المقاهي بسكيكدة مكان للبوح
تفصيل مهم في يوميات مثقلة بالمشاغل

- 161

تحتل المقاهي عند السكيكديين مكانة خاصة ومتميزة، فهي تشكل أو تكاد تكون جزءا من حياتهم اليومية بكل تفاصيلها الحلوة والمرة، السعيدة والحزينة والمؤلمة والمفرحة، وذلك منذ غابر الأزمنة، إذ لا يخلو حي من أحياء سكيكدة العتيقة من مقهى أو أكثر، يقصده ساكنها بمختلف شرائحها بمن فيهم الأطفال، الذين في كثير من الأحيان يُصطحبون من قبل آبائهم؛ سواء لارتشاف فنجان قهوة محضّرة على الفحم ومقطرة بماء الزهر، أو شاي بالنعناع على طريقة الأجداد، أو حتى تناول عصير طبيعي أو مشروب غازي، فما تقدَّم للأطفال إما قارورة مشروبات غازية أو كوب عصير فقط.
لكل مقهى في سكيكدة قصة أو حكاية ظلّت راسخة في الذاكرة الجماعية لأهل المدينة، الذين مازالوا يحفظون العديد من أسماء تلك المقاهي التي ظلّت لحقب، تصنع قعدات أبناء المدينة في كلّ المناسبات، كمقهى "النجمة بلوكيل"، ومقهى "الضيق" و"السويقة" ، ومقهى "المجاهد" ، ومقهى "المحطة" ، ومقهى "طبوش" ، وغيرها من الأسماء التي صارت بمرور الوقت، وتشكل جزءا من الذاكرة الجماعية لأهالي المنطقة. ومع كل هذا فالمقهى عند السكيكديين تُعد مكانا للالتقاء؛ بغية تسوية مشاكل الدنيا ومشاغلها، أو للاستماع بالقصص والحكايات التي تتسرب خلسة من أسوار المنازل والحمّامات والمحاكم، لتستقر هكذا دون استئذان داخل المقهى. وتُروى على مسامع روادها، الذين يتتبعون تفاصيلها الدقيقة بإمعان، أو للدردشة في أمر السياسة والرياضة والفن والثقافة، أو لعب "الدومينو" أو الورق، التي يبقى هواتها الشيوخ المتقاعدون، حيث تمتزج أصواتهم بأصوات الموسيقى الجزائرية؛ كالشعبي، والمالوف، وحتى الطرب العربي الشرقي، كأغاني عبد الحليم، وفريد الأطرش، وأم كلثوم المنبعثة من المذياع أو من تلفاز قديم لا يلتقط إلا القناة الجزائرية الأرضية، دون أن تسمع من ذلك الصخب المنبعث، كلاما خادشا للحياء.
كما تتميز مقاهي سكيكدة بأنها المكان المفضل لإقامة عقود الزواج أو ما يُعرف بالفاتحة، وهي، أيضا، المكان المفضل لمعرفة كل تفاصيل وأحوال سكان الحي. كما إنّها المكان المفضل لتوجيه الدعوات؛ من أجل حضور الأفراح والولائم التي كانت تعلَّق على جدرانها.
مقاهي سكيكدة تختلف من حي لآخر
لكل حي من أحياء مدينة سكيكدة العتيقة سواء تلك المتواجدة على امتداد حي السويقة أو الإيطالي العتيق أو حتّى على طول الشارع الرئيس ديدوش مراد المعروف بالأقواس بما فيها تلك المتواجدة بالأحياء الجديدة، مقهى يميزه عن الآخرين؛ سواء في شكله الداخلي، ولون طاولاته وكراسيه، أو في طريقة تقديم القهوة والشاي والمشروبات، حتى وإن كانت لمقاهي المدينة القديمة نكهة متميزة جدا، إلا أن بين الأمس واليوم كل شيء تغير بتغير الزمان وحتى النّاس، فالمقاهي بسكيكدة لم تعد لها تلك المكانة الحميمية التي كانت في الماضي، تجمع بين الناس أكثر من أن تفرقهم، وتؤاخي بين الفرقاء والمتخاصمين أكثر من أن تبعدهم عن بعضهم. ومأوى يلجأ إليه عابرو السبيل، فيجدون فيه كل ما يحتاجون، حتى في طريقة ارتشاف القهوة أو الشاي كل شيء تغيّر.
