عمي السعيد قوّال التلاغمة .. صندوق للموروث الشعبي
فارس الحكمة وحافظ كنوز الأجداد
- 1213
يحرص عمي السعيد (عبد الوهاب قربع) على التمسك بإرث أجداده بمنطقة التلاغمة جنوب ولاية ميلة، ويسعى لنقله للخلف القادم على غرار الفروسية والفنتازا والفولكلور، وكذا التراث الشفهي كالحكم والعبر المأخوذة من "أقوال زمان" التي يحفظها عمي السعيد منذ أزيد من أربعة عقود.
إمتهن عمي السعيد البالغ من العمر 70 عاما، وهو أب لـ9 أبناء (5 ذكور و4 بنات) الفلاحة وتحلى بصفات الفارس التي أخذها من والده المرحوم أحد أهم فرسان منطقة التلاغمة في وقته، ولكن لم تتسن للسيد قربع الذي يصف نفسه بـ "الأمّي" فرصة الدراسة إلا بكتّاب القرية الصغيرة التي ولد بها وهي "دخلة بلوم" بالتلاغمة، ليتحول منه مباشرة إلى الزراعة ورعي الأغنام باعتباره نشاط العائلة الأساسي.
خلال سنوات السبعينيات وجدت هذه الشخصية لنفسها مخرجا من "روتين" الحياة البسيطة، بعدما تسنى لـ«عمي السعيد" التنقل مع والده بين القرى والمدن المجاورة للتلاغمة وحتى البعيدة عنها قاصدين مجالس الزوايا أو الأسواق والأفراح، وقد وجد في ذلك فرصة لـ«تصيّد كلّ ما هو جديد" بعيدا عن الحياة في قريته "دخلة بلوم".
شيئا فشيئا، بدأ الشاب السعيد الذي كان يحرص على عدم تفويت فرصة التنقل مع الوالد رصيدا لا بأس به من الأمثال والحكم والمقولات التي كان يسمعها من "القوّالين" الذين التقى بهم في ترحاله، ومنهم الحاج الجموعي من الدوسن ببسكرة والحاج صالح من العلمة بسطيف وغيرهما، ليأخذ من أقوالهم التي حفظها عن طريق السماع فقط.
في سنوات الثمانينيات، تشجّع على إلقاء ما حفظه عند كلّ مناسبة يحظى بها سواء بالتلاغمة أو غيرها، وهو ما قوبل بدعم من الوالد وكذا المستمعين المنتبهين المنصتين له، مما زاد من تعلقه بما يفعل وحفزه أكثر على الحفظ وملء جعبته بما وقع على مسامعه من حكم وعبر نابعة من عمق أصالة وتراث الجزائر الذي يدعو دائما إلى التحلي بقيم التكافل والتآزر وحسن المعاملة.
وما يحرص هذا "القوّال" على ترديده أينما حلّ مقولة "الشاش" الذي يلتزم بارتدائه حتى اليوم، إلى جانب "القندورة البيضاء" التي تزيد من هيبته، ما يجعل عبق الموروث والتقاليد يفوح منه، ويتطرق في هذه المقولة إلى فوائد الشاش وطرق استعماله من أجل حماية وتغطية الرأس.
كما يردد أيضا "لحيا واعر" أو "الحياء صعب" التي يستهلها بعبارة "اسمع يا ابني" متبوعة بعدة نصائح وتوجيهات يدعو إلى الأخذ بها ومنها القناعة واحترام الغير وحسن المرافقة وغيرها، وأضحى لهذا "القوّال" ذاع وصيت في منطقة التلاغمة وما جاورها، فقلّ ما يغيب "عمي السعيد" عن أي مناسبة، حيث لا يغيب عن أنشطة السهرات الرمضانية والمناسبات الرسمية واستقبال الوفود". ويقول بعض سكان منطقته "إذا وجدت بالتلاغمة جمعا من الناس ملتفين وسمعت صوتا يصدح فتأكد أنّ "عمي السعيد" يلقي ما في جعبته من أقوال تشد الصغير قبل الكبير خصوصا مع طريقة إلقائه الواضحة رغم سرعة لفظه للكلمات".
تعدت شهرة "عمي السعيد" في الوقت الراهن حدود ولاية ميلة والمناطق التي ينشط فيها إلى الولايات الأخرى، خاصة بعد تداول مقاطع فيديو له عبر مواقع التواصل الاجتماعي بثها مواطنون، إلتقوا به عبر صفحة جمعية "ناس البارود" التي انضم إليها منذ سنوات، فأضاف لها الكثير حسب رئيسها السيد حميدة طالبي، إذ يتم العمل حاليا على جمع ما يحفظه السيد قربع في كتيب لحمايته من الاندثار، كون ذلك يعدّ من صلب عمل الجمعية الرامي إلى حماية الموروث المحلي والعادات والتقاليد.
من جهته، أبرز الدكتور عبد الحميد بوشوشة من كلية الإعلام والاتصال بجامعة قسنطينة 3 أنّ "للقوّال دور مهم في المحافظة على الثقافة الشعبية الأصيلة كجزء من تراثنا وعاداتنا"، كما أنه يدعم الروابط الاجتماعية بما ينشره في أقواله التي يرددها في حلّه وترحاله مما يرسخ للقيم النبيلة التي تميز مجتمعنا.
وتطرّق نفس الأستاذ إلى مكانة القوّال التي لا تزال متداولة في مجتمعنا الحالي رغم التطوّر الحاصل وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، كما أنّ ما تقدّمه شخصية القوّال على بساطتها باق لأنّه نابع من أصالة وقيم الإرث الذي تنقله إلينا والذي وجب حفظه وحمايته.