إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم

إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
  • 1993

في شهر الصيام الذي يتدبر فيه المسلم القرآن الكريم في صلاة التراويح إما في جماعة أو منفردا، كما هو الحال في هذا رمضان الذي تزامن مع وباء "كورونا"، وما ترتب عنه من إجراءات وقائية فرضتها السلطات بتوصية من الجهات المختصة، خاصة منها الصحية والدينية، والمتمثلة في الحجر الصحي الجزئي أو الشامل، تتاح للصائم فرصة فضائل الصيام وفضائل ختم القرآن والتدبر في عظمته ومقاصده، وعلى رأسها قوله تعالى: {إِن هذا القرآن يهدِي للتي هِي أقوم}.

في توضيحه لهذه القاعدة القرآنية التي جاءت ضمن آية كريمة في سورة الإسراء، والتي يقول الله فيها: {إِن هذا القرآن يهدِي لِلتِي هِي أقوم ويبشِّر المؤمِنِين الذِين يعملون الصالِحاتِ أن لهم أجرا كبِيرا، وأن الذِين لا يؤمِنون بِالآخِرةِ أعتدنا لهم عذابا ألِيما} [الإسراء: 9، 10]. يستند الأستاذ عمر بن عبد الله في بيان معناها إلى الإمام قتادة بن دعامة رحمه الله، الذي قال بشأنها: "إن القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب والخطايا، وأما دواؤكم فالاستغفار". وقال الزجاج والكلبي والفراء، إنه يهدي للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله. وقال إن هذا التفسير إشارة واضحة إلى شموله إلى علاج جميع الأدواء، وإن فيه جميع الأدوية، لكن يبقى الشأن في الباحثين عن تلك الأدوية في هذا القرآن العظيم.

يقول الإمام الشنقيطي رحمه الله، في تفسير هذه الآية الكريمة، إن "الله جل وعلا، ذكر في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهدا برب العالمين يهدي للتي هي أقوم، أي إلى الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب... وأن هذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق، وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم، لشمولها على جميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة، لكننا إن شاء الله تعالى، سنذكر جملا وافرة في جهات مختلفة كثيرة من هدي القرآن للطريق التي هي أقوم بيانا لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة، تنبيها ببعضه على كله من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار، وطعنوا بسببها في دين الإسلام، لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة..."، ثم سرد جملة من المسائل العقدية والاجتماعية.

من بين أنواع الهدايات التي دل عليها القرآن الكريم:

- إنه يهدي للتي هي أقوم في ضبط التوازن بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله..

- يهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء، ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.

- يهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفرادا وأزواجا، وحكومات وشعوبا، ودولا وأجناسا، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى، ولا تميل مع المودة والشنآن، ولا تصرفها المصالح والأغراض..

- يهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها، فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام..".

إذا تأملنا هذا الإطلاق في هذه القاعدة: {إِن هذا القرآن يهدِي للتي هِي أقوم}، أدركنا أنها آية تتجاوز في هدايتها حدود الزمان والمكان.. وتتجاوز كل الأنظمة والقوانين التي كانت قائمة أو التي ستقوم بعد ذلك. إنها قاعدة تقطع الطريق على جميع المنهزمين والمتخاذلين من أهل الإسلام أو المنتسبين له، أو من الزنادقة، الذين يظنون أن هذا القرآن إنما هو كتاب رقائق ومواعظ، ويعالج قضايا محدودة من الأحكام، أما القضايا الكبرى، كقضايا السياسة، والعلاقات الدولية، ونحوها، فإن القرآن ليس فيه ما يشفي في علاج هذه القضايا.

هذا الكلام، فضلا عن كونه خطيرا، فإنه ينم عن سوء أدب مع الله، ذلك أن ربنا وهو العليم الخبير يعلم حين أنزل القرآن، أن العباد سيقبلون على متغيرات كثيرة، وانفتاح، وعلاقات، ومستجدات، فلم يتركهم هملا، بل حفظ لهم هذا القرآن ليرجعوا إلى هداياته، وحفظ لهم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لتكون شارحة لما أجمل من قواعد القرآن، بل وجعل في السنة أحكاما مستقلة، فمن أراد الهداية وجدها فيهما، ومن كان في عينيه عشى، أو في قلبه عمى، فليتهم نفسه، ولا يرمين نصوص الوحي بالنقص والقصور، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكِر الفم طعم الماء من سقم

فهذا كتاب ربنا، يخبرنا فيه أنه يهدي للتي هي أقوم، فأين الباحثون عن هداياته؟ وأين الواردون حياضه؟ وأين الناهلون من معينه؟ وأين المهتدون بتوجيهاته؟ لإجلاء ما تضمنه كتاب الله العظيم، من هدايات وتوجيهات ربانية، ومحاولة تنزيلها على واقع الناس، لأن من أجلى صور عظمة القرآن هو تجدد معانيه بتجدد أحوال الناس، ليبقى هاديا ومقيما لمن أراد الله هدايته واستقامته.