الرئيس بوتفليقة في رسالة لـ»أميار» الجمهورية:
تحرروا من البيروقراطية وحاربوا المحسوبية والمحاباة
- 1121
دعا رئيس الجمهورية، السيد عبد العزيز بوتفليقة، أول أمس، رؤساء البلديات إلى محاربة كل أشكال البيروقراطية والمحسوبية والمحاباة، واستكمال البناء المحلي، ومواصلة ما تم تحقيقه في الميدان من مكاسب، سواء ما تعلق بعصرنة الإدارة وتقريبها من المواطن، وكذا الرؤية الجديدة التي تهدف إلى رفع الحواجز البيروقراطية.
وقال رئيس الجمهورية في رسالة قرأها نيابة عنه الأمين العام للرئاسة، متوجها لـ»الأميار» عليكم بالتحرر من البيروقراطية... ومكافحة المحسوبية والمحاباة»، مؤكدا أنه أصدر تعليمات لتحيين القانون الخاص بالبلدية والجماعات الإقليمية، مذكرا بما تم استحداثه من تقسميات إدارية، كالولايات المنتدبة، لتسهيل شؤون المواطن والتكفل بتنمية الجنوب الكبير، وأنه تقرر بأن تكون هناك جلسات وطنية للمجالس البلدية في 18 فيفري القادم، يتم من خلالها إثراء قانون وإشراك كل الفاعلين والخبراء، للخروج بقانون يتكيّف مع الرؤية الجديدة النابعة من تطلعات الجماعات المحلية.
كما حث الرئيس بوتفليقة كل أطياف المجتمع على «الالتفاف حول مؤسسات الدولة ودعمها والتجاوب معها، لاسيما منها البلدية حتى نتمكن سويا من الانتقال نحو تحقيق أهدافنا التنموية»، داعيا في نفس الوقت كل الشركاء السياسيين إلى «وضع اليد في اليد لخدمة الوطن والمواطن والنهوض سويا ببلادنا».
ودعا رئيس الجمهورية كل أطياف المجتمع الجزائري إلى «الالتفاف حول مؤسسات الدولة ودعمها والتجاوب معها بهدف تحقيق أهداف التنمية». وفي نفس السياق، دعا كل الشركاء السياسيين إلى «وضع اليد في اليد لخدمة الوطن والمواطن والنهوض سويا ببلادنا».
كما أكد رئيس الجمهورية، على أهمية تمكين الأمازيغية من «موقعها الطبيعي» في فضاءات التواصل اليومي للبلديات وباقي المرافق. مجددا التأكيد عزم الدولة على «ترقية اللغة الأمازيغية مع إقامة مجمع جزائري للغة الأمازيغية الجاري التحضير لإنشائه وتنصيه»، داعيا كل الهيئات والمؤسسات المعنية بأن «تمنح الأمازيغية، بمختلف ألسنتها، موقعها الطبيعي في فضاءات التواصل اليومي للبلديات والمرافق الأخرى وتنظيم دورات مستمرة للتكوين في اللغة الأمازيغية».
وأكد رئيس الجمهورية أن «الرهان المستقبلي» يكمن في توسيع مجال العصرنة على مستوى الجماعات المحلية المنتخبة وذلك بالاعتماد في تسييرها على مبادئ التنمية المستدامة والتقنيات الحديثة المرتكزة على الطاقات النظيفة والمتجددة.
وشدد الرئيس بوتفليقة على أن العصرنة هي «رافد أساسي للامركزية الخدمات العمومية»، مشيرا إلى أن النظم الجاري تطويرها سيتم توطينها على مستوى البلديات، وهو ما يلقي على عاتق رؤسائها مسؤولية تحضير الموارد البشرية لهذا التحول العميق.
ومن هذا المنطلق، يكون الرهان في الفترة المقبلة، توسيع مجال العصرنة، بحيث يشمل خدمات الـمرفق العام الجواري واعتماد مبادئ التنمية الـمستدامة في تسييرها، مع ترجيح التقنيات المعتمدة على الطاقات النظيفة والمتجددة، وتثمير موارد البلدية التي يمكن استغلالها اقتصاديا في إطار الاقتصاد الصديق للبيئة، إضافة إلى اعتماد تقنيات جديدة لتسيير ذكي للمدني، يقول رئيس الجمهورية.
