عملية "المنظار" بالولاية الثالثة التاريخية

جريمة بشعة اقترفتها أيادي الاحتلال الفرنسي

جريمة بشعة اقترفتها أيادي الاحتلال الفرنسي
  • القراءات: 2032
ق.ث ق.ث
أسفرت عملية "جوميل" أو "المنظار"، التي أطلقت في 22 جويلية 1959، عن استشهاد أكثر من 7500 مجاهد من بين 12.000 بالولاية الثالثة التاريخية، من خلال استعمال تخطيط حربي جديد يعتمد على جهاز عسكري هام، يضم ما يزيد عن 60.000 عسكري، حيث اعتبر الجيش الفرنسي أن منطقة القبائل تمثل المركز الحساس لحركة التمرد وأن إعادة السلم إلى المنطقة سيضع حدا للتمرد عبر كافة أرجاء الجزائر.
حسب المجاهد آيت أحمد سي والي ضابط في صفوف جيش التحرير الوطني، فإن هذه العملية التي تم بعثها في إطار برنامج عمل الجنرال "شال" القائد الأعلى للجيش الفرنسي، اقترحت على الجنرال "ديغول" من قبل اللجنة الإدارية للقبائل الكبرى آنذاك (المعادلة للمجلس الشعبي الولائي حاليا) التي صادقت خلال جلستها المنعقدة في 5 يناير 1959 على لائحة تدعو الجنرال "ديغول" إلى تعزيز القوة العسكرية بمنطقة القبائل.
وفي تبريرهم لدعم الجهاز العسكري، صرح مندوبو المقاطعات الذين من بينهم الجنرال فور (الممارس للسلطة المدنية والعسكرية بالقبائل الكبرى) ودلوفريي (مندوب عام بنفس المقاطعة) وعزام والي (نائب بالمجلس الوطني لتلك الفترة) بأنهم "يسعون من أجل صالح السكان المحليين"، معتبرين أن "منطقة القبائل تمثل المركز الحساس لحركة التمرد، بالتالي فإن إعادة السلم إلى المنطقة سيضع حدا للتمرد عبر كافة أرجاء الجزائر(...)".
وقد استجاب الجنرال ديغول لهذا المطلب، وقام بتعزيز التواجد العسكري بمنطقة القبائل بالوسائل المادية والبشرية وأسندت قيادة الجيش إلى الجنرال "شال" المكلف بتنفيذ عملية "جوميل". وقام هذا الأخير بتنصيب مركز قيادته الذي سمي بـ"أرتوا" بالممر الجبلي لشلاطة في أعالي مرتفعات جرجرة.
وأطلقت عملية "جوميل" بعد مرور سنة على الاعتراف بالقضية الجزائرية من طرف منظمة الأمم المتحدة وميلاد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وأطلق على العملية بهذه التسمية نسبة إلى المنظار الذي كان يستعمله الجيش الفرنسي لرصد تحركات المجاهدين والسكان.
وتمثلت العملية في تنفيذ عمليات تمشيط متكررة، الهدف منها مطاردة المجاهدين بواسطة قوات مدعمة بالمروحيات والطيران الحربي، بغرض عزل عناصر جيش التحرير الوطني وإنشاء مناطق محظورة وإجلاء القرى وحشد السكان في مراكز محاطة بالأسلاك الشائكة وخاضعة لرقابة مشددة.
وكان هذا الجهاز مرفوقا بغرف للتعذيب هيئت داخل أقبية المراكز المتقدمة لتسليط أشد أنواع العذاب على كل عنصر مشبوه فيه التعامل مع المجاهدين، وأسندت مهمة تنفيذ العملية إلى الجنرال "شال" بمساعدة الجنرالات صالان وزيلر وغيرهم من الجلادين، حيث كلفوا بـ"تطهير" أدغال جيش التحرير الوطني بإمطارها بوابل من النيران بمساهمة القوات البرية والجوية التي من ضمنها "الفهود" (رجال المظلات) الذين قاموا بدور أساسي في هذه العملية، حسب شهادات المجاهدين آيت أحمد سي والي وأزواو عمار وعصماني بلقاسم، وهم على التوالي أمينا الولاية الثالثة التاريخية وقائد المنطقة الصحية بنفس الولاية. 
وشرع في جويلية عام 1959 أصحاب القبعات الخضراء (المظليون) في الهبوط من المروحيات في سماء المرتفعات الغابية وبعض النقاط الإستراتيجية، على غرار جرجرة ومرتفعات الأكفادو والصومام وتامقوت وسيدي علي بوناب ومزرانة.
