المطبــخ العنـابي خصوصية وتقـاليد متجذرة

الكـسكسي... طقوس وأذواق لا تقاوَم

الكـسكسي... طقوس وأذواق لا تقاوَم
  • 135
سميرة عوام سميرة عوام

ينفرد المطبخ العنابي بخصوصيته وتقاليده المتجذرة. ويُعد الكسكسي أبرز ملامحه، وأكثر أطباقه شهرة وانتشاراً. تجاوز الكسكسي كونه طبقا رئيسا، ليغدو طقساً اجتماعيا وروحيا، يرافق كل مراحل الحياة؛ من الأفراح إلى الأعياد، ومن الأيام العادية إلى المناسبات الاستثنائية.

في ولاية عنابة لا يُعد الكسكسي مجرد وجبة، بل عنوان للكرم، والهوية، والانتماء. وتتنوع طرق تحضيره حسب الموسم، والمناسبة، وحتى اختلاف العائلات، ما يجعل منه طبقا غنيا من حيث الشكل، والمضمون.

الكسكسي الأبيض طبق الفخامة والمناسبات الكبرى

يأتي الكسكسي بالمرق الأبيض على رأس الأطباق التي تُحضّر في المناسبات الرسمية والخاصة، مثل الأعراس، وخصوصا اليوم الثاني من عيد الأضحى. ويتميز هذا النوع من الكسكسي بمرقته البيضاء الخفيفة، المحضّرة دون طماطم، والتي تكتفي بالبصل والتوابل الناعمة والحمص، ما يمنحها طعما رقيقا، وفخما.

ويُطهى اللحم ـ عادة لحم الخروف ـ حتى يصير طريا. ويُرفَق بكريات اللحم المفروم المحشوة بتوابل تقليدية دقيقة. ويُقدم الطبق بعد تزيينه بهذه الكريات وقطع اللحم والحمص. 

ويُعتنى بتقديمه في صحون أو طواجن تقليدية، تعكس التقاليد العنابية في الضيافة والأناقة. هذا الطبق ليس فقط غذاءً، بل احتفاء بالمناسبة، وصورة من صور التقاليد الراسخة.

الكسكسي الأحمر.. لمّة العائلة ونكهة الدفء

يُحضَّر الكسكسي بالمرق الأحمر بكثرة في بيوت عنابة. ويُعد الخيار المثالي لعطلة نهاية الأسبوع، واللقاءات العائلية، ولمّات الأهل. 

ويتميز هذا الطبق بمرقته الحمراء الغنية، التي تعتمد على الطماطم المركزة، ومزيج دقيق من التوابل العنابية، كالكمون، والفلفل الأسود، والقرفة أحيانا.

وتُضاف الخضر الموسمية مثل الجزر، والكوسة، والقرع، واللفت، وحتى البطاطا، فضلًا عن الحمص، واللحم بنوعيه (الخروف أو الدجاج). ويُطهى على نار هادئة حتى تنضج النكهات، وتتجانس المكوّنات. 

ويُقدم الكسكسي في هذا الشكل مزيّنا بالخضر الناضجة، وقطع اللحم الطرية، وغالبا ما يُرافقه اللبن، أو السلطة الطازجة.

كسكسي بالحليب والبصل... طبق الشتاء الدافئ

حين يشتد البرد وتصبح الليالي طويلة تلجأ العائلات العنابية إلى طبق بسيط ودافئ، يتمثل في الكسكسي بالحليب المغلي والبصل. ويُعد هذا النوع من الأطباق التقليدية شتوية. ويُطهى بإضافة الحليب الساخن إلى الكسكسي المفوَّر مسبقا، مع قليل من الملح، والبصل المقلي، الذي يمنح الطبق نكهة مميزة ودافئة.

ويُفضل كبار السن هذا النوع من الكسكسي، ويجدون فيه راحة للبدن، وحنينا للماضي، خاصة عند تقديمه مع اللبن أو الزبدة الطازجة. 

ورغم بساطته إلا أنه يحمل ثراءً في النكهة، وروحا تقليدية لا يضاهيها شيء.

كسكسي بالقديد والخضر... نكهة الأصالة وحفظ المواسم

يُعدّ الكسكسي بالقديد من الأطباق التي تجمع بين التراث والذكاء الغذائي، حيث يُستخدم اللحم المجفف (القديد) المحفوظ منذ موسم الأضاحي. ويتم طهوه مع خضر مثل الجزر، واللفت، والبطاطا والحمص.

