إرث إنساني مشترك بين العرب والإسبان
فرصة للتأمل في أفكار ابن خلدون
- 10230
يُعتبر ابن خلدون نتاجا طبيعيا للحضارة الإسلامية العربية، التي توهجت وبلغت ذروتها في القرن الرابع عشر، ونموذجا للعولمة والكونية التي نعايشها الآن؛ فقد تخطّى الستار الزمني الذي يفصله عنا، وأحدث خرقا إبستمولوجيّا فيه؛ وكأنه ينتمي إلى عصرنا هذا، ويبحث لنا عن حلول لقضايانا كمفكر حداثي. وانطلاقًا من دورها في إحياء التراث قامت مكتبة الإسكندرية بإصدار النسخة العربية لكتاب: «ابن خلدون .. البحر المتوسط في القرن الرابع عشر، قيام وسقوط إمبراطوريات».
صدر هذا الكتاب أول ما صدر في إسبانيا، ليوثق لمعرض أقيم تحت رعاية الملك خوان كارلوس الأول والملكة صوفيا، تحت عنوان «ابن خلدون .. البحر المتوسط في القرن الرابع عشر، قيام وسقوط إمبراطوريات»، وذلك على أرض القصر المدجن أو القصر الملكي في إشبيليه، ما بين شهري ماي وسبتمبر 2006. وتأتي ترجمة هذا الكتاب إلى لغة الضاد، لتبعث الإرث المشترك للعرب والإسبان؛ حيث ينفض الغبار عن عدة جوانب من حياة ابن خلدون ومحيطه المكاني في حوض البحر المتوسط خلال القرن الرابع عشر؛ أكثر القرون تحولاً، نحو التفكك والاضمحلال في العالم العربي .. والتحول والازدهار نحو النهوض والانبعاث في العالم الغربي؛ أي تحول وانتقال بين ضفتي المتوسط، المكان والمجال الذي تنقّل من خلاله ابن خلدون ما بين تونس والمغرب والأندلس ومصر.
ورغم رحيل العلاّمة العربي المنحدر من أصول أندلسية - منذ 6 قرون - إلا أن شعوب العالم تتزاحم للاحتفاء به؛ عرفانا بما خلّفته أطروحته الفلسفية من كنوز لن تجد من يثمّنها ويجزل لها الشكر المستحَق. لقد أثبت أنه عالِم الاجتماع الأول بلا منافس، وشهدت بذلك الماركسية المعاصرة، بل هو أهم مؤرخ؛ فقد أصدر أحكامه في الخبرات البشرية التي عايشها، وانتهج نهجاً علمياً في التصدي للتاريخ البشري، عاكفا على بحث العوامل الموضوعية لتقدم المجتمعات. لقد حاولت أعمال أدبية وأكاديمية وتراجم متنوعة تناول الأفكار الخلدونية، بيد أن هذا الكتاب يُعد دعوة للتمحيص في أفكار هذا العبقري، من خلال التركيز على ابن خلدون الإنسان، وتحليل أعماله التي اختلطت فيها فلسفة التاريخ بفلسفة المعرفة وفلسفة الحضارة.
يأخذنا هذا السفر النفيس بما يشتمل عليه من مقالات، في رحلة تاريخية عبر الزمان والمكان، وبالأخص إلى القرن الرابع عشر، مستعرضا أهم الأحداث والظروف السياسية التي عاصرها ابن خلدون، وما كان يعتري حوض البحر المتوسط من تقلبات سياسية واجتماعية واقتصادية، كانت المخاض لولادة عصرنا الحديث. ولعل الفكر الخلدوني كان ومضات النور التي قهرت السديم، وانبثقت عنه كل الحركات الإصلاحية العربية والإسلامية؛ فقد انكب ابن خلدون على دراسة الظواهر الاجتماعية من خلال اختلاطه بشعوب البحر المتوسط، وكشف القوانين التي تخضع لها الظواهر الاجتماعية الكبرى، سواء في نشأتها أو في نموها وتطورها.
