأمريكان من خلال إرسال مباشر من مطار الجزائر وكان يبث على القنوات الأمريكية مباشرة وكذا زياراته رفقة رؤساء ووزراء الجزائر كالراحل بومدين والسيد عبد العزيز بوتفليقة عندما كان وزيرا للخارجية وأيضا في عهد الشاذلي.. وقد كرم مرارا في الجزائر وفي الخارج ويقول في هذا الشأن: "أكثر الرؤساء الذين عملت معهم كان الراحل بومدين، كما تمكنت من خلال عملي وبفضل الفرص التي وفرتها لي بلادي أن أزور الكثير من دول العالم الموزعة عبر القارات الخمس وتمكنت في الكثير من المناسبات من تحقيق الكثير من الروبورتاجات في المكسيك والصين وروسيا وكوبا وغيرها".
عمل السيد عظامو في مجال تكوين الشباب بمركز أولاد فايت، كما كان عضوا في لجنة تحكيم المكروفون الذهبي وأول من أسس استديو محطة تندوف وأول من أسس تظاهرة موقار تندوف. كما كان أول من غطى صحراءنا الكبرى بتقنية الإرسال ابتداء من سنة 1968 وطبعا لكل هذه الانجازات مكانها في أرشيف الإذاعة.
يوجد بالمتحف عدة أجهزة منها جهاز "التلغرام" الذي استعمل أثناء تأسيس الإذاعة السرية وكذا آلات أخرى استعملت هي الأخرى أثناء حرب التحرير واستغلت فيما بعد فترة الاستقلال ومن ضمن ما عرض مثلا ميكروفون كلاسيكي يشبه الذي كان يستخدمه ديغول في خطاباته في الجزائريين وقد استعمله الرئيس بن بلة أيضا، هناك أيضا جهاز إرسال استعمل سنة 1958 في الإذاعة السرية وفي سنة 1962 وضع تحت تصرف مصالح الاستماع التابعة للإذاعة الوطنية، يوجد أيضا جهاز إرسال واستقبال استعمل في سنة 1958 وجهاز آخر مماثل له استعمل سنة 62 لاستقبال الإشارة الصوتية وللربط لاستقطاب الموجات الطويلة والقصيرة.
يوجد أيضا الكثير من الأجهزة كجهاز "ميكسات بلان" الذي استعمل حتى سنة 1970 و«مانيتوفون" يعود تاريخه لسنة 1970.
بالمتحف أجهزة راديو قديمة تعتبر من التحف الراقية الآتية من عمق الزمن الجميل إذ كانت فيما مضى جزء من ديكور البيوت الجزائرية لا تستغني عنها العائلات التي تجتمع حولها في سماع حميمي دافئ، كذلك الحال فيما تعلق بأجهزة الهواتف التي يعود تاريخ بعضها إلى سنة 1960 وكلها خاصة بالعمل الإذاعي. وقد أشار السيد عظامو أن هذه الأجهزة جلبها من مخزن الكاليتوس إضافة إلى بحثه المستمر عنها في كل الأماكن وقد وجد بعضها يعود زمنه إلى سنة 1950. كما أشار السيد عظامو إلى بعض الآلات الثقيلة المعروضة، بعضها يزن حوالي 800 كلغ كان يحملها على ظهره للتسجيل ليتذكر أنه حملها سنة 1969 عندما زار سوريا رفقة مسؤولين سامين لمعاينة تراث الأمير هناك، ويؤكد أن هذه الأجهزة تركت له آثار آلام على كتفه يعاني منها اليوم.
أشياء أخرى كثيرة بالمتحف منها صور للمدراء والمسؤولين الذين تعاقبوا على إدارة الإذاعة وصور للراحل مسعودي والرعيل الأول من الإذاعيين وكذا الرؤساء منها زيارة تفقدية للإذاعة قام بها الراحل بومدين للإذاعة سنة 1967 وصور للمجاهدين والمناضلين الذين أسسوا أو عملوا في الإذاعة السرية وصور بعض الفنانين منهم صورة للراحلة وردة في بداية الستينيات وهي تجلس بأحد استوديوهات الإذاعة وهناك أيضا المناشير الخاصة بالإذاعة إبان الثورة، منها منشور صدر سنة 1958 بمكتب الجبهة بالعاصمة عمان وكذا العديد من الوثائق والرسائل والبرقيات منها تلك الخاصة بالإذاعات الأجنبية الموجهة لوزير الإعلام بالحكومة المؤقتة.