وتُطهى هذه المكونات معا في مرقة غنية تكتسب نكهة قوية من القديد. ويُقدّم الكسكسي المفوَّر مسبقا مغمورا بهذه المرقة، ومزيَّنا بقطع اللحم المجفف. هذا الطبق حاضر بقوة في فصل الشتاء، أو في المناسبات التقليدية. ويُعد شهادة حية على أساليب الحفظ، والاقتصاد المنزلي القديم.

الكسكسي المسفوف... نكهة رمضانية وسهرات عائلية

من الأطباق الحلوة التي تجد مكانتها على مائدة رمضان يبرز "المسفوف" أو الكسكسي الحلو، الذي يُعد باستخدام الزبيب، والعنب الجاف، والسكر، والزبدة، وأحيانًا القرفة أو ماء الزهر. 

ويُفور الكسكسي مرتين. ويُضاف إليه الزبيب خلال عملية التبخير، ثم يُخلط بالسكر والزبدة لتقديمه دافئا أو باردا.

كما يُقدَّم المسفوف غالبا في السحور خلال رمضان، أو في سهرات العائلة العادية. وقد يُقدَّم في بعض الأعراس والحفلات، خاصة إذا رافقه اللبن البارد أو المشروبات التقليدية. وهو من الأطباق المفضلة عند الكبار والصغار على حد سواء.

الكسكسي المطبوخ... أكلة الفلاحين وذاكرة الريف

قبل انتشار طهو الكسكسي بالبخار (الكسكاس)، كان سكان القرى والفلاحون يُعِدّون الكسكسي بطريقة أبسط، وأكثر اقتصادية؛ عبر طبخه مباشرة داخل القدر. 

يُخلط الكسكسي بالزيت والماء، ويُطهى على نار هادئة مع الخضر دون الحاجة إلى التبخير.

ورغم أن هذا النوع من الكسكسي قد أصبح نادرا اليوم، إلا أن ذكراه لاتزال حاضرة بقوة في وجدان من عاشوا تلك الحقبة. ويُعدونه أحيانا لاستعادة تلك الأيام البسيطة التي كان فيها الطعام أكثر قربا من الأرض، ومن الطبيعة.

حبيبات الكسكسي... بين الصنعة اليدوية وتحديات العصر

من الجوانب التي تُميز الكسكسي في عنابة بل وفي كامل مناطق الجزائر، الكسكسي المصنوع منزليّاً. 

تُعِد النساء هذا الكسكسي يدويا باستخدام سميد القمح والماء والملح. ويشكلن الحبيبات بعناية، ثم تُجفَّف وتُخزَّن للاستعمال لاحقا.

ورغم جودته العالية إلا أن هذا النوع من الكسكسي أصبح نادر الوجود في السوق، بسبب قلة النساء اللواتي مازلن يحترفن هذه الصنعة. ومع ذلك فإن كثيرا من العائلات لاتزال تفضل اقتناء الكسكسي اليدوي، لما يتميز به من قوام مثالي، ونكهة أصيلة لا تُقارَن بالمنتجات الصناعية. وتتنوع حبيبات الكسكسي بين الرقيق والمتوسط. ويُختار النوع حسب الطبق: فالرقيق يُستخدم في المسفوف والكسكسي بالحليب. والمتوسط في أطباق المرق الغنية. 

ويُفوَّر الكسكسي مرتين على الأقل. وفي بعض الأنواع يُضاف إليه الزبيب أو الخضر أو حتى اللحم خلال التبخير؛ لضمان نضج النكهات معا.

الكسكسي العنابي عشق لا ينتهي

لا يختلف اثنان في عنابة في محبة الكسكسي؛ فالكبار يرونه متصلا بالهوية. والصغار يستمتعون بتنوعه الغني. 

هو طبق دافئ، مرن، قادر على أن يتحول من وجبة بسيطة إلى مائدة احتفالية فخمة.

ومن خلاله تتجلى مفاهيم المشاركة، والتعاون، واللمة، والضيافة الأصيلة. ولا توجد طقوس عيد أو عرس أو حتى جمعة عائلية دون الكسكسي، الذي يبقى الرابط الحي بين الماضي والحاضر، وبين التراث والتجديد.

ويبقى الكسكسي في عنابة عنوانا للدفء، والهوية، والحنين. هو طبق يتجاوز المذاق ليُصبح قصة تُروى، عادة تُحفظ، وتراثًا يُنقل من جيل إلى جيل؛ سواء أُعدّ بالمرق الأبيض أو الأحمر، بالحليب أو القديد، في المناسبات أو الأيام العادية، فإن الكسكسي يظل طبقا جامعا، يُعبّر عن روح عنابة، ومكانتها الثقافية العريقة في المطبخ الجزائري الأصيل.