وقد تجلى فكر ابن خلدون في «المقدمة» التي ألمع فيها بمغالط المؤرخين، وتحدّث فيها عن فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه، معلنا تأسيس علم جديد أطلق عليه علم العمران، ورسّخ مبدأ المطابقة؛ أي التأكد من إمكانية أو استحالة وقوع حدث معيّن، فمنطق الضرورة الاجتماعية لكل مرحلة تاريخية هو الذي يفترض قبول خبر متوارث أو رفضه. أمّا الأحداث الفردية الخارقة التي قد تتجاوز هذه الضرورة، فهي أمر عارض لا يقدّم صورة عن مسيرة المجتمع بأكمله. كما دافع عن الدولة المركزية، وانتبه لأهمية المجتمعات البدوية وأهميتها للإنسانية، وقارن بينها وبين المجتمعات الحضرية، واعتبر كليهما شكلا من أشكال العمران، وقد لخّص كل ذلك في مفهوم العصبية.
يجمع الكتاب بين طياته 50 مقالاً علمياً فريداً، تمضي بنا إلى عصر هذا العلامة المنحدر من أصول أندلسية؛ بهدف تحليل الجوانب الإيجابية والسلبية بين الشرق والغرب، وصولاً إلى خلاصة مؤداها أن الأندلس بما تحمله من عبق الخبرة، تمثل السيناريو الأمثل لتعزيز الحوار بين الحضارات، بعيداً عن دعوات الفرقة والتنابذ التي تسعى للتفريق بين بني البشر. وقد تُوّجت هذه المقالات بمجموعة من الوثائق وصور المقتنيات ذات القيمة الفنية والتاريخية.
لقد حاول هذا الكتاب الإجابة على العديد من الأسئلة المتشابكة التي توصي بها سيرة حياة وأعمال مؤلف كتاب «المقدمة» في ذكرى مرور ستة قرون على وفاته، مبرزاً الدروس المستفادة من خبرته التاريخية، وحاول التأكيد على المقاربة الإنسانية التي كانت من سمات العلاّمة ابن خلدون في رؤيته للأحداث وفي التدليل عليها بالبرهان؛ وذلك من خلال 9 أجزاء، هي:
ابن خلدون وعصره، القرن الرابع عشر: الزمان والمكان، أحوال الدولة، والحروب والدبلوماسية والتوسع، التجار والطرق والبضائع، علم السكان ونهاية العالم والعلاج، لمحة عن حياة ابن خلدون (1332 – 1406)، رشبيليه في القرن الرابع عشر، وأخيراً الخاتمة والمصادر والمراجع.
تقول ماريا خيسوس فيجيرا مولينز من جامعة كومبليتنزي بمدريد: «ينتمي هذا الكتاب إلى أربع من حقب البحث في الينابيع التي لا تنضب لابن خلدون. المرحلة الأولى هي مرحلة الكشف والتقدير، والتي بدأت من القرن الرابع عشر وحتى القرن التاسع عشر، أما الثانية: فهي جهود المستشرقين في معاودة الكشف عن «التاريخ العالمي»، و»المقدمة» من القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، والحقبة الثالثة والتي تتمثل في نشر أعمال ابن خلدون، وتأكيد قيمته في حقول التخصص، وهي مرحلة بدأت من منتصف القرن العشرين. أما الحقبة الرابعة فهي ما يطلَق عليها عالمية ابن خلدون، وهي التي نعيشها في الوقت الحاضر».
