خدش مشاعر الأبناء والمتمدرسين
تصرفات غير واعية تعيق التعلّم
- 1283
تعرف الجزائر بروز عدد كبير من الكفاءات العالية في مختلف المجالات الفكرية والعلمية، وجدت بالتأكيد من يدعمها ويبرز مواهبها ومهاراتها منذ الصغر، ويشجعها على تحقيق أهدافها. وبطبيعة الحال، لا تعبر الكفاءات والمهارات عن العدد الحقيقي الذي تتوفر عليه الجزائر، لأن عددا كبيرا من الأشخاص يتمتعون بمواهب مختلفة وقدرات فكرية وذهنية عالية تكاد تتعدى حدود العقل، لكنهم ولسوء حظهم، لم يجدوا الدعم اللازم والكافي من الأسرة أو المدرسة، ولا يقتصر الأمر على تجاهلهم فحسب، إنما يتعداه إلى تحطيم معنوياتهم والتأثير سلبا على شخصيتهم، وهم في مرحلة الطفولة.
الإحساس بالطفل والوقوف على حقيقة ما يشعر به ومرافقته، أمور تقود الوالدين إلى معرفة كيفية توجيه فلذات أكبادهم في معترك الحياة، والتعامل معهم والأخذ بيدهم وقت الحاجة، وتشجيعهم على الوثوق في أنفسهم وضمان مستقبلهم، ولا يتوقف هذا الأمر على الأشخاص المتعلمين أو المثقفين دون غيرهم، لأن نوابغ في مجالات مختلفة برزوا من عائلات غير متعلمة، حيث أن نواة هذا النوع من الأسر يحمل من الوعي ما يفوق القدرة على تصور الأمر في التعامل مع الأطفال. للأسف، تنمو الفئة غير المحظوظة والمتعثرة من الأبناء داخل الأسرة أو المدرسة، في محيط يجهل كيفية التعامل معها أو اكتشاف ما تحمله من مواهب، وهو ما يجعل الكثيرين منهم يجنحون للانطواء والتمرد على الواقع، لأن الشعور بالنقص الذي يعتريهم يجعل منهم أشخاصا غير قادرين على تحقيق ذاتهم وأحلامهم وبناء مستقبلهم.
تصرفات غير مسؤولة ترهن مستقبل الأبناء
ممارسات تظهر وكأنها عادية بالنسبة للكثيرين من أولياء الأمور، لكنها في الأصل، حسب التجارب التي مر بها عدد لا يستهان به من الأشخاص في مرحلة الطفولة، حالت دون تحقيق طموحاتهم، وأدت بهم وبنسب متفاوتة، إلى تعثرهم في مسار الدراسة أو معترك الحياة، ورغم أنهم يحملون في ذاتهم بوادر النجاح والتميز، إلا أن الكثيرين يصرحون علنا بأنهم لا شيء.
من جملة الممارسات التي أثبت الواقع سلبيتها؛ لجوء عدد من الآباء أو الأمهات، حسب الحالات، إلى مقارنة الطفل بطفل آخر، سواء كان من داخل أو خارج الأسرة، أو منعه من التعبير عن رأيه والكلام بحضور الكبار في السن، وفي أحيان أخرى، يتم توبيخ الطفل أمام أفراد الأسرة أو الأقارب، بالإضافة إلى تفضيل الأخ الأكبر عن الأصغر أو العكس، ويمتنع آخرون عن السماع لانشغالات أبنائهم والوقوف على مخاوف قد تعتريهم، أو مشاكل قد يواجهونها في المدرسة أو في الشارع، ولنا أن نتصور وقع هذه التصرفات على الأبناء في نعومة أظافرهم.
الجلوس آخر القسم عقوبة نفسية شديدة الوقع
ممارسات أخرى أدت بأصحابها إلى الشعور بأنهم لا شيء، وهو تعمد المدرسين إلى اعتبارهم أقل درجة في التعليم من غيرهم، ويتم إجبارهم على الجلوس في آخر القسم، وهو ما يؤدي بالعديد منهم إلى إهمال الدروس وعدم التركيز، واعتبار أنفسهم فاشلين، ومنهم من يحلو له الوضع، ويتعمد عدم متابعة الدرس، قد يكون السبب راجع إلى أنه لا يريد ذلك، وقد تجعله معاملة المعلم أو المعلمة يحس وكأنه غير مؤهل للدراسة أصلا، ونجده يتعمد إثارة الشغب داخل القسم، وتأتي بعدها مرحلة الندم عند مغادرة مقاعد الدراسة مبكرا. أساليب أخرى قد لا يقف الآباء والأمهات على خطورتها، إلا بعد فوات الأوان، وهي الإفراط في التدليل وممارسة المساومة على أبنائهم، وإعطائهم وعودا مغرية مقابل القيام بعمل ما، كإنجاز التمارين أو المراجعة أو الحصول على نقاط عالية في الامتحانات، وهو ما يعني تمرد الأبناء وانتظار المقابل في كل مرة.
