المطربة سلوى في ذمة الله

وداعا.. سيدة المقام الجزائريّ

وداعا.. سيدة المقام الجزائريّ
المطربة سلوى في ذمة الله
  • 1444
نوال جاوت نوال جاوت

أوراق شجرة الفن الجزائري الأصيل تسقط الواحدة تلو الأخرى، وبدأت تتعرى شيئا فشيئا، على أمل أن تخضرّ مرة أخرى، وتجد من يبث فيها الحياة من جديد. فمنذ أيام فقط رحل أحد عمالقة الغناء الجزائري الحاج رابح درياسة، وها هي سيدة المقام الجزائري سلوى، ترجلت عن عمر 86 سنة، أول أمس، بعد صراع طويل مع المرض، وتلتحق ببارئها بعد خمسة عقود من الغطاء في الغناء والتمثيل. استطاعت عميدة المطربات الجزائريات السيدة سلوى التي ووريت الثرى أمس بمقبرة دالي ابراهيم، أن تترك بصمتها في الأغنية الجزائرية بكل طبوعها، بحنجرتها الماسية، وطلّتها الأنيقة، حيث صالت وجالت مشرقا ومغربا للتعريف بتراثنا الغنائي.

تفتّقت مواهب فطومة نميتي (من مواليد سنة 1935 بالبليدة)، في الحصص الإذاعية الصبيانية، إلى أن اشتركت مع الراحل بشطارزي في المسرح الإذاعي. وفي سنة 1959 طارت سلوى إلى باريس، لتلتقي بالحاج عمر، وهو فنان كبير (توفي سنة 1982)، ليقدمها، بدوره، لأخيه الفنان عمراوي ميسوم، الذي اقترح عليها الغناء، لتدخل التجربة بكل ثقلها. كما أعادت أغاني ليلى الجزائرية، ومنها "ياحليوه"، و"بان الفجر وغنى الليل"، و"يا بنت بلادي". أدت سنة 1960 رائعة "لالا يمينة" التي سجلت أكبر المبيعات بفرنسا، وهي من كلمات الحبيب حشلاف وتلحين ميسوم. والأغنية مطلوبة إلى اليوم من الجمهور. وفي سنة 1966 تحصلت على أوسكار الطبعة الأولى من مهرجان الأغنية الجزائرية، عندما أدت أغنية لحنها لها محبوب سفر باتي، علما أن "سلوى" هو الاسم الفني الذي أعطاها إياه محمد الطاهر فضلاء. وواصلت سلوى مشوارها بخطى ثابتة، فأنتجت "يا أولاد الحومة"، و"كيف رايي همّلني" سنة 1962. كما تعاملت مع أكبر الموسيقيين في الجزائر وتونس (عازفين)، منهم قدور شرشالي، ومحمد كعبور، وإبراهيم المغربي. وعملت، أيضا، مع الفنان العملاق رضا فلكي "حمو". ومن الملحنين معطي بشير، ومحبوباتي، وشريف قرطبي.

وفي سنة 1963 توجهت سلوى إلى المشرق (مصر، ولبنان والعراق)؛ حيث عاشت سنتين، لتتعرف على أكبر الملحنين، ثم رحلت إلى المغرب، لتتعاون مع عبد السلام عامر، وإبراهيم العلمي. وبفضل تشجيعات زوجها، قائد الجوق الشهير بوجمية مرزاق (1932 ـ 1985)، وسيدة الغناء الجزائري فضيلة الدزيرية (1917 ـ 1970)، توجهت إلى الغناء الكلاسيكي الجزائري واشتقاقاته، مثل الحوزي والعروبي، فتبنت سلوى طبع الحوزي، خاصة بعد وفاة فضيلة الدزيرية. وقد نصحها مصطفى كشكول بمقابلة عبد الكريم دالي، الذي علّمها أصول الحوزي لتسجل "الحوازة" و"الأندلسي". كما أدت سلوى الطقطوقات، ومنها "أنا غزالي"، التي لاتزال تعاد إلى اليوم من الفنانين الشباب. وكُرمت سلوى في الجزائر وفرنسا.. علما أنها سجلت أعلى المبيعات في الستينيات. وبفضل إرادتها القوية وإمكانياتها الفنية الكبيرة، برهنت في هذا الطابع، ومثلته من خلال الاستماع إلى دحمان بن عاشور، ومحمد خزناجي، ومطربين كبار في هذا الطبع، فصالت وجالت في العالم العربي وأوربا فضلا عن كل أرجاء التراب الوطني.

وفي هيكلة الموسيقى الأندلسية، اختارت سلوى أداء مقتطفات واسعة من نوبات المزموم، والديل، ورصد الديل، وسيكا ورمل ماية، وعدة نوبات سُجلت تحت قيادة المايسترو مصطفى اسكندراني. وبرعت في أداء طبع الحوزي والعروبي لأكبر شعراء القرون 16 و17 و18 ميلادي، منهم المصمودي، ومحمد وبومدين بن سهلة، ومحمد بن مسايب، والشاعر بن عمار. كما تعاونت سلوى مع أغلب الشعراء وكتّاب الكلمات والملحنين الجزائريين والأجانب، منهم، على الخصوص، مغاربة، وتونسيون، وسوريون، وعراقيون، وقطريون، وكويتيون. وأنتجت ما يقارب ثلاثمائة عمل غنائي، تم الاحتفاظ بها في المكتبة الغنائية المركزية للإذاعة الجزائرية. وتلقّت سلوى التاج الذهبي من لدن وزيرة الثقافة غداة الطبعة 21 من المهرجان الدولي لتيمقاد، الذي نُظم في جويلية 2006. وفي لقاء إعلامي، رثت الفقيدة حال الأغنية الجزائرية اليوم، بعد أن ظلت تسكب من حناجر عباقرة في الفن الأصيل؛ كقروابي والعنقى واعمر الزاهي ونورة ودرياسة، لتضيع بين ألوان غنائية جديدة، تكرس الرداءة والابتذال.

وتوقفت سلوى عند أغنية الراي والأغاني السريعة، التي تضلّل، حسبها، الجمهور؛ بإقحام تقنية الروبوتيك التي ترفضها بشدة؛ كبديل مزيّف عن الحنجرة المدوّية والأداء السليم. وقالت إنها تشعر بكثير من الاستياء حين يقوم البعض ممن يُحسبون على الفن، بإعادة تقديم أغانيها القديمة الموثقة بآلات موسيقية أصيلة، من منطلق أنهم يبعثونها من جديد، "ولكن عبثا يفعلون! فهم يقتلون الجمل اللحنية الأصلية، ويحرّفون اللوازم الموسيقية بأداء صوتي ضعيف، ويضيفون تقنيات كالروبوتيك، تتفّه الأغنية الأصيلة!". كما طرحت الفنانة سلوى إشكالية تهميش الفنان الجزائري من الناحية القانونية. وعدَّت "من العيب أن يجد هذا الأخير نفسه بعد رحلة عطاء طويلة، بدون وثيقة تؤمّن حياته!"، مؤكدة أسفها للمعاناة التي يتكبدها فنانون جزائريون قدماء. وللإشارة، نُقل جثمان الفقيدة، أمس الجمعة، إلى قصر الثقافة "مفدي زكريا"، لتمكين الفنانين ومحبيها من إلقاء النظرة الأخيرة عليها؛ حيث توافد عدد كبير من المواطنين والفنانين من مختلف الأجيال والمدارس الفنية، لتوديع سيدة المقام الجزائري.