ويطرح الكتاب فرصة للتأمل في أفكار ابن خلدون الإنسانية حول التاريخ والحضارة، بما تنطوي عليه هذه الأفكار من نظريات ودلالات علمية واقعية، الأمر الذي يلهم ضمائرنا بمثال فريد عن صلابتها؛ إنه بانوراما تعرض تاريخ مصر، والجزائر، وتونس، والمغرب، وإسبانيا، والممالك المسيحية، وتاج أراغون، وجزر البحر المتوسط، وفرنسا، والمدن الإيطالية، والإمبراطورية العثمانية، جنباً إلى جنب ماركو بولو، وابن بطوطة، ودانتي، وبترارك، وأرثيبيستي دي هيتا، وأخيراً ابن خلدون، وسيرته، وأعماله، وأسفاره، والعالم الذي عاش فيه. ففي مقاله للدكتور عبدالسلام الشدادي من جامعة محمد الخامس بالرباط حول «عالم ابن خلدون» والتي ترجمها خالد عزب، يرى أن علمي التاريخ والاجتماع عند ابن خلدون تمتعا بخاصيتي الكونية والعالمية، وهو من خلال عدة صفحات يعطي ملخصا بسيطاً حول ما يسمى النظرة الشاملة والعالمية عند ابن خلدون. هذه النظرة تستند إلى فكرة الروابط القومية (الأممية) التي كانت معروفة في عصره، محاولاً الإجابة على سؤالين، هما: ما هي الأسس النظرية لعلم الاجتماع في فكر ابن خلدون؟ وما هي العناصر الاجتماعية والتاريخية التي بنى عليها نظريته؟
يُعد تأسيس علم المجتمع والحضارة العمل البارز الذي قدّمه ابن خلدون، هذا العمل، بلا شك، يحوي أصولا فلسفية، تظهر عند استعراض ابن خلدون الخصائص الأساسية للحضارة الإنسانية، حسب المفهوم الفلسفي التقليدي، بداية من تعريفه للإنسان بأنه حيوان سياسي، ومن هذا التعريف استخلص ابن خلدون نقطتين أساسيتين لنشوء المجتمعات والحضارات: الأولى، وهي أن المجتمع ضرورة لحياة الإنسان، والثانية هي أن المجتمع البشري المرتكز على التعاون من أجل توفير مقومات الحياة والدفاع عن الأفراد، لا بد أن يخضع لقوة سياسية.
بداية، تظهر لنا فكرة ابن خلدون كفكرة كونية، هذه الفكرة ترتكز على الافتراض الفلسفي حول مضمون أن الإنسان حيوان سياسي. والنظرية الحتمية الجغرافية للمناطق المناخية متعاملة مع المجتمع البشري (الاجتماع الإنساني) والحضارة (العمران البشري) في مجمليها، بتوسع من حيث انتشار المجتمعات مكانياً، ومتعمق من حيث استغراقها زمنيا.
وجهة النظر هذه تؤكد على أن ابن خلدون لم يشعر مطلقا بالحاجة إلى توضيح الرؤية الإنجيلية والقرآنية لنظرية الخلق، المعرفة الجغرافية لدى العرب حول الانتشار الإقليمي للحضارات، والإنجازات التقنية، والتنظيمات السياسية والإدارية، أو حركة التأريخ مع التقاليد السياسية، والدينية والتاريخية، إمبراطورياته وممالكه، شعوبه وقبائله، ديانته وطوائفه.
ويرى ابن خلدون أن المجتمع في عصره كان مستقرا ومتجانسا مطورا وبشكل تام من الإمكانيات البشرية في المجال الديني والروحي، بالإضافة إلى الخطط التقنية والعلمية. المجتمعات التي تكون عالم ابن خلدون تُعتبر في المقام الأول، كيانات عرقية أو أمما، تلك الأمم هي: العرب البربر، والعبرانيون، والروم، والفرنجة، والترك، والأكراد.. وهنا يمكن أن نستنتج من الجزء التاريخي من كتاب «العبر»، أن الأمم تُعرف باسمها ونسبها وكذلك لغتها، بالإضافة إلى بعض الخصائص أو الشعائر التي تميزها عن غيرها.
من زاوية تاريخية، حققت الأمم وجودها (موطنها) بواسطة احتلال أو امتلاك أرض أو أراضي الآخرين، وتكوين سلطة (ملك) ذات نطاق أكثر اتساعاً.
يميّز ابن خلدون بين المراحل المختلفة في تاريخ الأمم، تلك المراحل عرّفها باستخدام كلمة (أجيال)، ويمكن مقابلتها بكلمة فترات أو عصور، كذلك يمكن تعريفها بمعنى طبقات أو فئات.
