"الفروسية" ثراث يأبى الاندثار

قيم واحتفالية صهرتها السيرورة التاريخية

قيم واحتفالية صهرتها السيرورة التاريخية
  • 1026
من أبرز الممارسات التراثية في الجزائر وأكثرها روعة وجمالاً وأدْعاها للتأمل والبحث، ذلك الطقس الاحتفالي المسمى «الفانطازيا» أي الفروسية ويسمى أيضاً لعب الخيل والبارود، وهو يستمد أهميته مما يحمل من طقوس احتفالية مهيبة واستعراضات فنية جميلة ودلالات رمزية عميقة، بحيث يشكل تراثا ثقافيا مميزا وتقليدا شعبيا محبوبا.
يلتف حول هذا التقليد الناس شيوخاً وشباباً ممارسين متحمسين أو متفرجين مستمتعين، متجمعين حول فرق الفرسان الموشاة بالألوان الزاهية والألبسة البراقة والبنادق اللامعة، سواء كان ذلك في التجمعات الدينية أو التظاهرات الرسمية أو الاحتفالات الشعبية، في ظل أجواء من الفرحة والنشوة، وفي إطار من الفخر والمباهاة.
بالإضافة إلى ذلك، فقد ارتبطت «الفانطازيا» في المخيال الشعبي في الجزائر بقيم الفروسية والرجولة والشهامة والشجاعة، ومثلت عبر التاريخ تلك العلاقة الراقية بين الإنسان والحصان، وشكلـت نظاماً اجتماعياً فريداً يتبوأ فيه الفارس قمة الهرم الاجتماعي ويضطلع بدور الدفاع عن شرف القبيلة وحماها.
تعتبر «الفانطازيا» نموذجا للاحتفالات الجماعية الكبيرة، ونوعا من الترفيه الجماعي الذي عرفه الإنسان منذ القدم. تميزت به منطقة المغرب العربي دون سواها، وهو يرتبط بجملة من المناسبات المحلية سواء كانت مناسبات اجتماعية (زواج، ختان..) أو دينية (زردة، موالد..) أو وطنية (أعياد الثورة، الاستقلال..) بل وحتى «مناسباتية» (زيارة رئاسية، وزارية ...). ويكتسي أهميته في إثبات الهوية الحضارية وتأجيج الروح الوطنية وإحياء التقاليد التراثية وتقوية الرابطة المجتمعية ونشر القيم الثقافية من خلال تجميعه لأكبر عدد ممكن من الأفراد ضمن طقس احتفالي ضخم يمتد لساعات من المرح والمتعة ويبقى حديث الناس لأيام بل لأشهر وسنوات.
وقد شكلت «الفانطازيا» ولا تزال أحد أبرز الخصوصيات الثقافية لمنطقة شمال إفريقيا، بما فيها الجزائر، إلا أنها رغم ذلك لم تحظ بالاهتمام الأكاديمي الكافي، بينما هي موضوع مثير وجدير بالبحث والدراسة والسعي للتعرف على تاريخها ومحاولة الكشف عن أسسها الحضارية وممارساتها الثقافية وتجلياها الجمالية ومظاهرها الفنية.
الإثنولوجي الفرنسي «جان بيار ديقار» يؤكد أنه شارك في تشكيل الفروسية في شمال إفريقيا ثلاثة تيارات فروسية كبرى، وهي النوميدية والعربية والتركية ونوميديا (مملكة أمازيغية عاصمتها سيرت)، لا يعرف بالتحديد تاريخ تأسيسها لكن يرجح أنه 202 ق.م. وهناك الكثير من المصادر الفرعونية أو اللاتينية التي أشارت إلى وجود ممالك أمازيغية في شمال إفريقيا قبل مملكة نوميديا). و»الفانطازيا» الحالية نسخة معدلة لهذه الفروسية، من دون أن ننسى تأثير التقنيات العسكرية الفرنسية.
من المرجح أن يكون العرب قد مارسوا نوعا من «الفانطازيا» منذ أن طوروا تقنيات الحرب باستخدام الخيل، وكذا النوميديون، لأن «الفانطازيا» في حقيقتها نوع من التدريب العسكري للفرسان، بما يسمح لهم بتطوير مهاراتهم القتالية والرفع من قدراتهم الحربية، كما يسمح للقادة باكتشاف أمهر الفرسان وأشد المحاربين وأفضل الخيول، بالتالي التقييم الصحيح لقوة جيوشهم وجاهزيتها.
هناك العديد من التقاطع بين العرب والبربر، أملته حياة البدو التي اختارها الشعبان كأسلوب للعيش، تكيفا مع الطبيعة والمناخ السائدين في مناطقهما، والتشابه في المؤسسات الاجتماعية والنظام القبلي المسيطر. لذا نجد ابن خلدون ينتبه لهذا التشابه بين الاثنين، فيقول في الفصل السابع والثلاثين من مقدمته الذي خصصه لـ»الحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها»؛ إن «وصفة الحروب الواقعة بين الخليقة منذ أول وجودهم على نوعين: نوع بالزحف صفوفا، ونوع بالكر والفر. أما الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم».
