في غياب تدخل كبار العائلة

نزاعات أسرية بسيطة تنتهي بالمحاكم

نزاعات أسرية بسيطة تنتهي بالمحاكم
  • 207
نور الهدى بوطيبة نور الهدى بوطيبة

في زمن ليس بعيدا، كان لكبار السن في الأسرة الجزائرية، مكانة لا تمس، وصوت يصغى إليه، ورأي يحتكم إليه، كونهم "رمز ذاكرة العائلة" و"حكماؤها"، وكان كبيرهم يجمع الشتات، ويصلح ذات البين، ويستشار في الصغيرة والكبيرة، لكن شيئا فشيئا، تلاشى هذا الدور، حتى أصبح وجودهم، في بعض البيوت، رمزيا أو هامشيا، ولا كلمة لهم، بل يجادلهم الأقل سنا وحكمة، ويفرض هؤلاء منطقهم دون الأخذ برأي كبارهم، لا في صغيرة ولا كبيرة، واختفى النظام الذي كان ينبض داخل المجتمع المتين، فماذا حدث؟ ولماذا غاب صوت الكبار عن طاولة القرار؟ وهل فقدت العائلة الجزائرية بوصلتها المجتمعية بالتهميش، تساؤلات حملتها "المساء" لمختص اجتماعي لقراءة واضحة في هذه الظاهرة، التي تبدو سطحية، لكنها ذات أبعاد عميقة، مست كثيرا الكيان المجتمعي، وجعلها تهدد النظام الذي كان يصون الارتباط الأسري لعهود من الزمن.

قام المجتمع الجزائري منذ الأزل، على احترام كبار السن وذوي الحكمة، بمنحهم مكانة خاصة تجعلهم، ليس فقط رموزا للأخلاق وحافظي العادات والتقاليد، بل وسلطة معنوية يرجع إليها عند الخصومات والخلافات، هؤلاء الكبار، سواء كانوا شيوخا، أو رجال دين، او حتى أكبر شخص في العائلة، رجل أو امرأة، كانوا أشبه بـ"حكماء القبيلة" الذين تتوقف عندهم النزاعات، وتطوى بقراراتهم أعقد الخصومات، دون الحاجة إلى محاكم أو تدخلات رسمية، كانت أحيانا تكفي نظرة قوة أو نبرة صوت حادة، أو صرخة واحدة، لإعادة نظام عائلة كاملة، كانت تتميز بالاحترام والوقار والخوف من الخروج عن الأوامر والعصيان، وكان البعض لا يتجرأ حتى على مناقشة الكبير، حتى وإن كان أحيانا على خطأ، فكان الاعتقاد السائد أن خبرة وحكمة ومعرفة وقوة ذلك الكبير، كافية لفرض النظام في العائلة، مهما بلغ كبرها.

لكن واقع اليوم مختلف، فعندما نتأمل في قصص العائلات، نلاحظ بوضوح غياب هذا الدور، أو على الأقل تراجعه الكبير، فلماذا اختفى هذا النموذج؟ وكيف وصلنا إلى هذا التغيير؟ ولماذا لم تعد كلمتهم نافذة كما كانت في الماضي؟، تساؤلات تدفعنا إلى الغوص في عمق التحولات التي عرفها المجتمع الجزائري، خلال العقود الأخيرة، هذا ما أشار اليه الخبير الاجتماعي نسيم فكرون، في حديثه لـ"المساء"، إذ أكد أن التغيير في البيئة الاجتماعية، هو أول أسباب تغير هذا الواقع، مشيرا إلى أن في الماضي، كان النظام الأسري في الأسرة الجزائرية، ممتدا يضم الجد والجدة والأبناء والأحفاد، وكل أفراد العائلة يعيشون في بيت واحد، أو في نطاق ضيق نفسه، أي داخل نفس القبيلة أو الدشرة أو الحي أو الولاية، هذه البنية كانت تضمن حضور كبار السن في حياة الجميع، وتمنحهم سلطة طبيعية نابعة من الخبرة، والعمر، والمكانة، وكانت الكلمة الأخيرة تعود إليهم، ويتم مشاورتهم في كل كبيرة وصغيرة، أما اليوم، فمع التوسع العمراني وتفشي نمط الحياة العصرية، وأصبحت الأسرة نووية، أي ما يعرف اليوم بالأسرة الصغيرة، على حد تعبيره، أي الأب، الأم والأبناء، وتكون زيارة باقي الأسرة أو وصلها، يتم في المناسبات فقط، وهذا ما أدى إلى تحلل تلك العلاقات، وتقلصت المسافة بين الأفراد لتصبح في بعض الأحيان علاقة سطحية أو وظيفية، أو من باب وصل الأرحام فقط، وابتعد الكبار عن مركز القرار الأسري، ليصبحوا "ضيوف شرف" في أحيان كثيرة، أو حتى مهملين ـ يتأسف محدثنا ـ.

