رحيل زهير عبد اللطيف
ذاكرة من زمن الثورة، ورعاية للمواهب بعد الاستقلال

- 588

توفي المجاهد والمدير الأسبق للقناة الثانية بالإذاعة الجزائرية، زهير عبد اللطيف، أول أمس، عن عمر ناهز 87 سنة، تاركا فراغا كبيرا، بعدما كان مرجعا للأجيال يأخذ بيدها في المجال السمعي البصري، ناهيك عن ذاكرته التي تحمل أحداثا سياسية وثقافية، عاشتها الجزائر قبل وبعد الاستقلال. كان زهير عبد اللطيف مجاهدا في المنطقة المستقلة بالولاية التاريخية الرابعة، إبان ثورة التحرير المجيدة، كما تولى عدة مناصب في الإذاعة والتليفزيون، حيث كان مستشارا، وقدم عدة برامج، أبرزها "جنة الأطفال".
ومن الذين عرفوا الراحل وتأثروا لرحيله الفنان القدير باديس فضلاء، حيث كتب “كلفني عمي الزهير" سنة 1993 بإخراج حصة تاريخية كتبها للإذاعة، حول مواقف بعض المجاهدين الأبرار أثناء اندلاع ثورة التحرير، فحاولت أن أجسد إبداعاته الكتابية في مؤثرات صوتية وموسيقية، تضفي الجو الحقيقي لتلك الفترة الصعبة من الحقبة الاستعمارية، وعندما وصلنا إلى مرحلة معينة لا أذكر الآن تفصيلها، أردت تجسيد الحضور الاستعماري لنعيش وجدانيا تلك الفترة، لتحقيق الإيحاء بزمن الحدث وبطبيعة المكان ومحتوياته، فقررت استخدام نشيد فرنسا الوطني ليرافق حديث الراوي.. وفجأة، توقف “عمي الزهير” عن الكلام، وغادر الاستديو متجها نحوي وهو يقول ويردد: (أما هذا، فلا...!!) لم يستطع تحمل سماع النشيد الوطني الفرنسي، رغم أن هذا في إطار تجسيد الظروف الحقيقية للموضوع.. لم يتحمل الأستاذ زهير عبد اللطيف سماع هذه النغمة الاستعمارية مهما كان السبب والمسببات...!". وأضاف فضلاء قائلا "ما أعظمك يا "عمي الزهير"، وما أجمل مشاعرك الوطنية التي بقيت كما كانت حين كنت تجاهد وتناضل من أجل هذا الوطن المفدى، كان لك فكر صائب، ونظر سديد، وخلال عذبة، وأخلاق فاضلة، كنت وقورا محتشما جميل الطباع، رحمك الله برحمته الواسعة، وألهم حرمك وأبناءك".
أما الكاتب محمد بوعزارة، فأكد أن الراحل فتح عينيه على عالم الإذاعة والتلفزيون، مشيرا إلى أنه عرفه منذ 57 عاما بالضبط. مضيفا أنه كان حينها في سن السادس عشرة من عمره، أي طالبا في ثانوية "عبان رمضان" بالحراش في العاصمة، حيث أقنعه أحد رفقاء الطفولة الراحل الربيع أمزيان رحمه الله، بالانضمام إلى برنامج إذاعي أسبوعي خاص بالأطفال عنوانه "جنة الأطفال"، كان ذلك في التاسع من أوت 1965، عندما وجد نفسه يقتحم استوديو الإذاعة في شارع “الشهيد أحمد زبانة”، وكان ذلك هو ميلاد جديد بالنسبة للمسار الذي عرفه لاحقا على امتداد الأعوام، التي قضاها في شارع زبانة وشارع الشهداء وشارع ديدوش مراد، خلال فترة امتدت من 9 سبتمبر 1965 إلى جوان 1997. كان يشرف على ذلك البرنامج الإذاعي المخضرم الراحل زهير عبد اللطيف رحمه الله، وقد وجد لديه كل التشجيع، إذ لم تنقطع العلاقة معه على الإطلاق منذ ذلك الوقت.
لقد سبق للأستاذ بوعزارة أن كتب عن الراحل زهير عبد اللطيف في عدد من كتبه، من بينها “مسيرة حياة من الخيمة إلى البرلمان” طبعة 2013.. وطبعة 2021.. و"عشت مع أولئك وعرفت هؤلاء".. و"من حكاياتي عنهم ومعهم.."، ويشهد بوعزارة على أن الراحل كان يتميز بدرجة عالية من اللطف والأخلاق، حيث جعل من العديد من أطفال الأمس أسماء كبيرة في عوالم مختلفة، خاصة عالم الإذاعة والتلفزيون، وكان ذلك البرنامج بحق مدرسة تخرج منها عدد كبير من الإذاعيين والإذاعيات المشاهير، من أمثال جلال شندرلي وعبد الرزاق جبالي وعدد كبير من الممثلين والممثلات، منهم جميلة عراس وفريدة كريم وحفيظة بضياف، وغيرهم وغيرهن من الأسماء التي ساهمت خصوصا في عالم المسرح الإذاعي والتمثيل، بما فيه المسرحي والتلفزيوني، إلى جانب أسماء أخرى برزت في عدة ميادين.
للإشارة، كان المرحوم زهير عبد اللطيف أحد العناصر البارزة في الشبكة التي أقامتها جبهة التحرير الوطني لدعم الثورة أثناء ثورة أول نوفمبر الخالدة، في مبنى الإذاعة والتلفزيون الفرنسي، فقد كانت تلك الشبكة التي كان على رأسها المجاهد المرحوم اسماعيل مدني، تضم العديد من أبناء وبنات الجزائر، الذين كانوا يعملون بالإذاعة والتلفزيون الفرنسي لصالح الثورة، وهو ما جعل والد الشهيد الرمز محمد العربي بن مهيدي يقول ذات يوم للمرحوم اسماعيل مدني مستغربا “كيف يمكن لكم أن توفقوا بين عملكم في الإذاعة الفرنسية، وتعملون في نفس الوقت كمجاهدين لصالح الثورة؟".
وهذا ما روته ذات يوم، السيدة سامية أرملة الراحل اسماعيل مدني، التي خلفت الراحل زهير عبد اللطيف في نهاية الستينيات لتقديم برنامج “جنة الأطفال”، مع العلم أن السيدة سامية أطال الله عمرها، كانت تقدم البرنامح الإذاعي اليومي المشهور “البيت السعيد”، وهو برنامج كان مخصصا للنساء. وقد كانت مشاركة هؤلاء في دعم الثورة من داخل إحدى المؤسسات الاستعمارية الفعالة آنذاك، واحدا من الأسرار الكبيرة التي حملتها معها ثورة أول نوفمبر الخالدة، التي كانت بحق من أعظم الثورات. كما أشار بوعزارة إلى أن الراحل زهير عبد اللطيف عاش جزءا من طفولته في الجلفة، وكان من أشد أنصار فريق مولودية الجزائر العاصمة.