الثقافة الإسلامية خلال القرن الرابع عشر كانت ومازالت تعتبر أن شعوب العالم مرتبطة بنسب واحد، يرجع إلى آدم عليه السلام. شكّك ابن خلدون في تلك النظرية، وتساءل أنه «بفرض أن الإنسانية مرجعها إلى أولاد نوح الثلاثة سام وحام ويافث، فإن ذلك مجرد نقل للتقسيم الجغرافي للعالم، ففي الجنوب حيث يوجد نسل سام، وفي الشرق نسل حام، وفي الشمال نسل يافث»؛ من وجهة نظره فإن الفائدة من علم الأنساب هي فائدة سياسية واجتماعية.
وضع ابن خلدون تاريخه في إطار عالمي، وربط بين تاريخ العرب والبربر بتاريخ الشعوب الأخرى، وأعطى اهتماما أكبر للشعوب المسيحية في الشرق الأوسط والشعوب الإفريقية؛ لأنهم الأكثر ارتباطا بالشعوب العربية والبربرية، كذلك منح أهمية كبرى للتأريخ للبيزنطيين والفرنجة؛ حيث اعتبرهم الأكثر ارتباطا بتاريخ العرب والبربر من الصين والهند.
وتكشف لنا مقالة بعنوان «مملكة مالي في القرن الرابع عشر وفقا لابن خلدون ومعاصريه»، للدكتور عبد الواحد أقمير من جامعة محمد الخامس بالرباط، أن ابن خلدون هو مؤرخ العصور الوسطى الوحيد الذي زوّدنا بسرد للملوك الماليين منذ تأسيس السلالة الحاكمة في ثلاثينيات القرن الرابع عشر حتى بداية تدهورها في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، وهو يذكر ثمانية عشر ملكاً، ويعطي تقريبا مدة حكمهم كلهم. كما كشف ابن خلدون عن اتساع مملكة مالي. ووفقا له، فقد استطاع الماليون هزم كل الممالك المجاورة بما فيها غانا، وهكذا تشكلت إمبراطورية واسعة تمتد من الأطلسي غرباً، وتكرور شرقاً، حتى موريتانيا في وقتنا الحاضر شمالا، والغابة الاستوائية جنوباً.
ويذكر المقال أيضا بإسهاب علاقات مالي بالعالم العربي، كما حللها ابن خلدون، من حيث العلاقات الدبلوماسية وتبادل الهدايا والسفراء بين الملوك الماليين والمرينيين، وأيضا العلاقات التجارية بينها وبين دول الجوار، والعلاقات الاجتماعية كما ذكرها ابن بطوطة والعمري، والعلاقات الثقافية والروحية.
صدر هذا الكتاب أول ما صدر في إسبانيا، ليوثق لمعرض أقيم تحت رعاية الملك خوان كارلوس الأول والملكة صوفيا، تحت عنوان «ابن خلدون .. البحر المتوسط في القرن الرابع عشر، قيام وسقوط إمبراطوريات»، وذلك على أرض القصر المدجن أو القصر الملكي في إشبيليه، ما بين شهري ماي وسبتمبر 2006. وتأتي ترجمة هذا الكتاب إلى لغة الضاد، لتبعث الإرث المشترك للعرب والإسبان؛ حيث ينفض الغبار عن عدة جوانب من حياة ابن خلدون ومحيطه المكاني في حوض البحر المتوسط خلال القرن الرابع عشر؛ أكثر القرون تحولاً، نحو التفكك والاضمحلال في العالم العربي .. والتحول والازدهار نحو النهوض والانبعاث في العالم الغربي؛ أي تحول وانتقال بين ضفتي المتوسط، المكان والمجال الذي تنقّل من خلاله ابن خلدون ما بين تونس والمغرب والأندلس ومصر.