ولرفع هذه التحديات، لفت رئيس الدولة إلى أنه يتعين على هؤلاء المسؤولين «التعاون والتعاضد في إطار مقاربة تضامنية محلية»، للتمكن من تجاوز الصعوبات والعوائق على الـمستوى المحلي والتسريع من وتيرة التنمية، داعيا إياهم إلى «توسيع أفق الرؤية» من خلال الانتقال سريعا من تنظيم شؤونهم الداخلية على مستوى المجالس المحلية والتحول نحو الأمور الأهم.
وثيـقة
نص رسالة رئيس الجمهورية إلى رؤساء الـمجالس الشعبية البلدية في لقائهم الوطني
«بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين و على آله وصحبه إلى يوم الدين
حضرات السيدات و السادة أعضاء الـمجالس الـمنتخبة،
أيها الحضور الكريم،
أهنئكم، بادئ ذي بدء، بإحرازكم ثقة منتخِبيكم، وهي ثقةٌ ليس قدرها بالهين، ثقة تترتب عنها مسؤوليّة جسيمة تقتضي منكم الوفاء بتلك الالتزامات التي قطعتموها على أنفسكم أمام المواطن بأن تتكفلوا بانشغالاته، وتسعوا من أجل تجسيد تطلعاته، لكنكم لستم وحدكم في معترك التنميّة، بل تقف إلى جانبكم مؤسسات أخرى تؤدّي مهامها، وهيئات تقوم بوظيفتها تحقيقا للأهداف الـمشتركة التي نرومها كلنا خدمة لوطننا الـمفدى ونهوضا بتقدمه وَرُقِـــيِّهِ.
إنني أتوجه إليكم برسالتي هذه لأن لقاءكم هذا يحمل دلالات شتى منها تكريس الإرادة الشعبيّـــة، وتعزيز السلطة الـمحليّة، وإبراز تطوّر الـمنظومة الوطنية للـمؤسسات الـمنتخبة.
عود بي لقاؤُكم هذا إلى أكثرَ من خمسين سنةً خلت إلى السنوات الأولى لاسترجاع استقلالنا، حيث كان هاجسنا الأول هو مَحْوُ رواسب الاستعمار من محيطنا وحياتنا اليوميّة، والتخلّص مما تركه الاحتلال البغيض من نُدوبٍ في ذاكرتنا ووجداننا، وبناء دولة جزائريّة بمعناها ومبناها، دولة تستند إلى مبادئ ثورة أول نوفمبر الـمجيدة، دولة تُجَسِّدُ أحلام شهدائنا الأبرار. وأبى الـمخلصون من مجاهدين وأبناء شهداء ومواطنين إلا أن ينخرطوا في ورشة بناء هذه الدولة التي كانوا يَصْبون إلى العيش فيها في كنف العزّة والكرامة والأخوّة.
أجل كانت أولى أولوياتنا الوفاء لوصيّة الشهداء التي خطّوها بدمائهم الزكيّة، لكي تُبَلَّغ لأبنائهم وأحفادهم، أي أنتم الذين جاء دوركم لتتحملوا نصيبكم من الـمسؤولية في خدمة الـمواطن والدولة. وأنا أدرك جليا أنّ مفهوم التضحية يأخذ مداه في كلّ موقع فمثلـما ضحّى الآباء و الأجداد، وقدّموا أغلى ما كانوا يملكون فإنّ أجيالا توالت في خدمة الجزائر كان مفهومها للتضحية مرتبطا بالإخلاص للوطني والوفاء له ولـمن أخلصوا في خدمته.
كان همنا أن نَبْنِيَ دولة ديمقراطية واجتماعية، ونتطلّع لتشييد دولة مؤسسات آمنَ أبناؤها بجزائرَ قويّةٍ، متحابّةٍ، متضامنة، في كنف ثوابتها و هويّتها وأصالتها وعبقريّة شعبها.
