"المساء" تغوص في عالم تقطير الورد بقسنطينة
حرفة عريقة بالجزائر بحاجة لدعم

- 191

❊ قسنطينة اشتهرت بالتقطير بفضل بساتين الحامة
❊ الغش والسماسرة أثروا سلبا على الحرفة
❊ المنتوج الجزائري وصل إلى أمريكا
أرادت المحافظة على إرث الأجداد والموروث الثقافي المحلي اللامادي الذي يميز المنطقة، فاجتهدت السيدة مفيدة مزغيش بإمكانات بسيطة ببلدية حامة بوزيان، وفي مساحة فلاحية صغيرة، حتى حققت النجاح وووسعت المساحة التي تستغلها وباتت من بين أبرز الحرفيات بعاصمة الشرق في مجال التقطير وخاصة تقطير الورد والزهر، الذي خصصت له السلطات المحلية بقسنطينة مهرجانا سنويا، يتزامن مع فصل الربيع ويندرج ضمن الاحتفالات الوطنية بشهر التراث الممتد بين 18 أفريل و18 ماي.
"المساء" التقت السيدة مفيدة مزغيش، حرم لوصيف، الحرفية النشطة في مجال تقطير الورد والزهر، على هامش المعرض المقام هذه الأيام، بدار الثقافة محمد العيد آل خليفة، بمناسبة مهرجان ربيع قسنطينة الثقافي لتقطير الزهر والورد، في إطار عيد المدينة السنوي، فكانت معها هذه الدردشة حول أهمية الحفاظ على هذه الحرفة وحول تمسكها بالتقطير الذي بات يعد من المورث المحلي الواجب صونه والواجب التعريف به حتى يكون له عيدا وطنيا وإدماجه ضمن الموروث الثقافي الجزائري. وقالت إن هذه الحرفة باتت فخرا لقسنطينة والجزائر قاطبة وأنها تنوي مستقبلا تكوين الشباب المهتم بهذه الحرفة من أجل الحفاظ عليها، جيل بعد جيل. حرفة عريقة بالجزائر بحاجة لدعم
وحسب السيدة مفيدة مزغيش، فإن عادة تقطير ماء الزهر والورد، كانت تملأ بيوت قسنطينة بعبق العطور والروائح الزكية، مضيفة أن نساء قسنطينة، كن يخترن لباسا خاصا خلال عملية التقطير أين يرتدين "القندورة"، ذات اللون الأبيض الذي يشبه لون الزهر، عند تقطير الزهر و "القندورة" ذات اللون الوردي الذي يشبه لون الورد، عند تقطير ماء الورد، مؤكدة أن ماء التقطير يستعمل في تحضير العديد من الأطباق التقليدية، بينما يتم استعمال ماء الزهر في تحضير عديد الحلويات على غرار "المقرود"، وكذا خبز الدار و"التشراك"، أما الحلويات التقليدية التي يستعمل فيها ماء الورد المقطر، فتتمثل في كل من البقلاوة، القطايف، طمينة اللوز، ومقرود اللوز.
حرفة متوارثة أبا عن جد وتقطير الزهر يسبق تقطير الورد
تروي السيدة مفيدة أنها توارثت هذه الحرفة أبا عن جد، وقالت إنها أخذت أسرار التقطير من جدتها ثم من عمة أمها، مضيفة أن الصدفة هي التي جعلتها تلتحق بغرفة الحرف والصناعات التقليدية، حيث كانت في وقت سابق تقوم بتوزيع ماء الزهر والورد بالمستشفيات، قبل أن تكتشف جو المعارض، وتصبح واحدة من أهم وأشهر العارضات على المستوى الولاية، في مجال التقطير وبات لديها عدد كبير من الزبائن، الذين يثقون في منتوجاتها التقليدية ولا تزال السيدة مفيدة مزغيش حرم لوصيف، متمسكة بنفس طريقة التقطير التي كانت تداوم عليها جدتها.
أكدت المتحدثة أن النساء يقمن بتقطير ماء الزهر أولا في بداية الربيع، خلال أسبوع أو أسبوعين على أقصى تقدير، لتأتي بعدها عملية تقطير الورد، مضيفة أن تقطير الزهر يختلف عن تقطير الورد، في النبتة أولا والتي تكون من زهرة شجرة "الآرانج" أو زهرة شجرة "الليم"، وكذا في الأواني المستعملة، وقالت إن تقطير الزهر يكون من خلال وضعه في "المرشانة" وهي نوع من القماش الخاص، حيث يتم تركه مدة 3 أيام حتى تذبل الأزهار، ليتم بعدها وضع هذه الأزهار، داخل آنية نحاسية في شكل قدر كبير من نحاس، يطلق عليها "البرمة"، مع إضافة الماء في حدود ارتفاع معصم اليد، وقليل من الملح والسكر وتتم العملية على نار هادئة، مع مراعاة الحفاظ على بقاء الماء باردا في "الكسكاس" وهو آنية نحاسية توضع فوق "البرمة" ويشكلان معا "القطار" مع غلق أي منافذ بينهما بوسطة قماش خشن، يطلق عليه اسم "القفيلة"، حتى يتم استخلاص عصارة الزهر أو الورد، عندما يصعد بخار الماء ساخنا ويجد برودة في الأعلى ليتحول البخار إلى ماء، في ظاهرة فيزيائية، ويخرج عبر أنبوب صغير نحو قارورة زجاجية يطلق عليها اسم "المغلفة"، يتم تغطيتها بقطعة قماش، بعيدا عن الضوء، تكون باللون الأخضر لماء الزهر واللون الأبيض لماء الورد، وتحتفظ بعض العائلات بهذه القوارير الزجاجية الفارغة، لعدة عقود من الزمن، طبعا كل هذا يتم تقول السيدة مفيدة، في جو مليء بالعطور أو ما يعرف بالبخور.
