رأي في فيلم ”الأندلسي”
مآخذ تاريخية ترمي بظلالها على الراهن
- 2603
يسمح فيلم ”الأندلسي” لمخرجه محمد شويخ، باكتشاف جوانب من تاريخ الجزائر أثناء القرن الخامس عشر ميلادي، وبالتحديد في فترة سقوط الأندلس التي كانت بداية لظهور الأطماع للاستيلاء على كلّ منطقة المغرب العربي المثقل بالصراعات والانقسامات.
يتناول الفيلم فترة حسّاسة من تاريخنا، تحوّل فيها مجرى التاريخ بخطوات متسارعة سبقت الزمن لتغيّر من خريطة المنطقة، فـ«الأندلسي” غوص في الماضي الذي لا تزال ظلاله ممتدة إلى الحاضر، يحكي تراجع أمة ساد نفوذها الحضاري لأكثر من ثمانية قرون، امتد شعاعها العلمي والثقافي إلى شتى البقاع، لكن هذا الميراث تلاشى على وقع النزاعات وفرقة الأشقاء.
يظهر ”الأندلسي” كشخصية محورية في الفيلم من خلال سليم ابن أبي حمزة الذي كان والده قاضي وفقيه غرناطة، تتجسّد في عائلته معالم التسامح الديني، فكانت والدته ماريا رودريغاز الكاثوليكية ملتزمة بطقوس صلواتها وصديق العائلة إسحاق الخياط اليهودي الذي فضّل الهجرة مع العائلة من مدينة مالاقا الإسبانية فرارا من ظلم الإسبان، وبفضل علمه، كان سليم ابن العائلة المرموقة أصغر سكرتير للملكة عائشة أم أبي عبديل حاكم غرناطة.
في خضم الأحداث المتسارعة التي فرض من خلالها الإسبان على المسلمين الهجرة القسرية، تتوضّح الإهانات، خاصة في حقّ العائلة المالكة التي وجدت نفسها تترك وطنها الأندلس لتتّجه إلى المجهول، وهي تعاني مشقة السفر بين الغابات والجبال للوصول إلى السواحل الأندلسية لامتطاء السفن التي كان أصحابها يشترطون على الفارين الأندلسيين ترك أرزاقهم ومتاعهم الثمينة لتفادي الثقل على المراكب، من أجل تعويضها بركاب آخرين فارين من البطش، وكانت السيدة عائشة تحاول حمل فساتينها، بينما يحرص سليم على حمل ما تيسر من أمهات الكتب، وتستعرض المشاهد حجم معاناة هؤلاء الفارين.
يصل أهل الأندلس إلى سواحل المغرب العربي، لتتوغّل العائلة الملكية في أعماق المغرب وتصل إلى مدينة فاس التي يرحب ملكها بالوافدين، وعلى رأسهم ملك غرناطة الحزين الباكي، لتبدأ حياة أشبه بالموت وتعتزل الملكة الأم الحياة في قصرها.
عائلة سليم المكونة من الأم والأخ الأصغر الطبيب وغيرهم من الوافدين، تتّجه إلى السواحل الجزائرية، وبالضبط إلى مدينة مستغانم التي كان أميرها مرحبا ومتعاونا، اتّخذ من سليم مستشارا له وأعطى الوافدين مناصب مهمة.
كانت الحياة بمستغانم صعبة تلفها الغربة والحنين إلى الأندلس على الرغم من الترحيب، لكن الأهوال تعود مع الإسبان الذين كثّفوا حملاتهم العسكرية البحرية باتجاه السواحل المغاربية قصد تتبّع المسلمين الفارين، ليهاجموا مدينة وهران كبداية ويوقعوا بها المجازر التي راح ضحيتها أكثر من 4 آلاف مسلم، ليمتد زحفهم نحو المدن، منها مستغانم، حيث يجد أميرها نفسه محاصرا مضطرا إلى توقيع اتفاقية استسلام كي يحفظ أرواح رعيته، ليكلّف سليم بنقل عائلته وكلّ أهل القصر إلى مدينة تنس ويصبح وصيا على بنات الأمير الثلاث، منهن الأميرة منصورة التي يتزوّجها بعد ذلك.
يظهر الفيلم بعض سلبيات تلك الفترة، منها تفشي الخرافات والشعوذة ابتداء من الأمير المتأثر بأحد مستشاريه، على علاقات مع الشيوخ وأهل البدع، لكن يبقى الأمير رغم ذلك وفيا لوطنه ومجابها للعدو وقريبا من رعيته التي أنهكتها ضرائب الإسبان. كان سليم يتقن الإسبانية، لذلك عمل كمترجم بين الأمراء والقائد الإسباني مارتن دارغوت، وكان في كلّ مرة يحاول أن يكون وسيطا بين الأمراء المتخاصمين.