ولـما كان أَيُّ بناء يبدأ من قاعدته، فإنّ أساسه الفرد -الـمواطن الذي هو رأسمال أمّته بما يقدّمه من قيمة مضافة، ثمّ يرتقي بنيان مؤسسات الدّولة مرتكزًا على البلدية التي كانت وستظل الخلية القاعدية الضامنة لاستمرارية خدمة السّاكنة، والسعيِ الدّائمِ لتلبية الحاجات التي نُقِرُّ بأنها في تزايد بما أن الـمجتمع يشهد متغيّراتٍ اقتصاديةً واجتماعيةً وثقافيةً وسلوكيةً، والعملِ على ترجمة التطلعات إلى واقع والطموحات إلى حقيقة ملموسة.
حضرات السيدات والسادة، أيها الحضور الكريم
إنّني، وأنا أتحدّث إليكم، أستعيد مراحل التحوّلات التي شهدتها البلديّة، إِبّانَ السنوات الأولى للاستقلال وما تلاها، من تطوّر في التشريعات، إلى عهد التعدديّة التي اتسمت بدايتها بعنف دموي غير مسبوق، طال ركائز الدولة، وسعى إلى تقويض مؤسساتها بدءا باغتيال رؤساء الـمندوبيات وأعضائها الذين اضطلعوا، بإقدام وبسالة ونكران ذات وتحملوا بشجاعة مسؤولية إدارة البلديات في ظل الفراغ الـمؤسساتي الذي شهدته تلك الفترة. لقد غنموا شرف الدفاع عن الدّولة في أصعب الظروف، شأنهم في ذلك شأن الفئات الأخرى الساهرة على حماية الـمواطن والوطن.
وإنه لـمن دواعي السعادة والغبطة أن نشهد التئام لقائكم اليوم وأنتم تتقلدون شاراتكم وهي لكم بمثابة أوسمة شرف وشحها إياكم الشعب الجزائريّ الأبي الذي علق عليكم الأمل وَتَوَسَّمَ فيكم الخير فكونوا أهلا لثقته ولا تخيبوا ظَنَّهُ فيكم.
ويزداد فخرنا بأن نرى صفوف مجالسكم معززة في ثلثها بحرائر منتخبات من بين أخواتنا الأبيات اللواتي أصبحن يُسْهِمْنَ بفعالية، جنبا إلى جنب إخوانهم الرجال في معركة التنمية والبناء،
ويُضْفِينَ على العمل الـمحلي روح البذل والعطاء والتفاني في الخدمة العمومية، دائبات على التَّـــأَسِّي بأسلافِهِنَّ حرائر الجزائر من اللواتي كافَحْن بجانب إخوانهن، إبان معركة التحرر والانعتاق من نير الاستعمار البغيض.
إنها مكانة انتزعتها بكل جدارة واستحقاق وعلى كل منا اليوم العمل على تثبيتها بل وتعميقها وفقا للقيمة الجديدة التي كرسها الدستور بعد مراجعته الأخيرة.
حضرات السيدات والسادة،
إنكم على عتبة عهدتكم الانتخابية بما تحمله من رهانات جديدة وأخرى متجددة، فمنكم من حَظِيَ بتجديد الثقة في شخصه أو في حزبه، ومنكم من آمن بخدمة مواطني بلديته فتقدّم إليهم معلنا رغبته في خدمتهم، وهي مسؤولية يجب على كل واحدة وواحد منكم تقديرها حق قدرها والعمل على الارتقاء بها إلى مستوى تحدياتها. إنّها أمانة، فكونوا أهلا لها، إنّ للتاريخ عينا عليكم وكَلِمَةً يَشْهَدُ بها لكم أو عليكم.
إن انتخاب كُلٍّ منكم لـم يكن بنفس السلاسة واليسر، ذلك أن الاستشارة الانتخابية الأخيرة اتسمت بتنافس كبير إذ أنه من طبيعة الديمقراطية أن تتنافس الآراء والأفكار والبرامج. ولعلّ المكسب الكبير الذي يمكن للجزائر أن تعتزّ به هو التزامها بتنظيم الاستحقاقات الانتخابية مُرَاعِيَةً مواعيدها وآجالها.
