رغم توفر الأجهزة في المحلات والمساحات التجارية الكبرى
الدفع الإلكتروني.. جهود جبارة تصطدم بمفاهيم خاطئة
- 121
رشيدة بلال
«أسحب أموالي بالبطاقة لتسهيل مهامي وتجنب الطوابير، لكنني لا أدفع إلكترونياً عند الشراء؛ لأنني لا أثق في الرقمنة"… بهذه العبارة لخّص أحد المواطنين بالبليدة موقفه من الدفع الإلكتروني. معادلةٌ لاتزال مصالح التجارة تحاول إيجاد حلّ لها من خلال العمل الميداني، الرامي إلى رفع الوعي بأهمية الدفع الإلكتروني، الذي التزم به التجار والمتعاملون الاقتصاديون عبر اقتناء الأجهزة، فيما لايزال المواطن يتردد في العمل بها رغم أن كل المؤشرات توحي بأن التعامل النقدي يسير نحو الزوال بفعل التحول الرقمي السريع، الذي يفرض حتمية مواكبة التطورات.
لفت انتباهَ "المساء" وهي تتجول في إحدى المساحات التجارية الكبرى بولاية البليدة، تعمُّد المشرف على الصندوق وضع جهاز الدفع الإلكتروني بعيداً عن الأنظار؛ بحجة أن وجوده على الطاولة يعيق عمله. كما أنه لا ضرورة له؛ بسبب غياب الزبائن الذين يستعملونه؛ إذ يفضل أغلب المستهلكين الدفع نقداً، وحمل الأموال في جيوبهم.
وحسب صاحب المحل، فإن الجهاز موضوع فقط ليُعرض أمام مصالح الرقابة التابعة لمديرية التجارة، التي فرضت على جميع التجار ضرورة اقتنائها، واستعمالها. لكنه أضاف قائلاً: "الجهاز موجود. أما استعماله فشبه منعدم؛ لأن الزبائن يرفضون التعامل به؛ خوفاً على أموالهم؛ فهم يفضلون رؤية العملية النقدية بأعينهم". ويرى التاجر أن الجهاز أصبح مجرد ديكور يزيّن المحل، لا يُستخدم إلا في حالات قليلة، ومحدودة. هذه الصورة، كما نقلها صاحب المحل، توحي بأن المجهودات المبذولة لإقناع المستهلك بتغيير طريقة الدفع نحو الإلكترونية، لم تحقق بعد النتائج المرجوة منها؛ تحسبا للانتقال نحو تعميم خدمة الدفع الإلكتروني بحلول سنة 2026.
سحب الأموال بالبطاقة... مقبول والدفع بها مرفوض
الغريب في هذه المعادلة، حسب ما رصدت "المساء" من خلال آراء المواطنين، أن الجميع يفضلون سحب الأموال عبر البطاقة. وقد كان من السهل إقناع المستهلكين بها؛ إذ يميل معظمهم إلى تفادي الطوابير داخل مكاتب البريد، معتبرين أن السحب الإلكتروني وسيلة مريحة، وسريعة، وتسمح بتوفر المال في أي مكان كانوا فيه.
ويقول البعض إن ما حفّزهم على تعميم استعمال البطاقة في السحب، هو الشعور بالاطمئنان عند الإمساك بالأموال المسحوبة، وعدِّها بأيديهم دون قلق من مشاكل الشبكة. بل إن المواطن يشعر بالانزعاج إذا لم يتمكن من السحب بالبطاقة. لكن عند الحديث عن الدفع الإلكتروني عند الشراء، تبدأ الحجج والمبررات، وأولها غياب الثقة.
وأكثر العبارات تداولاً بين المستهلكين: "نحب يكون عندي الصرف في الجيب" ، أو "ما نوثقش في الدفع الإلكتروني" ؛ وكأنهم يتعاملون مع عمليتين مختلفتين، في حين أن سحب الأموال أو اقتطاعها إلكترونياً هما عمليتان ماليتان متماثلتان، هدفهما مواكبة التطورات التكنولوجية على غرار ما هو معمول به في دول متقدمة؛ مثل بريطانيا؛ حيث اختفى التعامل النقدي تقريباً.
مختصون يوضحون: البيئة التجارية غير مؤهَّلة بعد
أكد حسان منوار رئيس جمعية حماية المستهلك في تصريحه لـ«المساء"، أن التجارة الإلكترونية في الجزائر "تواجه مقاومة كبيرة" سواء من قبل المتعاملين الاقتصاديين، أو التجار، أو حتى المستهلكين؛ بسبب غياب الثقة الذي يبقى التحدي الأكبر أمام تعميمها. وأوضح المتحدث أن هذه الصعوبة تعود إلى البيئة التجارية الفوضوية التي تطبع السوق الجزائرية، حيث إن أكثر من 50 بالمائة من الأنشطة التجارية غير قانونية. وبعضها مواز؛ ما يجعل الانتقال إلى الدفع الإلكتروني صعباً. كما أشار إلى أن شبكة الإنترنت لاتزال دون المستوى المطلوب؛ ما يحدّ من فعالية التعاملات الرقمية عند الرغبة في عملية الشراء خارج المدن الكبرى.