واليوم لم يعد هناك بسكيكدة مقهى يُعِدّ القهوة على الجمر، ولا مقهى تُروى فيه الحكايات الجميلة عن الزمن الجميل. كما لم يعد هناك مقهى تفض فيه الخصومات، ويرتاح فيه من أراد أن يرتاح على وقع موسيقى الشعبي والمالوف و«القصبة" ، وهمسات رواده التي تختلط بصوت "الدومينو" على الطاولة، وبالكؤوس والأكواب. مقاهي سكيكدة حتّى وإن كانت ماتزال تحتفظ بأسمائها القديمة، إلا أنها لم تعد كما كانت بعد أن تحولت إلى مرتع يقصده الشباب البطّالون من كل الأجناس، يتحدثون، ويتجادلون، ويتناقشون في أي شيء قد يخطر على بالهم بأصوات مرتفعة، فيها كثير من كلام السّباب الخادش للحياء. مقاهي سكيكدة تحولت إلى مقاهٍ يُتعاطى فيها التبغ بشراسة، فنادرا ما تجد أحدا يطالع كتابا أو جريدة أو يرتشف فنجان قهوة في أكواب زجاجية لا ورقية. مقاهي سكيكدة تحولت إلى أماكن تمارَس فيه جهرا، طقوس النميمة، والغيبة، والتحدث عن الأعراض.
إجماع على أنّ مقاهي سكيكدة فقدت "بنّة القعدة"
وعن واقع المقهى بسكيكدة بين الأمس واليوم، "المساء" تحدثت مع بعض مواطني سكيكدة، فكان ردهم كما يلي؛ فحسب السيد حسان متقاعد، أشار إلى أن المقهى، اليوم، لم يعد كمقهى أيام زمان، خاصة في "بنّة القعدة" ـ كما قال ـ وحتّى في الأشخاص الذين يترددون عليه، مضيفا أن المقهى في الماضي كان من بين الأمكنة التي يتعلّم فيها الإنسان الحكمة، وفيها تحل كل المشاكل العائلية والأسرية، وتُعقد فيه مراسيم الزواج، والتكفل باليتامى، وملتقى الأحباب، بعد أن تأسف عن الوضع الذي آلت إليه اليوم المقاهي بعد أن فقدت مكانتها وخصوصياتها.
ونفس الشيء أكده لنا السيد الطاهر مجاهد ومتقاعد، الذي يرى أن المقاهي بسكيكدة تغيرت كليا، إذ لم تعد كما كانت من قبل من حيث حميمية اللقاءات، والدور الذي كانت تلعبه، مضيفا أن من الصعب اليوم، بل من المستحيل اصطحاب الأبناء إلى المقهى، بسبب ما أصبحنا نسمعه ودون حياء، من كلام ساقط، ودخان السجائر التي ساهمت في تعكير الأجواء داخل تلك الأماكن.
أما السيد العيدي عامل بإحدى المؤسسات الاقتصادية، فيرى أنّ المقهى في السابق كان له نكهة خاصة ومتميزة، إلى جانب الدور الاجتماعي والترفيهي الذي كان يؤديه داخل الأحياء، حيث كان المكان الذي يجتمع فيه الشباب لمتابعة مختلف البرامج التلفزيونية، منها المقابلات الرياضية، خاصة في الفترة التي لم يكن العديد من العائلات يملكون جهاز تلفاز، متأسفا عما آل إليه اليوم من وضع، حيث أصبح مكانا لارتشاف القهوة، أو لتصفُّح الجرائد من قبل المتقاعدين لا غير.