فقد توجّه الشعب الجزائري إلى صناديق الاقتراع والاستفتاءات الـمختلفة أكثر من عشرين مرّة، مكرّسا بذلك حقّه في التعبيري وإبداء رأيهن في مُخْتَلِفِ القضايا ذات الصّلة الوثيقة بحاضره ومستقبله.
أيتها السيدات أيها السادة،
يأتي لقاؤكم هذا بعد أيّام قليلة من ترسيم رأس السنة الأمازيغية، يناير يوم عطلة مدفوعة الأجر، الترسيمِ الذي أردنا به تعزيزَ هُوِيَّتِنَا ووحدتنا الوطنيتين وانسجامنا الثقافي والاجتماعي، والعزم على التكفّل، على أوسع نطاق بترقية اللغة الأمازيغيّة مع إقامة المجمع الجزائري للغة الأمازيغية الجاري التحضير لإنشائه وتنصيبه. ومن هذا الـمنطلق الدستوري، أدعو كل الهيئات والـمؤسسات الـمعنية بأن تمنح الأمازيغية، بمختلف ألسنتها، موقعها الطبيعي في فضاءات التواصل اليومي بالبلديات والـمرافق الأخرى، وأن تنظّم دورات مستمرّة للتكوين.
أيتها السيدات أيها السادة،
دعوني، بهذه الـمناسبة، أتَرَحَّم على أرواح من فقدناهم من رؤساء مندوبيات تنفيذية وأعضائها ومستخدمي البلديات والدوائر والولايات، أولئك الذين ضحوا بأرواحهم من أجل الوطن وبقاء الدولة قائمة صامدة في وجه دعاة التطرف والإرهابي دونما اكتراث للمخاطر التي كانت تَحِيقُ بهم وبعائلاتهم، يخدمون مصالح الشعب بالنهار ويسهرون على أمنه بالليل.
لم يتوقّف دور هذه الفئة الغيورة على الوطن والـمواطن عند حدّ مواجهة أعباء مرحلة صعبة وشاقّة، بل انخرطت، بروح وطنيّة عالية، في المسعى التاريخي للـمصالحة الوطنية، فكان هؤلاء الذين تصدّوا لأعداء الوطن والشعب خلال السنوات الدامية، في مقدمة صف المباركين والناطقين بكـمة الصفح والتسامح أسوة بأسلافهم من أبناء الرعيل الأول للثورة التحريرية عشية الاستقلال مُكَفْكِفِين الدموع ومشمرين عن السواعد وداعمين لصرح المصالحة الـوطـنية بكل ما يجنب العودة إلى ويلات الماضي وشروره.
فكل ما تم إنجازه من مرافقَ طيلة الـمخططات الخُماسية السابقة، لـم يكن ليتجسد بدون البلديات ومجالسها الـمنتخبة. وإنّ ما تم تجسيده من خلال الميزانيات اللامركزية لهو أحسن دليل على دور المنتخبين في التنميّة المحليّة والتكفل بمطالب الـمواطنين. فبفضل تضافر جهود الدولة مع جماعاتها الإقليميّة تَمَكَنَّا من تدارك العجز في العديد من الميادين، إذ توصلنا، في أقلّ من عقدين من الزمن إلى تحسين كل المؤشرات التنموية وتحقيق كل أهداف الألفية للتنمية المستدامة التي حددتها الأمم الـمتحدة. وكلّ هذا ثمرة الأمن والاستقرار والشعور بأهميّة خدمة الـمصلحة الوطنيّة.
أما الآن وقد خرجنا من متاهة العنف واستأنفنا مساراتنا التنموية القاعدية المحلية، ها نحن مقبلون على مغالبة تحديات جديدة لا تقل أهمية عن سابقاتها، ألا وهي معركة عصرنة الـمرافق العمومية البلدية، معركة تعميق اللامركزية، ومعركة تحرير المبادرات الاقتصادية والتنموية المحلية.
تلكم هي أولوياتكم في المرحلة المقبلة. إنكم مطالبون بالتحرري أولا كمسئولين محليين، من البيروقراطية والاتكال، في أسلوب تعاملكم مع محيطكم وفي منهجية تسييركم لمصالحكم، والتوجه نحو تحرير المجموعات العاملة من هاته الآفات التي باتت عائقا كبيرا أمام تقدم بلادنا.