وأضاف أن متعاملي الهاتف النقال مطالَبون بتحسين التغطية، لتشمل مختلف المناطق؛ لأن الدفع الإلكتروني لا يجب أن يقتصر على المدن الكبرى فقط. كما إن كثيراً من التجار يرفضون فتح حسابات بنكية. ويفضلون المعاملات النقدية إلى درجة رفضهم الصكوك البريدية في بعض التعاملات. هذا الموقف، حسب منوار، زاد من صعوبة إقناع المستهلك باعتماد الدفع الإلكتروني، الذي لا يقتصر على اقتناء الجهاز فقط، بل يتطلب معرفة كيفية استعماله، وفتح حساب بنكي، وغيرها من الإجراءات التي تجعل بعض التجار خاصة يتمسكون بالطرق التقليدية. وأشار إلى أن بعض المؤسسات الكبرى حقيقة شرعت في العمل بها مثل "نفطال" ، التي بدأت مؤخراً فقط التعامل بالدفع الإلكتروني، في حين أن مؤسسات أخرى كالفنادق والمطاعم والصيدليات والمخابر، لاتزال تعتمد الدفع النقدي؛ ما يجعل المواطن غير معتاد على الوسيلة الجديدة.
واقترح المتحدث جملة من التحفيزات لتشجيع كل من المواطن والتاجر على استعمال الدفع الإلكتروني؛ مثل تقديم تخفيضات على الأسعار عند الدفع بالبطاقة، أو منح امتيازات للتجار الذين يحققون نسبة معيّنة من تعاملاتهم إلكترونياً. وقال إن مثل هذه الخطوات "تروِّج ثقافة الدفع الإلكتروني، وتسهّل الانتقال إليها بسلاسة" .
مصالح التجارة: تجاوب نسبي من المواطن والتوعيةُ مستمرة
من جهته، أكد يوسف عودية، رئيس مكتب ترقية الجودة بمديرية التجارة لولاية البليدة، أن المديرية وضعت برنامجاً تحسيسياً واسعاً؛ تنفيذاً للتعليمات الوزارية المتعلقة بتعميم وسائل الدفع الإلكتروني بالتنسيق مع الشركاء المحليين، منها حماية المستهلك. وأوضح أن الحملة استهدفت المحلات التجارية الكبرى، والأنشطة التي تعرف إقبالاً واسعاً من المستهلكين، ومتاجر الألبسة والأحذية، والفنادق والمطاعم، والصيدليات.
وركّزت الحملة على مزايا الدفع الإلكتروني من حيث الموثوقية، والأمان، مذكّراً بدخول المادة 111 من القانون 17/11 المؤرخ في 28 ديسمبر، حيّز التنفيذ، والتي تُلزم المتعاملين الاقتصاديين بوضع وسائل الدفع الإلكتروني أمام المستهلكين؛ للتعرف عليها، واستعمالها؛ بغية التعود عليها.
وأشار عودية إلى أن مصالح الرقابة تقوم بمعاينات ميدانية دورية للتحقق من التزام التجار باقتناء الأجهزة، وعرضها. وفي حال تسجيل تقصير يتم توجيه إعذارات، مؤكداً أن أغلب التجار أبدوا تجاوباً ملحوظاً؛ من خلال عرض الأجهزة داخل محلاتهم، أو إظهار صكوك تؤكد تقديم طلب لاقتناء الأجهزة؛ لكونها سجلت نقصا على مستوى البنوك في الآونة الأخيرة.. وأضاف أن عمل مصالح التجارة لا يقتصر على مراقبة وجود الجهاز فقط، بل يمتد إلى متابعة مدى استعماله فعلياً، مشيراً إلى أن استعماله لايزال فتياً؛ بسبب تخوف البعض من تسريب البيانات البنكية الخاصة بالمستهلك، وضعف الوعي بأهمية هذه الوسيلة، فضلاً عن غياب الثقة في التعاملات الافتراضية التي تنقل المال إلكترونياً من جيب المستهلك إلى رصيد التاجر، وكلها معطيات تدعونا ـ يختم ـ الى تكثيف الجهود؛ لرفع الوعي بأهمية مواكبة هذا التحول الرقمي.