حالات يتذكرها أصحابها بنوع من الألم
حسب ما أسر لنا به أحدهم، فإنه كثيرا ما يشعر بأنه شخص لا يفهم نفسه، ويحس بأنه عاجز في الحياة، رغم أنه ناجح في عمله، والسبب هو لجوء والده إلى مقارنته بابن عمه وانتقاد كل ما يصدر عنه من تصرفات، فبالنسبة لوالده، يظل محدثنا أقل قدرة على التفكير أو التصرف. يضيف بأنه لا يفهم تصرف والده، وهو إلى يومنا هذا، يشعر بنوع من الحساسية في التعامل مع قريبه، كأنه لا يجد متعة في ما يحققه وما يتوصل إليه من نجاحات في حياته. يؤكد في المقابل، بأن أبناءه محظوظون، لأنه يحاول قدر الإمكان تجنيبهم ما تجرعه من معاناة نفسية، ويريدهم أن يكونوا أحسن منه حظا.
هناك حالة أخرى سببها الأسرة، تعكس معاناة متمدرسة من تصرف والدها الذي كان يمنعها من الحديث والجلوس مع الضيوف دون إخوتها الآخرين، والسبب يرجع إلى كونها ذات بنية قوية وتعطي اعتبارا بأنها كبيرة في السن، وقد ولد هذا التصرف لديها عجزا في النطق، والغريب في الأمر، أن المشكل يحدث لها وهي في القسم دون المنزل، وقد صنف المدرسون حالتها على أنها من ذوي الاحتياجات الخاصة، واقترحوا على العائلة توجيهها إلى مدرسة متخصصة، ولم تتمكن الأسرة من إثبات عدم معاناة ابنتهم من مشكل الصم أو البكم، ولحسن حظها، أدى تعامل إحدى قريبات والدتها بالتواصل معها بشكل دوري ومتدرج، إلى فك عقدتها، وقد استرجعت بقدرة الخالق ملكة النطق.
مثال آخر عن سيدة بلغت اليوم، مستوى عال من العلم، وتدرجت في مناصب عديدة، لكنها كادت أن تكون ضحية لسوء تقدير معلمها، وهي في مرحلة التعليم الابتدائي في سنوات السبعينات. حدث ذلك بعد دخول التلاميذ من العطلة المدرسية الشتوية، بعد انتهاء الدرس وقبل الخروج من القسم، طلب المعلم من الجميع كتابة موضوع إنشائي عن كيفية قضاء العطلة، على أن نقدم العمل في اليوم الموالي، وبالفعل ـ تقول محدثتنا ـ أنجزت عملي وجاء دوري لقراءته على مسمع الجميع، وما إن انتهيت من القراءة، حتى صاح المعلم الذي أتذكر اسمه إلى يومنا هذا، وقال لي بصريح العبارة؛ التعبير ليس من إنجازك، إنما قام به أحد أفراد العائلة، وتضيف بأنه لم يصدر عنها حينها أي رد فعل، سوى السكوت والذهول، وعادت إلى المنزل شاردة الذهن، فتفطن والدها لحالتها، وعندما قصت عليه ما حدث لها، لم يتوقف والدها عن تشجيعها والرفع من معنوياتها؛ شجعني و تقول محدثتناـ، قال لي بأنه لا يجب الانسياق وراء كلام المعلم، وطلب مني قراءة الموضوع الذي كتبته، وما إن انتهيت من القراءة حتى عبرلي عن إعجابه بقدراتي، وتضيف بأن والدها كان سببا في تخلصها من العقدة التي كادت تحطمها، وهي الآن تحاول قدر الإمكان مراعاة مشاعر أبنائها وطلبتها.
مشكل آخر يواجهه الطفل في حياته، حسب أحد الشباب، يتمثل في تغيير الأسرة مقر إقامتها وتسجيله في مدرسة أخرى، جعله يفتقد لزملائه الذين اعتاد عليهم، وقد حصل ذلك وهو في عمر 8 سنوات، كان محدثنا يرفض الذهاب إلى المدرسة، ولم يكن أحد في الأسرة يفهم ما كان يحس به، وقد أدى به الأمر إلى عدم التركيز في القسم والشرود، وانتظار وقت الخروج للعودة إلى المنزل، وحسب محدثنا، فإن هذا السبب الذي لا يفهمه الكبار، أدى به إلى مغادرة مقاعد الدراسة في سن مبكرة، وهو الآن نادم على ذلك ولا يمكنه تدارك الأمر.
لا تمثل الحالات المذكورة جميع الحالات التي يصادفها المرء في المجتمع، وهي عينات قليلة من واقع مؤلم يجب أن يتغير، لأنه من الظلم أن يتحطم مستقبل الكثيرين من الأبناء، وتحول الأسرة أو المدرسة دون تحقيق ذاتهم، كغيرهم من الذين يلقون الرعاية الكافية، فمن لا يريد لأبنائه التميز والنجاح، سؤال يبقى مطروحا وبحاجة إلى أخذه بعين الاعتبار، للرقي بالمجتمع.