إنّ أمامنا، في العالـم نماذج كثيرة، سواء أتعلّق الأمر بنجاحها أو بإخفاقها في امتحانات التنميةّ والتطوّر فبعض البلدان لـم تتمكن من تجاوز صعوباتها بسبب قلة الـموارد والوسائل الـمتاحة، وبعضها الآخر بفعل الخيارات الخاطئة، بينما تزخر بلادنا بموارد متنوّعة كفيلة بتحقيق الطفرة اللازمة نحو التنمية السريعة، أبرزها الثروة البشرية الـمؤهلة الهائلة التي يشكّل فيها الشباب القوة الأساس، هذه القوّة، التي تتطلب منا جميعا حسن توظيفها ومنحها الثقة لإبراز قدراتها ومهارتها، مع تحرير للـمبادرات وتفعيل للأفكار والـمشاريع، و بلا شك فإنّ للبلديات دورًا كبيرا في هذا الـمجال.
إن بلدياتكم، على اختلافها وخصوصياتها، تزخر بمقومات تنموية ذاتية يتعين على كلّ مجلس منتخب الاجتهاد من أجل إيجاد كيفية تثميرها، ولن يتأتى ذلك من دون تفتحكم على محيطكم وتواصلكم الـمستمر مع الـمواطن، ومع الفاعلين والشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين، والـمجتمع الـمدني.
إن المواطن هو المنطلق والغاية، ويجب أن يكون دوما في صُلب اهتماماتكم. إنه ليس مجرد رقم أو مُرْتَفِقٍ طالبٍ لخدمة عمومية، بل هو شريك كامل الحقوق والواجبات، منه تستمدون شرعيتكم، وهو الأدرى بما هو أصلح لـمدينته أو قريته أو حيّه، كما كان بالأمس القريب الأدرى بمن سَيُوَلِّيهِ شؤونَه.
إن الـمواطن هو ذلك الطبيب الضليع بقطاع الصحة والنظافة العمومية والبِـيئة، وهو الـمحامي العارف بالـمسائل القانونية والقضائية، وهو الخبير بالحسابات والـمسائل الـمالية والجبائية، وهو الناشط الجمعوي القريب من حاجات الـمواطن وهواجسه، والإمام الذي يتقاسم مع العائلات أفراحها وأتراحها، وهو الـمعلّم الحريص على مدرسته وتلاميذه، وهو العائلة التي تدرك معنى الحفاظ على المحيط. إنّهم، أكثر من هذا، مواطنون يشكلون قوة اقتراح ومنجماً للحلول.
لقد ضَمّنَّا الدستورر أثناء مراجعته الأخيرةِ، أحكاما نصت على ترقية الديمقراطية التشاركية على الـمستوى الـمحلي، وأردناها مُكَمِّلَةً غيرَ مُنْتقِصَةٍ من صلاحياتكم، تقودون أعمالها بأنفسكم.
تلك هي القيمة الـمضافة من جملة القيم الديمقراطية النبيلة التي تضمّنها الدستور الجديد قصد تعزيز شرعية الهيئات الـمنتخبة وتشكيلتها، مكرسين الرقابة الـمستقلة للعمليات الانتخابية، ترقية الـمقاربة بالنوع، والتسيير الشفاف من خلال الحق في الاطلاع
والحصول على الوثائق الإدارية وحق المساءلة، وهي كلها وغيرها، مبادئ جاءت لترقية مكتسبات التجربة الديمقراطية للبلاد.
وعلى صعيد آخَرَ، إنني كنت حريصا على أن يتضمن الدستوري من بين ما يتضمن، حقَّ البلدية في الحصول على الـموارد الذاتية الكافية التي تُمكِّنها من مواجهة أعبـئها، لاسيما تلك الناتجة عن تحويل صلاحيات جديدة، كما كرسنا حق الأجيال القادمة في الاستفادة من ثروات البلاد الحالية وضرورة الحفاظ عليها في إطار مسعى تنمويٍّ مستديمٍ.
