هندسة الصدأ

حين يتحوّل الجدار إلى ذاكرة ضوء

حين يتحوّل الجدار إلى ذاكرة ضوء
  • 171
لطيفة داريب لطيفة داريب

يشهد المركز الثقافي الجامعي، هذه الأيام، تنظيم معرض التصوير الفوتوغرافي الجديد للفنان المكسيكي غوستافو فارغاس، أستاذ التصوير بجامعة إيبيرو أمريكانا في مدينة تيخوانا. ويضم المعرض 24 لوحة فوتوغرافية بعنوان "هندسة الصدأ: الهياكل التي تروي قصة العبور على الحدود".

يقدّم فارغاس في هذا المعرض تجربة بصرية تتقاطع فيها التأمّلات الجمالية والفلسفية؛ إذ يسعى من خلال عدسته إلى استكشاف العلاقة بين الزمن والضوء والمكان، في فضاء تتواجه فيه الذاكرة مع الجدار، والإنسان مع الحدود. وتُوثّق الصور جدرانا معدنية تمتدّ على الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة، لكنّها لا تقف عند بعدها السياسي المباشر، بل تتحوّل إلى رمز مزدوج للانفصال والاتصال في آن واحد. فالمعدن الذي يشكّل هذه الحواجز، كما يقول الفنان، مادة قابلة للصدأ، تتآكل مع الزمن كما تتآكل الحواجز التي نحملها داخلنا.

ويقول فارغاس عن تجربته: "وجدت في التصوير وسيلة لأقول ما أراه وما أشعر به. إنّ التقاط لحظة معيّنة ومشاركتها كما أعيشها، فعلُ تأمّل وتواصل في الوقت نفسه. فالتصوير بالنسبة لي، استعارة لعين الآخر، ومحاولة لخلق دهشة أو حوار من خلال الصورة". كما يعتمد الفنان في مقاربته البصرية على قواعد الضوء، والتكوين، والسرد الفوتوغرافي، مستحضرا المكان كذاكرة متحرّكة لا تعرف السكون. وتظلّ مدينة تيخوانا محورا رئيسيا في تجربته؛ إذ تمثّل نقطة عبور حية، تختزن قصص الانتظار، والانتماء، والرحيل.

وفي هذا المعرض، يمتزج الجانب التقني الدقيق بالحسّ التأمّلي العميق، ليقدّم دعوة للتفكير في ما تبنيه الجدران المادية، وما تهدمه داخل الإنسان. فبعدسة فارغاس يتحوّل الحديد إلى كائن يتنفّس الصدأ والضوء، وتغدو الصورة مساحة للذاكرة والمقاومة في الوقت نفسه. ومنذ اللحظة الأولى التي يواجه فيها الزائر لوحات الجدار المعدني، يدرك توق الفنان إلى مساءلة الحواجز المادية والرمزية. فالجدار، في رؤيته، ليس مجرّد بناء صلب يفصل ويمنع، بل كيان حيّ قابل للزوال والتلاشي، ينهكه الزمن والعوامل الطبيعية. 

ويشير فارغاس إلى أنّ قسوة المعدن ليست سوى مظهر مؤقت، إذ أنّ الصدأ قدره المحتوم، تماما كما يتهالك كلّ ما يُبنى على الفصل والعزلة. وقد سبق للفنان عرض أعماله في المركز الثقافي الجامعي ضمن تجربة تناولت المكان بوصفه ذاكرة حيّة؛ إذ لم يلتقط الصورة كوثيقة باردة، بل كسيرة ضوء، وظلّ، وزمن. ونجح آنذاك في إقامة حوار بصري بين المشاهد والمكان، حتى بدا الزائر كأنّه جزء من المشهد لا متفرّج عليه.

وفي هذا المعرض الجديد، يستخدم فارغاس الضوء كعنصر سردي لا كمجرد إضاءة. ففي بعض الصور تسقط أشعة الشمس بزوايا حادة تكشف خطوط الصدأ، والزوايا الحديدية. وتخلق ظلالا تتلوّى حول القضبان؛ كأنّها تهمس بقصص الحدود. وفي صور أخرى يغمر الضوء المساحات المعدنية بوهج هادئ بين الليل والنهار؛ في مشهد يلتقط بطء الزمن وهو يمرّ. ولا يقتصر المعرض على الأثر الحسّي، بل يتجاوز ذلك إلى تأمّلات في الهوية، والانتماء، والتقسيم. فعند مواجهة صفوف القضبان المتكرّرة، يتساءل الزائر: "هل هذه الصور توثّق حاجزا حدوديا فقط، أم أنّها مرآة لحدود داخلية نصنعها بأنفسنا، بين ما نُظهره وما نخفيه؟".

هكذا لا يكتفي فارغاس بمقارنة الحدود الخارجية والداخلية، بل يزرع في مادته البصرية، زمنا آخر... زمن الصدأ، وزمن النسيان. أما ما يميّز هذا المعرض عن معارضه السابقة، فهو أنّه يتعامل مع فكرة الجدار من الداخل لا كرمز ثابت، بل كمادة متحوّلة، تتمرّد على صلابتها. وبذلك يعمّق الفنان مساره الفني، ويمنح زائريه تجربة تأملية، تدعوهم إلى التصالح مع الحدود التي نبنيها... أو تلك التي تُبنى حولنا.