”قمر أو الزمن المختصر” لبوزيان بن عاشور

نحت على صخر الذكريات

نحت على صخر الذكريات
  • القراءات: 744
مريم. ن مريم. ن
يأصدر السيد بوزيان مؤخرا، آخر إنتاجه الذي يحمل عنوان ”قمر أو الزمن المختصر”، تناول عبر صفحاته الـ160، قصة خيالية بطلها صابر الذي يصبح شاعرا ولهانا بعد فقدانه لحبيبته.وهكذا تتحول المأساة إلى حياة يخطها الإبداع المتولد عن المشاعر الخالصة التي تزيد البطل صابر تعلقا بحبيبته.
رفض صابر الحداد لأنه يرى أنه اعتراف بالوجع الذي يسكن بداخله، ولا يستطيع بأي حال من الأحوال اقتلاعه إلا من خلال كبته وتجاوزه وترجمته بأسلوب جديد.
في لحظة ما، يتخطى صابر عالم الكتابة ليلتفت إلى النحت، عله يجد فيه الدواء الشافي، فيقرر في لحظة جنون نحت صورة قمر كي تقابله وتخلق في نفسه الاطمئنان والحضور. وأشار الكاتب بوزيان في سياق سرده إلى أن هذه القصة مستوحاة من وقائع حقيقية جمعها وهو ينجز ‘روبورتاجا’ بإحدى ولايات الوطن.
يجتهد الكاتب في إبراز الحالة النفسية المضطربة لصابر ومدى إحساسه بالزمن والمحيط الذي يتواجد فيه، فغالبا ما يكون الزمن بالنسبة إليه حالة من الغرق والانسياب الدائم، وحالة صابر تشبه الانتحار، رغم محاولاته واجتهاده في الخروج من ألمه ولو عن طريق الحديث إلى صخرة صماء لا تسمعه، ادعى أنها حبيبته قمر، لينتهي به الأمر إلى الموت على حوافها  الناتئة الصلبة، غارقا في دمائه التي تنبض بالحب والوفاء.تم اكتشاف هذه النهاية التراجيدية، لكن لم تعلم أسبابها الحقيقية، رغم حضور الجهات المعنية، وهي نهاية أرقت الكاتب بوزيان.
يبدع الكاتب في تصوير ‘فيلا’ صابر التي كانت تعاني العزلة وكانت تعصف في جنباتها الرياح العاتية التي تهز النوافذ من كل حدب وصوب، وكانت هذه ‘الفيلا’ المهجورة التي تسكنها أشباح الذكريات ويسود فيها الصمت القاتل، مفتوحة للجميع، فلا أثر فيها للأقفال.
الكاتب أدمج بعض التقنيات الجديدة في هذا العمل كتجربة جديدة في كتاباته، مع إقحام بعض الشهادات الحية التي استقى أغلبها من فترة العشرية السوداء، علما أن هذه الشهادات لم يتم التطرق إليها فيما مضى، على الرغم من أهميتها على الأقل بالنسبة للحادثة التي يرويها في هذه الرواية.
الرواية تجمع كل العناصر اللازمة، ليكتمل الإبداع بالشهادة، أو بمعنى آخر يتكامل الصحفي بالروائي.
هكذا ظلت وفاة صابر غامضة، حتى أمام التحقيق، علما أن البطل كان إنسانا عاديا وموظفا مثاليا في الأرشيف البلدي، إلى درجة أنه كان ينسى حقه في الحصول على عطلته، بالتالي لم يسجل عليه أحد تجاوزا أو هفوة في العمل أو قلة التزام أمام رؤسائه، ورغم كل هذه المحاسن، تظل هناك بعض الجوانب الغامضة في حياته، وهنا يتذكر الراوي ذكرياته مع هذا الشخص المتفاني في أداء الواجب، كان ذلك من خلال المصالح المحلية، يفصل في كل الدقائق، تماما كما تفعل آلة التصوير، ليعيد قراءتها من جديد عله يصل إلى فك اللغز.
يذكر الراوي أن صابر قال له ذات مرة؛ ”أتمنى أن أترك أثرا لي يتحدث عني عند غيابي”. وذات يوم، اتجه صابر إلى النحت الذي كان يصفه بالاكتشاف الذي يزهر أملا ويلمس الروح ويؤثر فيها. بعض الشهادات عن صابر كان يقدمها أيضا لوز الهلالي، وهو صديق مشترك لصابر والراوي وكان مندهشا لارتباط الراحل بالنحت والحجر، لكن الحقيقة تقول بأن الراحل كان يصقل الحجر فيما مضى بإحدى الشركات، وكان مكلفا بالترميم قبل أن ترميه الصدف إلى العمل في البلدية.بعد خروجه إلى التقاعد، رفض صابر العودة إلى العمل، على الرغم من إلحاح رؤسائه، ليدخل عالمه الخاص ويصبح سيد نفسه.
خصص صابر كل وقته لقمر، حبيبته التي فارقته منذ زمن، لكن علاقته بها كانت تتوطد يوما بعد الآخر، فكان يلاحقها كأي عاشق يلاحق حبيبته في كل مكان وزمان، وهذه العلاقة لم تكن مجرد غرام فقط، بل هي أكثر من ذلك، فهي الوفاء بعينه، وهي الذكريات، ولكي يجسد كل ذلك، كان عليه الإسراع في النحت، ليعطي ظهورا ملموسا لهذا الماضي الجميل.كان بعض المقربين من صابر يرون أنه كان يرى في الانتحار منفى له وعدالة لأمثاله من الضعفاء والفقراء الذين يصعب عليهم أن يؤدوا دور البطل في هذه الحياة، لكنه في المقابل، كان يعشق تلك الحياة التي تعيش فيها قمر، على الرغم من أنها لم تكتمل، وهكذا كان يأمل في أن يلحق بقمر إلى العالم الآخر وكان يحاول تمزيق السماء بيديه ليصل إليها.يغلب على الرواية طابع السرد والوصف، عكس الحوار الذي لا يتكرر كثيرا، كما تحمل الرواية الكثير من الإسقاطات على فترة تاريخية معينة والتركيز على بعض القيم الإنسانية الراقية في مجتمعنا.
للتذكير، فإن بوزيان بن عاشور الذي يشغل حاليا منصب مدير عام جريدة الجمهورية الصادرة بغرب الوطن روائي وناقد مسرحي، له عدة إنتاجات، منها روايته ”حروق” التي فاز بها بجائزة ‘محمد ديب’ عام 2012، كما ألف مسرحية ”سيفاكس” التي أنتجها مسرح وهران وغيرها من الأعمال الأدبية.