يتم حسب محدثة "المساء"، استخلاص عصارة الزهر والتي يطلق عليها اسم "راس القطار" ثم بعد التكرار يأتي سائل آخر يطلق عليه اسم "الجُر"، يستعمل في التنظيف والغسيل، يكون أقل تركيزا من "راس القطار"، وقالت إن جدتها عندما كانت تقوم بعملية تقطير الزهر بفناء المنزل الذي يطلق عليه "الحوش"، كانت تمنع أي شخص أن يقترب من "القطار"، كما كانت تقوم بسقي الحضور في جو من الفرح، أول قطرات ماء الزهر أو ما يعرف بـ"راس القطار"، التي توضع في فنجان القهوة مع الحرص على وجود حلوى "الطمينة البيضا" التي تحضر انطلاقا من العسل، زبدة البقر والسميد، كما كانت بعض العائلات تقوم برش أول قطرات الزهر في مختلف زوايا المنزل، حتى تعبق المكان بعطر الزهر.
وللورد طقوس خاصة
أما عن تقطير الورد فتقول السيدة مفيدة مزغيش، إن الورود كانت تجمع في آنية نحاسية يطلق عليها "الكروانة"، على عكس الوقت الحالي الذي أصبح يجمع في "السيّار" مضيفة أن بعض الباعة حاليا اصبحوا يحتالون في حجم "الكبة"، وهي كمية الورد أو الزهر التي يتم وضعها في القدر وبذلك يكون تركيز الماء المقطر منخفض، وقالت إن "كبة" الورد، التي تعادل اربع مرات ما يتم بيعه بالأسواق حاليا، يتم تقطيرها مرة واحدة فقط، موضحة أنها تستعمل المواد الأولية من الورد والزهر، من أشجار البساتين ببلدية حامة بوزيان، وقالت إنها باتت لا تكتفي بإنتاجها من الزهر والورد، حيث أصبحت تشتري إنتاج البساتين المجاورة لها، خاصة في ظل الطلب الكبير على ماء الورد والزهر والذي تعدى حدود الوطن إلى المهاجرين بفرنسا، كندا وحتى الولايات المتحدة الأمريكية.
استعمالات عديدة في الطبخ والعلاج
تُعدد السيدة مفيدة مزغيش حرم لوصيف، استعمال الأعشاب المقطرة وعلى رأسها ماء الورد والزهر وقالت إن جدتها التي امتلكت "قطار" سنة 1933 وورثته لها، كانت تعالج العديد من الأمراض من خلال الماء المقطر لبعض الأعشاب على غرار عشبة "المارة"، مضيفة أن الماء المقطر بات يستعمل في العديد من الحلويات التقليدية على غرار طمينة اللوز والبقلاوة وكذا عدد من الأطباق على غرار طبقي المشلوش والرفيس المشهورين في الولائم والأعراس بعاصمة الشرق، مضيفة أن ماء الزهر يستعمل في تعطير القهوة وفي العديد من الاستعمالات الطبية والعلاجية على غرار علاج البشرة، التهاب العين، خفض حرارة الجسم وحتى لعلاج القلق وأن ماء التقطير كان يستعمل في الاستحمام وفي غسل الأغطية والأفرشة وقالت أن هناك اقبال من سكان صحراء الجزائر، من غرداية وتقرت، على ماء الورد المقطر والذي بات يستعمل في الرقية، كما بات انتجاها مطلب بعض المؤسسات التي تنتج موادا شبه صيدلانية، خاصة في مجال التجميل.
وحسب السيدة مفيدة مزغيش حرم لوصيف، فإن التقطير في الأواني النحاسية القديمة يكون أحسن من التقطير في الأواني الجديدة التي يتم صناعتها بمنطقة باردو "رحماني عاشور"، خاصة من حيث نوعية الماء المقطر، مضيفة أن التقطير في الأواني النحاسية أحسن من التقطير في الأواني المعدنية "الغالفا" والتي، حسبها، يترك ذوق صدأ هذا المعدن أثرا في طعم الماء المقطر ويكون خطيرا عند الاستعمالات الطبية، لاسيما عند وضعه في العين أوعلى البشرة.
الغش والسمسرة أضرا بالحرفة
تأسف السيدة مفيدة مزغيش حرم لوصيف، عن أيام زمان، حين كانت العائلة تجتمع وحتى الجيران في فناء المنزل، وهم يتبادلون أطراف الحديث ويستمتعون بعملية التقطير في جو بهيج وكأنه عرس مضيفة الأمور تغيرت كثيرا في الوقت الحالي، رغم محاولات بعض العائلات الحفاظ على هذه التقاليد واللمة العائلية، حيث أبدت تأسفا كبيرا عن دخول التجارة بشكل أضر هذه الحرفة، خاصة من طرف بعض الغشاشين الذين لا يحترمون معايير التقطير، بل أكثر من ذلك يستعملون ماء عادي وعطر صناعي ويسوقونه على أساس أنه ماء ورد أو زهر طبيعيين، معتبرة أن السماسرة أثروا سلبا على الحرفة وساهموا في رفع أسعار الماء المقطر.
أوضحت المحدثة أن ماء الورد والزهر، كان قديما لا يباع بل يتم منحه في شكل صدقات على أصحابها، ليتم بعدها مقايضته بحلوى "الزلابية" أو حتى باللحم، قبل ان تتغير الأمور ويتحول الأمر إلى تجارة، يراد الربح من ورائها، مضيفة أن هناك عائلات بقسنطينة، لا تزال تحافظ بشكل كبير على حرفة التقطير، وقالت أن ما يعرف بالعائلات "البلدية" من السكان القدماء لوسط مدينة قسنطينة، تبقى متشبثة ومتمسكة بعملية التقطار في كل فصل ربيع، مضيفة أن هذه العادة لا تزال منتشرة بعدد من الأحياء القديمة وحتى خارج المدينة القديمة، في النسيج الحضري الذي امتد خلال الحقبة الاستعمارية على غرار حي المنظر الجميل أو التي شيدت بعد الاستقلال على غرار حي 20 أوت، موضحة أنها على إطلاع بإقبال العائلات القسنطينة على عملية تقطير الورد والزهر من خلال ملاحظتها للإقبال المعتبر على شراء الزهر والورد من بساتين بلدية الحامة بوزيان، التي تبقى من أبرز البلديات في انتشار حرفة تقطار ماء الزهر والورد وفق ما تحدثت به السيدة مفيدة، نقلا عن جدها، والتي أكدت أن هذا التقليد أسست له عائلة بن تشكشك علي، التي قامت بغرس أشجار الزهر وبذلك نشرت هذه الحرفة وسط العائلات بهذه المنطقة، قبل أن تنتقل إلى مختلف مناطق الولاية.
ويرجع العارفون في هذا الميدان، عادة تقطير الزهر بقسنطينة، إلى تاريخ 1620 ميلادية، إبان حكم الدولة العثمانية، حيث أهدى أحد الصينيين شجرة الزهر لإحدى عائلات المدينة خلال تلك الفترة، من أصل تركي، فقام أفرادها بغرس تلك الشجرة بمنطقة الحامة، ومع مرور الزمن انتشرت بشكل واسع في بساتين لا تزال موجودة إلى اليوم، وهناك من الأشجار التي يزيد عمرها على 260 سنة.
المطالبة بمحلات داخل دار الحرف
طالبت السيدة مفيدة مزغيش حرم لوصيف، التي كانت مرفقة بأبنائها في المعرض، من السلطات المحلية الاهتمام أكثر بهذه الحرفة من خلال تخصيص محلات مهنية لأصحاب هذه الحرفة، معتبرة أن تنقل الحرفيات بين المعارض أثقل كاهلهن، خاصة من الناحية المادية، حيث بتن يخصصن أموالا كثيرة من أجل كراء جناح في كل معرض وهو الأمر الذي جعل العديد منهن يعزفن عن المشاركة في المعارض وعرض منتوجاتهن الحرفية.
ووجهت محدثتنا نداء إلى المسؤولين بولاية قسنطينة، من أجل النظر في قضية المحلات، خاصة بعدما استفادت بلدية قسنطينة من دار جديدة للحرف، بحي باب القنطرة، هي في طور التهيئة، جاءت في إطار الحفاظ على عدد من الحرف كما جاءت من أجل دعم الحرفيين والحفاظ على المهن المهددة بالزوال، حيث دعت السيدة مفيدة مزغيش حرم لوصيف، القائمين على هذا المشروع بإدراج أسماء بعض الحرفيات في مجال التقطير الذي يعد علامة مسجلة بالولاية، ضمن المستفيدين من محلات هذه الدار، بعدما خصصت ولاية قسنطينة مقرا مهجورا يمتد على مساحة 2400 متر مربع، لتحويله إلى دار للحرفيين.