في زمن ليس ببعيد، كان لكبار السن في العائلة هيبة ومكانة، ودور محوري لا ينازع، كانوا يجلسون في صدر المجلس، لا لثراء يملكونه، بل لحكمة راكموها عبر السنين، وتجارب شكلت رؤيتهم للحياة والناس، والعلاقات الأسرية خاصة، كانوا الملجأ عند النزاع، والمرجعية عند القرار، والذاكرة الجمعية التي تحفظ تاريخ العائلة وتضبط إيقاع حاضرها، فكان الخصام بين الزوجين يتم مناقشته وحله وراء أبواب غرفة المعيشة، وكانت قصص الميراث والقسمة بما شرع الله، يحرص على تطبيق تعاليمها كبار السن، وكان عصيان الأبناء لآبائهم يحاسب عليه من طرف كبار السن، لدرجة كان حتى الشخص المتمرد الخارج عن قانون العائلة، وعن آراء كبار السن، لا يتجرأ على التعدي على كلمة هؤلاء الحكماء، بل يصل البعض إلى مغادرة القرية أو الحي تماما، خوفا من سخط العائلة وغضبها.

وأكد المتحدث، أن صوت الكبير حف، وابتعدت الأجيال، وصار القرار يصنع في الهواتف الذكية، ويتم اتباع آراء الغرباء، وتصل بذلك قضايا بسيطة إلى المحاكم، ويتجرد الصغير من الأخلاق دون مراعاة نظرة كبير السن إلى أفعاله، بل ويتمرد على تقاليد العائلة، وكأن تلك العلاقات أصبحت لعبة بين أيدي من يفتقدون الحكمة في التعامل مع أبسط المشاكل.

وأوضح أنه أصبح تقييم القوة بالماديات، فمن لديه المال أكثر، هو صاحب القرار وصاحب السلطة في العائلة، مؤكدا أن المجتمعات الحديثة تعزز من قيمة الفرد على حساب الجماعة، وتمنح الكلمة لمن يمتلك المال أكثر أو المهارة التقنية، لا لمن يملك التجربة، ويقصد بالمهارة التقنية، وفق الخبير، بالهواتف الذكية، وسائل التواصل، والشهادات الجامعية والدورات التدريبية وكتب تطوير الذات، والانفتاح على ثقافات أخرى، ما جعلت الشاب أكثر ميولا إلى استشارة "غوغل" بدلا من جده، الذي أصبح ينظر إليه، وكأنه غير فعال في إعطاء الرأي الصحيح، بل أصبح الكبار يوصفون على أنهم يفتقدون نظرة الجيل المعاصر، كل هذا ساهم في تراجع دورهم في فك النزاعات وحل مشاكل كانت أساسا، ربما لا تستدعي تدخل لا قضاء ولا محامي ولا قاضي، لحل مشكلة عائلية بسيطة.

وفي الأخير، شدد الخبير على أهمية إعادة بناء الجسور بين الجيلين، وإقناع الصغير أن الحكمة تبنى بالخبرة ولا تسقط بالتقادم، كما أن جيل الأمس، لابد ان يدرك تلك الفوارق ويتدارك عصرنة الشباب دون فقدان الجوهر الحقيقي للفرد السليم، من الزمن القديم، والذي لديه الحكمة في إبقاء أوصال وروابط الأسرة متزنة، ولا يأكل القوي الضعيف، ولا تنشب حروب باردة بين أطراف العائلة، لأسباب بسيطة، وفرض قرارات جدية كفيلة بالتخلص من أسباب المشاكل وحلها بسلاسة.