أيتها الـمنتخبات، أيها الـمنتخبون،
إني على يقين من أنه لا يمكن للبلدية مواجهة تحدياتها الجديدة دون الاعتماد على النفس وتحرير مبادراتها وتسيير مواردها بنفسها، وهو ما لا يمكن أن يتم دون تعميق اللامركزية. لقد أصدرت، في هذا الإطار، توجيهات للحكومة من أجل تضمين القانونين الجديدين للجماعات الإقليمية والجباية الـمحلية، رؤيةً جديدةً تضع الـمجالس الـمنتخبة أمام مسؤولياتها كاملة، مانحة إيّاها كل الوسائل اللازمة التي تسمح لها بممارسة صلاحياتها في إطار قانوني واضح ودقيق.
إن هذا التحول يقتضي منكم جميعا التجنّــد وتجاوز الخلافات والـمصالح الضيقة، وتعبئة كل الوسائل الـمتاحة، بشرية كانت أو مالية ومادية، معتمدين على مقومات أقاليمكم ومكنوناتها.
لقد سبق لي أن التزمت بأن أَبْلُغَ بمسار التنمية الـمحلية إلى مداه حتى تستفيد منه كل جهات الوطن إلى آخر بقعة من التراب الوطني، وأنا عازمٌ كلّ العزم على ذلك، ولن أدخر أي جهد في هذا السبيل. وما القرار الذي وضع حيز التنفيذ من أجل إعادة تفعيل صندوقي تنمية الهضاب العليا و الجنوب إلا دليل على ذلك، وإنّ إيماني لكبير بقدرات جنوبنا الكبير ومناطقنا السهبية، تلك هي قوتنا الكامنة، ولا أدلَّ على ما أقول من الطفرة الفلاحية التي تشهدها صحراؤنا اليوم، والتي قطعت الشك باليقين وفتحت الأبواب أمام الاستثمارات الدائمة، التي تتجاوز الربحيّة وتحقيق الاكتفاء.
انطلاقا من هذا الإيمان الراسخ، شرعنا في إعادة تنظيم مصالح الدولة على الصعيد الـمحلي وأنشأنا ولايات منتدبة بالجنوب تماشيا مع الحركة التنموية التي عمت بلادنا، خلال العشريتين الماضيتين، إيمانا منا بضرورة تقريب الإدارة من المواطن وتركيز جهدٍ تنمويٍّ أكبر على الولايات الـمنتدبة الـمستحدثة.
أيتها السيدات، أيها السادة رؤساء البلديات
إننا على الـمستوى الـمركزي نسعى لتمكينكم من كل وسائل النجاح، والسماح لكم بالعمل بفعالية ومن تجسيد مشاريعكم الانتخابية بكل حرية ومسؤولية، وذلك في إطار نظرة متكاملة، إذْ لـم يبق سوى أن ينخرط الجميع ضمن هذه الرؤية الإستراتيجية والشروع في تنفيذها ميدانيا.
إن الـمعركة الأولى التي يتعين عليكم خوضها هي مكافحة البيروقراطية والـمحسوبية والـمحاباة والـممارسات غير الـمطابقة للقانون. فالجهود الجارية حاليا لتبسيط الإجراءات الإدارية وعصرنتها بفضل التكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصال يجبُ أن تشكل مرتكزكم الأول.
لقد قطعتم شوطا كبيرا في هذا الـمجال وفي فترة وجيزة، وأهنئكم بهذا الإنجاز الذي تحقق على أيديكم لأنه يكرّس الفعالية والجدوى والشفافية، إلا أن الطريق لا تزال طويلة وتقتضي تجندا أكبر على كل الـمستويات حتى نقضي على كل التعقيدات البيروقراطية التي أصبحت تكبد اقتصادنا ومستثمرينا تكاليف باهظة، وتعكر صفو العلاقة بين الإدارة والـمواطن.
إن العصرنة هي رافد أساسي لِلاَمَرْكَزِيَّةِ الخَدَماتِ العمومية، فكل النُّظُم الجاري تطويرها سَتُوَطَّنُ على مستوى البلدية وهو ما يلقي على عاتقكم مسؤولية تحضير الـموارد البشرية لهذا التحول العميق الذي بدأنا نستشعر جدْوَاهُ ابتداء من سنة 2012. فبلديات اليوم ليست بلديات الأمس، فالـمرتفق بشبابيكها يجد خدماتٍ سريعةً وعصريةً تكفلها حواسيب وتطبيقات معلوماتية متطورة بفضل كفاءاتنا الوطنية من مهندسين وتقنيين منتشرين في البلديات والولايات.