وأضاف المتحدثون أنه "في تلك الصائفة، شوهد عناصر (البارا) ينتشرون بكثافة في الأرض، في الوقت الذي كانت كتائب جيش التحرير الوطني تتضاءل بشكل ملحوظ.   
وفي كل عملية قصف للقرى بقذائف المدفعية المصحوب بالغارات الجوية، يظهر أفراد الكومندوس المعروفين بـ "جنود بالبوا" الذين يتميزون بوحشية كبيرة، حيث يقومون بالإجهاز بواسطة رشاشاتهم على كل ما تبقى حيا بعد موجات القصف.
هكذا قام العدو بزرع الرعب في أوساط سكان القرى لعزلهم عن المجاهدين وتجويعهم لإجبارهم على "الخروج من مخابئهم"، حسب المجاهد سي والي الذي ذكّر في هذا السياق بالاستعمال المكثف للقنابل الحارقة (نابالم).  
تجدر الإشارة إلى أن الجنون المدمر لعساكر الاحتلال لم يستثن النساء ولا الأطفال ولا حتى الشيوخ والمرضى. فكل من يشك في أنه يساند المجاهدين كان يعرض نفسه لاستنطاق مرهق، تستعمل فيه أشد وأبشع أنواع التعذيب. وكان غضب العدو يتضاعف إثر كل هزيمة مني بها في مواجهة جيش التحرير الوطني، حيث كان ينتقم بطريقته الخاصة من السكان العزل، لاسيما النساء. 
وشهدت كل قرية مثل هذه الأحداث البشعة من صنع " البارا" ومرتزقة جيش الاحتلال المكلفين بكسر شوكة السكان المحليين، يضيف المجاهد سي والي. 
وفي حديثها عن سنين الجمر، تتذكر المجاهدة عبد اللاوي حليمة، على سبيل المثال، أنه في أواخر سنة 1959 لم يبق من المسنين على قيد الحياة بقرية "إيغيل إيمولا" سوى عشرة أشخاص، حيث قضى العدو على كل الرجال الأصحاء بغرض عزل أدغال جيش التحرير الوطني، إلا أن النساء قمن بتنظيم أنفسهن في شكل شبكات مكلفة بالاتصال وتموين المجاهدين.
وكانت هذه الشبكة متكونة من العرباني وردية ولوناس وردية وعبد اللاوي حليمة وقاصد تساعديت وقاصد لويزة. وواصلت الشبكة نشاطها إلى أن تم تفكيكها في منتصف سنة 1960 بعد التبليغ عنها من طرف أحد الخونة، تتذكر السيدة عبد اللاوي. 
وسمحت هذه المشاركة في حرب التحرير بفك الخناق عن أدغال جيش التحرير الوطني من خلال تقديم الدعم اللوجيستيكي الضروري للمجاهدين من مؤونة ومعلومات ومساعدتهم على إزالة ما لا يقل عن 28 مركز مراقبة للعدو، كما أكده المجاهد سي والي.
يشار إلى أن عملية "جوميل" التي تعد جزءا من مخطط الجنرال "شال" الذي يضم عمليات أخرى، تم إطلاقها عبر التراب الجزائري، على غرار "لاكورون" و"لاسيقال"  و"لاكوروا" و"تريدون" و"ريبي" وغيرها، أسفرت حسب المجاهد أزواو عمار، عن استشهاد أكثر من 7500 مجاهد من بين 12.000 الذين كان يعدهم جيش التحرير الوطني في تراب الولاية الثالثة التاريخية المتشكلة آنذاك من الولايات الحالية لكل من تيزي وزو وبجاية وجزء من ولايات بومرداس والبويرة وبرج بوعريريج وسطيف والمسيلة. 
ورغم الخسائر التي ألحقها الوابل من النيران بصفوف جيش التحرير الوطني، فإن عملية "جوميل" باءت بالفشل، باعتراف من الجنرال "ديغول" نفسه، رغم تكثيفه للوسائل من أجل إخماد الثورة بمنطقة القبائل. 
ففي رسالة وجهها إلى جنرالاته بتاريخ 26 ديسمبر 1959، كتب "ديغول" بعد أن ذكر بأن فرنسا بعثت ما يزيد عن 500.000 جندي إلى الجزائر وتصرف 1000 مليار فرنك سنويا لتمويل الحرب؛ "(...) ورغم كل التأكيدات والوعود والأوهام فإن مجموع السكان المسلمين لم " يلتحق بنا". 
واختتم الجنرال يقول؛ "حسب ظن المتخيلين أو اللامبالين، فإنه يكفي أن نكون الأقوى حتى ينضم إلينا المسلمون. فأية قوى إضافية ينبغي علينا استعمالها حتى نجعلهم ينضمون إلينا؟ ...".