ورغم رحيل العلاّمة العربي المنحدر من أصول أندلسية - منذ 6 قرون - إلا أن شعوب العالم تتزاحم للاحتفاء به؛ عرفانا بما خلّفته أطروحته الفلسفية من كنوز لن تجد من يثمّنها ويجزل لها الشكر المستحَق. لقد أثبت أنه عالِم الاجتماع الأول بلا منافس، وشهدت بذلك الماركسية المعاصرة، بل هو أهم مؤرخ؛ فقد أصدر أحكامه في الخبرات البشرية التي عايشها، وانتهج نهجاً علمياً في التصدي للتاريخ البشري، عاكفا على بحث العوامل الموضوعية لتقدم المجتمعات. لقد حاولت أعمال أدبية وأكاديمية وتراجم متنوعة تناول الأفكار الخلدونية، بيد أن هذا الكتاب يُعد دعوة للتمحيص في أفكار هذا العبقري، من خلال التركيز على ابن خلدون الإنسان، وتحليل أعماله التي اختلطت فيها فلسفة التاريخ بفلسفة المعرفة وفلسفة الحضارة.
يأخذنا هذا السفر النفيس بما يشتمل عليه من مقالات، في رحلة تاريخية عبر الزمان والمكان، وبالأخص إلى القرن الرابع عشر، مستعرضا أهم الأحداث والظروف السياسية التي عاصرها ابن خلدون، وما كان يعتري حوض البحر المتوسط من تقلبات سياسية واجتماعية واقتصادية، كانت المخاض لولادة عصرنا الحديث. ولعل الفكر الخلدوني كان ومضات النور التي قهرت السديم، وانبثقت عنه كل الحركات الإصلاحية العربية والإسلامية؛ فقد انكب ابن خلدون على دراسة الظواهر الاجتماعية من خلال اختلاطه بشعوب البحر المتوسط، وكشف القوانين التي تخضع لها الظواهر الاجتماعية الكبرى، سواء في نشأتها أو في نموها وتطورها.
وقد تجلى فكر ابن خلدون في «المقدمة» التي ألمع فيها بمغالط المؤرخين، وتحدّث فيها عن فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه، معلنا تأسيس علم جديد أطلق عليه علم العمران، ورسّخ مبدأ المطابقة؛ أي التأكد من إمكانية أو استحالة وقوع حدث معيّن، فمنطق الضرورة الاجتماعية لكل مرحلة تاريخية هو الذي يفترض قبول خبر متوارث أو رفضه. أمّا الأحداث الفردية الخارقة التي قد تتجاوز هذه الضرورة، فهي أمر عارض لا يقدّم صورة عن مسيرة المجتمع بأكمله. كما دافع عن الدولة المركزية، وانتبه لأهمية المجتمعات البدوية وأهميتها للإنسانية، وقارن بينها وبين المجتمعات الحضرية، واعتبر كليهما شكلا من أشكال العمران، وقد لخّص كل ذلك في مفهوم العصبية.
يجمع الكتاب بين طياته 50 مقالاً علمياً فريداً، تمضي بنا إلى عصر هذا العلامة المنحدر من أصول أندلسية؛ بهدف تحليل الجوانب الإيجابية والسلبية بين الشرق والغرب، وصولاً إلى خلاصة مؤداها أن الأندلس بما تحمله من عبق الخبرة، تمثل السيناريو الأمثل لتعزيز الحوار بين الحضارات، بعيداً عن دعوات الفرقة والتنابذ التي تسعى للتفريق بين بني البشر. وقد تُوّجت هذه المقالات بمجموعة من الوثائق وصور المقتنيات ذات القيمة الفنية والتاريخية.
لقد حاول هذا الكتاب الإجابة على العديد من الأسئلة المتشابكة التي توصي بها سيرة حياة وأعمال مؤلف كتاب «المقدمة» في ذكرى مرور ستة قرون على وفاته، مبرزاً الدروس المستفادة من خبرته التاريخية، وحاول التأكيد على المقاربة الإنسانية التي كانت من سمات العلاّمة ابن خلدون في رؤيته للأحداث وفي التدليل عليها بالبرهان؛ وذلك من خلال 9 أجزاء، هي:
ابن خلدون وعصره، القرن الرابع عشر: الزمان والمكان، أحوال الدولة، والحروب والدبلوماسية والتوسع، التجار والطرق والبضائع، علم السكان ونهاية العالم والعلاج، لمحة عن حياة ابن خلدون (1332 – 1406)، رشبيليه في القرن الرابع عشر، وأخيراً الخاتمة والمصادر والمراجع.