أغتنم هذه الفرصة لأنوه بالجهود الكبيرة التي يقوم بها مُخْتَلِفُ الأعوان على الـمستوى الـمحلي، وأحثهم، بهذه الـمناسبة، على مواصلة الجهد وعدم التواني في مباشرة كل عمل من شأنه التخفيف من معاناة الـمواطن وعصرنة الإدارة الإقليمية.
إن رهانهم، في الفترة الـمقبلة، سيكون توسيع مجال العصرنة بحيث يشمل خدمات الـمرفق العام الجواري واعتماد مبادئ التنمية الـمستدامة في تسييرها، مرجحين التقنيات الـمعتمدة على الطاقات النظيفة والـمتجددة، وتثمير الـموارد البلدية التي يمكن استغلالها اقتصاديا في إطار الاقتصاد الدائري الصديق للبيئة والـمحافظ عليها، إضافة إلى اعتماد تقنيات جديدة لتسيير ذَكِيٍّ لـمدننا، اقتصادا للوقت وللـمال، وللـموارد الطبيعية.
تلكم هي التحديات التي أنتم مقبلون على مغالبتها، وهي كثيرة ومتعددة، لذلك فعليكم التعاون والتعاضد في إطار مقاربة تضامنية محلية، حتى تتمكنوا من تجاوز الصعوبات والعوائق على الـمستوى المحلي. فبالتضامن ستتمكنون من تجاوز كل الصعاب ومن تسريع وتيرة التنمية في مدنكم وقراكم، وبالتالي فأنا أدعوكم إلى توسيع أفق الرؤية، والانتقال سريعا من تنظيم شؤونكم الداخلية على مستوى مجالسكم والتحول نحو أمهات الأمور.
ولتمكينكم من تنسيق جهودكم والتواصل دوريا مع مصالح الدولة في شأنها، قررت أن نَدْأَبَ، من الآن فصاعدا، على ســُنـَّـةِ عقد الجلسات الوطنية للبلدية كل سنة في يوم 18 يناير مع جعل هذا اليوم يوما وطنيا للبلدية، وذلك عرفانا من الشعب والدولة لدور هذه الخلية القاعدية للدولة في مسار التنمية الوطنية ومسار تعزيز دعائم دولة الحق والقانون.
أيتها السيدات أيها السادة،
إنّ هذا اليوم سيكون أيضا مناسبة لتجديد العهد مع شهداء الواجب الوطني وتقويم الـمسار نحو ما هو أصوب، وتمكين الـمواطن من النظر إلى البلدية برؤية مخالفة، بلدية دورها كدور خلية النحل العاملة، بلدية تعمل في الليل بينما الـمواطنون نيامي لضمان النظافة العمومية والإنارة وإصلاح الـمنشآت القاعدية، وتَصِلُ الليل بالنهار في تقديم عدد كبير من الخدمات الإدارية والتقنية دون كلل أو ملل.
إني، إذ أهنئكم بعيدكم الوطني هذا، أُهيب بكم أن تكونوا في مستوى رمزيته، وتغالبوا التحديات التي تواجهكم، بنفس الشجاعة والاقتدار اللتين تحلى بهما من سبقوكم.
وختاما أغتنم هذه الفرصة لدعوة كل أطياف الـمجتمع لِلإِلْتِفَاف حـــول مؤسسات الدولة ودعمها والتجاوب معها، لاسيما منها البلدية، حتى نتمكن سويا من الانتقال نحو تحقيق أهدافنا التنموية ونُنْزِلَ بلادنا المنزلة اللائقة بها في حظيرة الأمم/ كما أدعو كل الشركاء السياسيين إلى وضع اليد في اليد وخدمة الـمواطن والوطن سويا والنهوض ببلادنا.
وفق الله مسعاكم وسدد خطاكم،
الـمجد والخلود لشهدائنا الأبرار،
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته».