بيونة تترجّل في يوم حزين وماطر
ضحكة وطن لا تنطفئ
- 193
د. مالك
لا يمكن الحديث عن الكوميديا والدفء الشعبي في الجزائر دون أن يلمع اسم باية بوزار، أو كما عرفها الجمهور بحبّ كبير "بيونة"، رحلت صباح أمس الثلاثاء، في يوم رمادي ماطر، بعد صراع طويل مع المرض، تاركة خلفها إرثًا فنيًا يفيض بالحياة، ويجسّد روح الجزائر المتفائلة مهما اشتدت العواصف.
كانت بيونة واحدة من أبرز الوجوه الفنية في الجزائر، فنانة متعدّدة المواهب، صنعت عبر عقود من الزمن جزءًا لا يمحى من الذاكرة الجماعية. أحبّها الناس لأنّها كانت تشبههم: مرحة، صادقة، جريئة، لا تُجامل أحدًا ولا تُهادن، لكنّها في الوقت نفسه تحتفظ بابتسامة كبيرة تسكن ملامحها مهما قست الظروف. امرأة حرة، قوية الروح، عاشقة للفن والوطن والحياة.
طفلة من بلكور.. تولد للفن
وُلدت بيونة في 13 سبتمبر 1952 بحي بلكور العريق في العاصمة الجزائرية، وسط عائلة عرفت الفن عن قرب. والدتها كانت تعمل بإحدى دور السينما، اصطحبتها شقيقتها المغنية ليلى الجزائرية، منذ طفولتها إلى استوديوهات الإذاعة. هناك، تفتّحت على عالم الفن مبكّرًا، وتعلّمت الإيقاع، الصوت، والحركة، قبل أن تدخل المجال كراقصة، ثم كممثلة في سن التاسعة عشرة. في عام 1973، خطفت الأنظار كلّها بدور فاطمة، في مسلسل "الدار الكبيرة" للمخرج مصطفى بديع المقتبس من رواية محمد ديب. لم يكن دورًا عابرًا، بل نقطة التحوّل التي جعلت بيونة وجهًا مألوفًا ومحبوبًا على مستوى الوطن.
روح لا تشبه إلاّ نفسها
رغم توالي الأعمال خلال السبعينيات والثمانينيات، لم تكن بيونة دومًا منسجمة مع الثقافة الرسمية السائدة آنذاك، فاختارت أن تشقّ طريقها بحرّيتها الخاصة، فعادت إلى الغناء والرقص، وقدّمت عروضًا فردية كوميدية كانت الأولى من نوعها، فنجحت بفضل عفويتها وقربها الشديد من الناس، وقدرتها على تحويل اليومي البسيط إلى نكتة كبيرة تلامس الجميع. كانت بيونة تقول الحقيقة بلا خوف، وتطلق ضحكتها بلا حساب، وتتعامل مع الشهرة كأنّها لم تحدث، محافظة على بساطتها التي كانت سرّ حبّ الجمهور لها.
شكّل عام 1999 محطة فارقة حين غادرت الجزائر لأول مرّة لتجسيد أدوار عديدة في مجموعة من الأفلام، مع المخرج نذير مقناش. ومن هناك، انطلقت رحلة جديدة نحو فرنسا، فأصدرت ألبومها الغنائي "Raid Zone" عام 2001، وشاركت في عدة إنتاجات سينمائية ومسرحية، دون أن تتخلى لحظة عن جذورها. عادت بعدها إلى الجزائر لتشارك في أوّل سيتكوم ناجح جماهيريًا، مجسّدة شخصية "مدام بيونة" التي كرّست مكانتها كأيقونة للكوميديا الجزائرية، خصوصًا بعد مشاركتها في سلسلة "ناس ملاح سيتي"، التي صار اسمها لصيقًا بها لدى الجمهور.
أدوار ترسم البهجة.. وأخرى تغوص في العمق
برعت بيونة في الجمع بين الكوميديا والدراما، فتألّقت في أعمال مثل "Viva Laldjérie" (2003)، قبل أن تسطع بقوّة في "Délice Paloma" (2007)، حيث جسّدت شخصية "مدام ألجيريا" بعمق إنساني كبير، لتقدّم واحدًا من أهم أدوارها. وفي المسرح، واصلت تقديم عروضها الفردية دون كلل، مؤكّدة أنّها فنانة لا تُصنَّف بسهولة، لأنّها تمتلك كلّ ألوان الفن وتعرف كيف تقدّمها.