تقول ماريا خيسوس فيجيرا مولينز من جامعة كومبليتنزي بمدريد: «ينتمي هذا الكتاب إلى أربع من حقب البحث في الينابيع التي لا تنضب لابن خلدون. المرحلة الأولى هي مرحلة الكشف والتقدير، والتي بدأت من القرن الرابع عشر وحتى القرن التاسع عشر، أما الثانية: فهي جهود المستشرقين في معاودة الكشف عن «التاريخ العالمي»، و»المقدمة» من القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، والحقبة الثالثة والتي تتمثل في نشر أعمال ابن خلدون، وتأكيد قيمته في حقول التخصص، وهي مرحلة بدأت من منتصف القرن العشرين. أما الحقبة الرابعة فهي ما يطلَق عليها عالمية ابن خلدون، وهي التي نعيشها في الوقت الحاضر».
ويطرح الكتاب فرصة للتأمل في أفكار ابن خلدون الإنسانية حول التاريخ والحضارة، بما تنطوي عليه هذه الأفكار من نظريات ودلالات علمية واقعية، الأمر الذي يلهم ضمائرنا بمثال فريد عن صلابتها؛ إنه بانوراما تعرض تاريخ مصر، والجزائر، وتونس، والمغرب، وإسبانيا، والممالك المسيحية، وتاج أراغون، وجزر البحر المتوسط، وفرنسا، والمدن الإيطالية، والإمبراطورية العثمانية، جنباً إلى جنب ماركو بولو، وابن بطوطة، ودانتي، وبترارك، وأرثيبيستي دي هيتا، وأخيراً ابن خلدون، وسيرته، وأعماله، وأسفاره، والعالم الذي عاش فيه. ففي مقاله للدكتور عبدالسلام الشدادي من جامعة محمد الخامس بالرباط حول «عالم ابن خلدون» والتي ترجمها خالد عزب، يرى أن علمي التاريخ والاجتماع عند ابن خلدون تمتعا بخاصيتي الكونية والعالمية، وهو من خلال عدة صفحات يعطي ملخصا بسيطاً حول ما يسمى النظرة الشاملة والعالمية عند ابن خلدون. هذه النظرة تستند إلى فكرة الروابط القومية (الأممية) التي كانت معروفة في عصره، محاولاً الإجابة على سؤالين، هما: ما هي الأسس النظرية لعلم الاجتماع في فكر ابن خلدون؟ وما هي العناصر الاجتماعية والتاريخية التي بنى عليها نظريته؟
يُعد تأسيس علم المجتمع والحضارة العمل البارز الذي قدّمه ابن خلدون، هذا العمل، بلا شك، يحوي أصولا فلسفية، تظهر عند استعراض ابن خلدون الخصائص الأساسية للحضارة الإنسانية، حسب المفهوم الفلسفي التقليدي، بداية من تعريفه للإنسان بأنه حيوان سياسي، ومن هذا التعريف استخلص ابن خلدون نقطتين أساسيتين لنشوء المجتمعات والحضارات: الأولى، وهي أن المجتمع ضرورة لحياة الإنسان، والثانية هي أن المجتمع البشري المرتكز على التعاون من أجل توفير مقومات الحياة والدفاع عن الأفراد، لا بد أن يخضع لقوة سياسية.
بداية، تظهر لنا فكرة ابن خلدون كفكرة كونية، هذه الفكرة ترتكز على الافتراض الفلسفي حول مضمون أن الإنسان حيوان سياسي. والنظرية الحتمية الجغرافية للمناطق المناخية متعاملة مع المجتمع البشري (الاجتماع الإنساني) والحضارة (العمران البشري) في مجمليها، بتوسع من حيث انتشار المجتمعات مكانياً، ومتعمق من حيث استغراقها زمنيا.
وجهة النظر هذه تؤكد على أن ابن خلدون لم يشعر مطلقا بالحاجة إلى توضيح الرؤية الإنجيلية والقرآنية لنظرية الخلق، المعرفة الجغرافية لدى العرب حول الانتشار الإقليمي للحضارات، والإنجازات التقنية، والتنظيمات السياسية والإدارية، أو حركة التأريخ مع التقاليد السياسية، والدينية والتاريخية، إمبراطورياته وممالكه، شعوبه وقبائله، ديانته وطوائفه.