في هذه الأثناء وبينما الجزائر تحترق، عمد بعض الأمراء، ومنهم حاكم الجزائر العاصمة بن تومي، إلى الاستنجاد بالقوة العثمانية متمثلة في الأخوين عروج، ليعرض الفيلم بإسهاب مفرط تجاوزات الأتراك، منها قتل بن تومي داخل حمام قصره وفرار ابنه يحيى إلى الغرب الجزائري، ثم إلى إسبانيا كي ينتقم من الأتراك الذين عاثوا في الجزائر فسادا، ويسانده في ذلك بعض الأمراء والحكّام ”المخدوعين” في الأتراك الذين سموهم ”المسلمون الأعداء” ويصل الأمر إلى حد التحالف مع الإسبان لردع الأتراك، لكن المسعى يبقى ضعيفا أمام الأهالي الذين يساند أغلبهم الأتراك انتقاما من الأمراء الضعفاء ومن الإسبان الصليبيين.
ورغم أنّ الحروب والصراعات تطغى على الفيلم، لكن هذا لم يمنع من بروز بعض الجماليات المتمثّلة في الديكور، القصور، الموسيقى الأندلسية والأعراس وسهرات الأمراء، خاصة بتلمسان وفاس مع الاعتماد على حيوية الأسواق التي تعجّ بالمارة والصنّاع والتجار، وتبرز أيضا العلاقات الحميمية بين أهل الأندلس والأهالي والتكامل الاجتماعي الذين أسّسوه بتضامنهم ومجابهتهم للعدو جنبا إلى جنب، كما يبرز الحب الذي يولد في محيط مضطرب وقاس لينتصر بفضل ”منصورة” الجزائرية وسليم ”الأندلسي” العاشقان اللذان هزما الصعاب ولم يفترقا قط، رغم هول ما رأوه، فمنصورة ابنة عم زفيرة زوجة حاكم الجزائر المغتال، كانت تزورها دوما وتألمت بعد أن انتحرت بالسم كي لا تشهد حكم خير الدين بالعاصمة الجزائر.
تميّز الفيلم بالتصوير المحترف، خاصة في اللقطات البحرية والحربية، مع تثمين مقصود للتراث المعماري الجزائري المتمثّل في القصور والقلاع والديكور والأسواق والأحياء وغيرها من المعالم، مع تسجيل سقطة فيما يخصّ الملابس والحلاقة التي لم تعكس واقع تلك الفترة.
ومن حيث المضمون التاريخي، يلاحظ مدى النيل من الوجود العثماني وتصويره كاستعمار معتد، مثله مثل الإسبان وربما أشد، ووصف الأتراك بالقتلة الذين لم يذروا ولم يبقوا، حصدوا الأرواح والزرع وخانوا أمانة الجزائريين، ولم يكن للغة الضاد حظها الوافر في ”الأندلسي”، حيث بدت فيها بعض الركاكة والسطحية وإدخال بعض المصطلحات السياسية العصرية الغريبة عن ذلك العصر والزمان.
بدت أيضا الخطابية المباشرة على لسان بعض الممثلين كأنهم يقرأون بيانات مختومة، ناهيك عن ضعف السيناريو والحوار الذي بدا مبتورا، كذلك الحال مع المشاهد التي كانت تبدو غير مكتملة وغير متتالية تخلق نوعا من الفراغ والتواصل بين الأحداث.
في المقابل، ثمّن الفيلم قدرات الفنانين المشاركين فيه، الذين برزوا رغم ضعف السيناريو ولغته، وكان منهم البطل الرئيسي محمد بن بكريت في دور سليم الأندلسي الذي بدا متمكّنا، بعيدا عن الظهور المصطنع، حاضر ومترجم لمختلف المشاهد التي أداها، يحضر أيضا حسان كشاش بصوته الجهوري ولغته المدوية ورصانته كأمير، ثم كراقص يحرّكه أحد الدجّالين ومقاوم وإنسان وأب حنون.
الممثل الشاب نبيل عسلي الفلاح الجزائري الذي أنهكه الظلم والضرائب، وكان يصيح في وجه الأعداء الذين حاربهم بانضمامه للأتراك، تميّز في أدائه أيضا رضا لغواطي الأمير التلمساني وطارق حاج عبد اللطيف ملك غرناطة، حين رفعه سيفه غضبا من فقدانه لمملكته وبكاء من وحشة الغربة.
ومن الوجوه النسوية التي برزت، السيدة عائشة ملكة غرناطة التي أدّت دورها بهية راشدي التي لم تستطع أن تخفي الألم رغم تمسّكها بزينتها وعزها الضائع، لتبدو الدموع حبيسة عيونها، لكن أهل المغرب وسليم ومنصورة كانوا إلى جانبها سندا قويا، كما برزت مليكة بلباي في دور الأميرة منصورة، حيث وظّفت كل إمكانياتها وطاقاتها لأداء الدور، معطية إياه بعدا أكبر منه وكانت بحق أميرة هذا الفيلم.
يبقى ”الأندلسي” لبنة أولى للسينما التاريخية الجزائرية، تستحق التشجيع كي تثمر أعمالا أخرى، مع التذكير بأنّ العرض سيستمر إلى غاية 31 مارس الجاري بقاعة ”الموقار” بالعاصمة.