توجد أيضا أسطوانات قديمة لحصص إذاعية مشهورة منها مثلا الحصة الصبيانية "الحديقة الساحرة" وأسطوانات أخرى قديمة للسيدة يامنة وتيطمة ومريم فكاي، وعلقت أيضا شهادات تكريمية وشرفية نالتها الإذاعة وعمالها عبر مختلف المحافل داخل وخارج الوطن.
للإشارة، يوجد بالمتحف ثلاث قاعات وميدياتيك ومكتبة وأيضا مكتبة أغاني وقد التقت "المساء" بالمناسبة بالسيد عبد الله بوصلاح المسؤول عن الأرشيف في المتحف والذي رافقها إلى قاعة المدياتيك التي تحوي الكثير من تراث الإذاعة ويمكن للزائر أن يحصل على أي معلومة من خلال جهاز الحاسوب الذي وثقت وصنفت فيه كل المعلومات وذلك من خلال تبويب خاص منه مثلا باب خاص بـ«وزراء الإعلام في الجزائر منذ الإستقلال" وباب خاص بأسماء ومسارات الفنانين ابتداء من رشيد القسنطيني وآخر عن أشهر البرامج الإذاعية وباب متعلق بالأغنية الجزائرية مقسم بدوره إلى أبواب منها "الشعبي" و«البدوي" و«الصحراوي" و«الأناشيد الوطنية" و«القبائلي" و«العصري" وغيرها.. وفي كل نوع توجد العديد من الأسماء الفنية المعروفة. وحسب السيد بوصلاح، فإن هذه المكتبة تتعزز كل يوم بأسماء فنية جديدة.
من البرامج التي شملها التصنيف استمعت "المساء" مثلا إلى مقاطع مختارة من برنامجين شهيرين بالقناة الإذاعية الأولى وهما "حوار في الذاكرة" و«شخصيات من المغرب العربي"، علما أن البرامج بدورها مصنفة حسب مواضيعها، فمنها الحوارات ومنها التحقيقات سواء في التاريخ أوالمجتمع أوالاقتصاد أوغيرها. ويوجد أيضا ألبومات للصور يعود بعضها إلى فترة الاستعمار ويظهر فيها فنانون جزائريون عملوا في الإذاعة متشبثين بهويتهم ووطنهم في ظروف صعبة.
على بعد خطوات توجد المكتبة وفيها حوالي 200 عنوان تتناول كلها تاريخ الإذاعة الجزائرية، علما أن الكثير من العناوين ركز على الإذاعة السرية باعتبارها من الانجازات الهامة التي حققتها ثورة التحرير وكانت الأساس للإذاعة الوطنية الجزائرية بعد استرجاع السيادة الوطنية.     
 ألح مدير المتحف على التأكيد بأن هذا الصرح الذي يحمل ذاكرة الإذاعة أنجز في ظرف لم يتعدى الـ20 يوما وكان العمل فيه ليل نهار، معتبرا ذلك امتدادا لنضال أبناء جيله في بداية الاستقلال حيث قال: "كان العمل والتفوق يسبق عندنا المال وكان قدوتنا كشباب، الراحل مسعودي، فهو التحدي الذي لا يزال متقدا  فأنا مثلا هجرت من مدينتي بتقرت وجئت إلى أخوالي بالعاصمة بعدما أحرقت فرنسا أملاك أبي وبساتينه نتيجة انضمامه للثورة لمني أصررت على الدراسة والنجاح وخدمت بلدي التي أعطتني كل شيء وسافرت من خلالها إلى أصقاع العالم".
للتذكير، فإن السيد عظامو يستقبل بنفسه الزوار ويقدم لهم التوضيحات ولا يكف عن العمل رفقة القائمين على المعرض الذين كان أغلبهم من الشباب.
السيد عظامو بعد التقاعد أصبح منتجا سينمائيا تعامل مع لمين مرباح في "المفقودة". إضافة لأفلام أخرى منها "أمزران" و«أدا محند" وكتب مؤخرا سيناريو فيلم وثائقي روائي بعنوان "واد ريغ" وهو واد جوفي ردمته الرمال يمتد من المغير حتى تقرت ويطرح فكرة إعادة الاعتبار للنخيل وللحياة الأصيلة للمنطقة والتي بدأت تندثر.