في فيلموغرافيتها عشرات الأفلام الناجحة، من "ليلى والأخريات" (1978) إلى "À mon âge je me cache encore pour fumer" (2017)، إلى أعمال فرنسية وجزائرية رسّخت حضورها على الشاشة الكبيرة. أما التلفزيون، فقد ارتبطت به ارتباطًا وثيقًا من خلال أعمال مثل "ناس ملاح سيتي"، "نسيبتي لعزيزة"، "دار البهجة"، وسلسلة "عائشة" الفرنسية، وغيرها من الأعمال التي جعلت حضورها مألوفًا في البيوت الجزائرية.
وجه يشبه الوطن
لم يحبّ الجزائريون بيونة لأنّها فقط ممثلة بارعة، بل لأنّها تمثّل روح الجزائر نفسها: مرحة، صبورة، عنيدة، متجذّرة في تراثها، ومُحبة للحياة رغم صعوباتها. كانت تعرض الفرح كما لو أنّه رسالة يومية، وتنثر الضحك كما لو أنّه ضرورة للبقاء. في عام 2024، زاد احترام الجمهور لها بعد تكريمها من طرف "نادي قدماء الإعلام والثقافة"، حين مُنحت وسام الاستحقاق والتميّز اعترافًا بمسيرتها الغنية. بدت يومها متأثّرة وممتنّة، وكأنّها تودّع الجمهور بشكر صامت.
وداع حزين.. ورسائل تعزية
مع إعلان خبر رحيلها، عمّ الحزن الأوساط الفنية والثقافية. نعّاها فنانون ونجوم من مختلف الأجيال، حيث قالت وزيرة الثقافة والفنون مليكة بن دودة "ببالغ الحزن والأسى، نستقبل نبأ رحيلك، يا من كنتِ أيقونة متفرّدة من أيقونات الفن الجزائري. لقد تفتّح اسمك في وجداننا كزهرةٍ في بستان الثقافة، بين المسرح والغناء والدراما، وأنتِ التي أبهرْتِنا بجرأتك، وبساطتك، وقوة حضورك الذي لا يُشبه إلّا نفسه".
واسترسلت في تعزيتها "أسترجع كلماتنا حين زرتُكِ في المستشفى الأسبوع الماضي، تلك اللحظة التي رأيتُ فيها في عينيكِ نفس الشغف بالحياة، ونفس الغِنى الإبداعي الذي منحته لنا منذ عقود. لم تكون مجرد فنانة، كنتِ أمًّا للفن، ورسختِ رمزية المرأة الجزائرية، وعبّرتِ عن نبض الشارع وروح الإبداع، حتى أصبحتِ مرآةً تُجلي ملامح تاريخنا، وأحلامنا، وآلامنا، وفرحنا". وختمت "إنّ خسارتك هي خسارة للغنى الثقافي الجزائري. فكلّ دور جسدتِه، وكلّ كلمة غنيتِها، وكلّ ضحكة أطلقتِها فوق خشبة المسرح، ستظل ترنّ في أذن الزمن، وتُلهم الأجيال القادمة. فمن عاش في قلب الشعب، لا يرحل".
من جهته، وصف المخرج المسرحي كريم بودشيش، الراحلة بأنّها "روح مرحة وصوت دافئ ووجه ارتبط بضحكتنا وذكرياتنا". كما قدّم مسرح سيدي بلعباس، ومديره رشيد جرورو، تعازيه مؤكّدًا أنّ بيونة كانت "رمزًا من رموز الفن الجزائري وصوتًا لامس القلوب". أما المجلس الوطني للفنون والآداب، فقد رثاها بعبارات مؤثّرة، مؤكّدًا أنّ الجزائر فقدت قامة فنية سامقة، وأنّ إرثها سيبقى خالدًا في ذاكرة الأجيال.من جهته، كتب الروائي أمين الزاوي على حائطه في الفايسبوك، "وداعا بيونة... هي ساعة رحيل فنانة الجرأة النادرة، والوفاء المطلق للفن، والصدق والشفافية في الحياة، والضحكة البريئة التي لا تنطفئ لحظة"، وتابع "ولأنّك الفنانة التي لا تعوض، أبدا لن ينساك الجمهور الجزائري في الوطن كما في المهاجر !".