ويرى ابن خلدون أن المجتمع في عصره كان مستقرا ومتجانسا مطورا وبشكل تام من الإمكانيات البشرية في المجال الديني والروحي، بالإضافة إلى الخطط التقنية والعلمية. المجتمعات التي تكون عالم ابن خلدون تُعتبر في المقام الأول، كيانات عرقية أو أمما، تلك الأمم هي: العرب البربر، والعبرانيون، والروم، والفرنجة، والترك، والأكراد.. وهنا يمكن أن نستنتج من الجزء التاريخي من كتاب «العبر»، أن الأمم تُعرف باسمها ونسبها وكذلك لغتها، بالإضافة إلى بعض الخصائص أو الشعائر التي تميزها عن غيرها.
من زاوية تاريخية، حققت الأمم وجودها (موطنها) بواسطة احتلال أو امتلاك أرض أو أراضي الآخرين، وتكوين سلطة (ملك) ذات نطاق أكثر اتساعاً.
يميّز ابن خلدون بين المراحل المختلفة في تاريخ الأمم، تلك المراحل عرّفها باستخدام كلمة (أجيال)، ويمكن مقابلتها بكلمة فترات أو عصور، كذلك يمكن تعريفها بمعنى طبقات أو فئات.
الثقافة الإسلامية خلال القرن الرابع عشر كانت ومازالت تعتبر أن شعوب العالم مرتبطة بنسب واحد، يرجع إلى آدم عليه السلام. شكّك ابن خلدون في تلك النظرية، وتساءل أنه «بفرض أن الإنسانية مرجعها إلى أولاد نوح الثلاثة سام وحام ويافث، فإن ذلك مجرد نقل للتقسيم الجغرافي للعالم، ففي الجنوب حيث يوجد نسل سام، وفي الشرق نسل حام، وفي الشمال نسل يافث»؛ من وجهة نظره فإن الفائدة من علم الأنساب هي فائدة سياسية واجتماعية.
وضع ابن خلدون تاريخه في إطار عالمي، وربط بين تاريخ العرب والبربر بتاريخ الشعوب الأخرى، وأعطى اهتماما أكبر للشعوب المسيحية في الشرق الأوسط والشعوب الإفريقية؛ لأنهم الأكثر ارتباطا بالشعوب العربية والبربرية، كذلك منح أهمية كبرى للتأريخ للبيزنطيين والفرنجة؛ حيث اعتبرهم الأكثر ارتباطا بتاريخ العرب والبربر من الصين والهند.
وتكشف لنا مقالة بعنوان «مملكة مالي في القرن الرابع عشر وفقا لابن خلدون ومعاصريه»، للدكتور عبد الواحد أقمير من جامعة محمد الخامس بالرباط، أن ابن خلدون هو مؤرخ العصور الوسطى الوحيد الذي زوّدنا بسرد للملوك الماليين منذ تأسيس السلالة الحاكمة في ثلاثينيات القرن الرابع عشر حتى بداية تدهورها في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، وهو يذكر ثمانية عشر ملكاً، ويعطي تقريبا مدة حكمهم كلهم. كما كشف ابن خلدون عن اتساع مملكة مالي. ووفقا له، فقد استطاع الماليون هزم كل الممالك المجاورة بما فيها غانا، وهكذا تشكلت إمبراطورية واسعة تمتد من الأطلسي غرباً، وتكرور شرقاً، حتى موريتانيا في وقتنا الحاضر شمالا، والغابة الاستوائية جنوباً.
ويذكر المقال أيضا بإسهاب علاقات مالي بالعالم العربي، كما حللها ابن خلدون، من حيث العلاقات الدبلوماسية وتبادل الهدايا والسفراء بين الملوك الماليين والمرينيين، وأيضا العلاقات التجارية بينها وبين دول الجوار، والعلاقات الاجتماعية كما ذكرها ابن بطوطة والعمري، والعلاقات الثقافية والروحية.