الكر والفر تقنية حربية تعتمد على الهجوم المباغت والسريع على العدو في مناطق لا ينتظر منها هجوما بطريقة غير منظمة ومصحوبة بالصياح المرعب، لإخافته وتكبيده أكبر قدر من الخسائر، ثم الانسحاب السريع ومعاودة الهجوم في أماكن أخرى بالطريقة نفسها حتى إنهاك العدو تماما.
هذا النظام الحربي المعتمِد على سرعة التحرك، حتمته طبيعة ميدان المعركة ونوعية الخصوم، حيث كان العرب والنوميديون يخوضون معاركهم في أراض عارية أو صحراوية لا تتوفر فيها أماكن للاحتماء، ويهاجمون عادة أعداءهم الذين تعوزهم سرعة الحركة ويعتمدون أكثر على الدفاع والاحتماء.
ويبدو أن هناك ثلاثة عوامل أساسية تحالفت بطريقة ما، لتكون محصلتها ظهور طريقة الكر والفر عند العرب والبربر في الوقت نفسه.
الحصان: كان الحصان الذي يركبه العرب والبربر، كما يروي المؤرخون، صغيرا، سريعا، مرنا وحيويا، يمكنه التحرك والمناورة وتغيير الاتجاه بسرعة وسهولة.
الفارس بسبب أسلوب عيش البداوة، كان الفارس العربي والبربري نحيفا، خفيفا ومتزنا، يقضي أغلب وقته على ظهر حصانه ويعيش معه في وئام تام، طبيعة الأرض؛ فهي أرض صحراوية أو شبه صحراوية تخلو من المدن الكبيرة والحصون المتينة التي تسمح بالتمترس خلفها وإنشاء الدفاعات الثابتة والقوية. لذا كان على المحاربين أن يواجهوا عدوهم وجهاً لوجه مهما كان عدده ومهما كانت عدته.
بفضل التوازن بين الفارس النحيف الخفيف والحصان الصغير السريع، أصبح من الممكن شن هجوم خاطف وإثخان العدو بأكبر قدر من الخسائر، يتلوه انسحاب سريع وذكي لتجنب انتقامه المباشر، وهكذا دواليك. يتضح جلياً إذاً أن تقنية الكر والفر ظهرت كاستجابة طبيعية لأسلوب حياتهم الذي كان يقوم على الغارات والغارات المضادة.
أما الأتراك، فحين جاؤوا إلى شمال إفريقيا في القرن السادس عشر، أحضروا معهم لعبة تشبه «الفانطازيا» إلى حد كبير، بحيث يمكن اعتبارها شكلا من أشكال «الفانطازيا» البدائية، ويطلق عليها اسم «لعبة الجريد» أو «لعبة القصب» أو «لعبة الميدان».
في هذه اللعبة، «يطارد الفرسان بعضهم بسرعة فائقة ويرمون بعضهم بعضاً برماح خشبية غير حادة»، بحسب أندري جون فليليسم في قاموسه حول «ألعاب الطفولة والشباب عند كل الشعوب» (1807) الذي يشير إلى «الجريد» باعتباره لعبة وتمريناً في الوقت نفسه، يُستخدم لتدريب الشبان على الفروسية، وفي نفس الوقت لتدريب خيولهم على الحرب. وهو «لعبة منتشرة بكثرة عند الأتراك والمور (السكان المحليون لشمال إفريقيا) وعنهم أخذه الإسبان».
وإلى الأتراك أيضاً يعود الفضل في إدخال بنادق البارود التي حلت مكان رماح الجريد، مما أعطى لـ»الفانطازيا» روحا جديدة وطعما فريدا، لما حمله البارود من إضافات بصرية وسمعية وشمّية ساهمت في زيادة متعتها وانتشار شهرتها حتى أطلق عليها اسم «لعب البارود» للدور المركزي الذي أصبح يلعبه. وهكذا يتضح أن «الفانطازيا» كانت نتاج تاريخ طويل من التفاعلات الحضارية والثقافية والجمالية والفنية، بين الإنسان من جهة والحصان من ناحية ثانية والطبيعة الحاضنة لهما من جهة ثالثة، وأنها تطورت بفضل مساهمات متنوعة لتيارات فروسية كبرى كانت تمثل في عصرها أحد أفضل طرق التكيف الإنساني مع التحديات الأمنية والحربية والوجودية، كما شكل التنوع البشري والجغرافي والحضاري في المنطقة، من العرب والنوميديين جنوبا إلى الترك شمالا، رافدا أساسيا للتنوع الكبير في الطقوس والممارسات والأشكال والألوان التي تميز «الفانطازيا»، وتمنحها خصوصياتها الحضارية والجمالية والفنية، وتجعل منها ممارسة تستعصي على الزوال والاندثار وتحتل مكانة بارزة في الفضاء الاجتماعي والثقافي والطقوسي لشعوب الشمال الإفريقي، وتشكل تراصا وطنيا محبوبا ومرغوبا، لما يحمله من قيم ترتبط ارتباطا وثيقا بالدين والجهاد والتاريخ والكفاح ومقاومة المحتلين.
للتذكير، فإن هذا التراث جاء في كتاب «أنثروبولوجيا التراث الشعبي في الجزائر»، وهو الكتاب الأول الذي يصدر ضمن سلسلة «أنثروبولوجيات» عن «مركز فاعلون»، بالجزائر.