الدبلوماسية الجزائرية كرست الاستقلال

إرث تاريخي عززه الإيمان بمبادئ أول نوفمبر

إرث تاريخي عززه الإيمان بمبادئ أول نوفمبر
  • القراءات: 3194 مرات
مليكة خلاف مليكة خلاف
لا يختلف اثنان في أن الدبلوماسية الجزائرية كان لها دور فعال في الدفاع عن مبادئ ثورة التحرير المظفرة، والتي تكللت بالاستقلال بعد كفاح مستميت للشعب الجزائري الذي أعطى درسا في النضال والكفاح للعالم أجمع، وما كان  للكفاح الداخلي أن يكتمل دون التعريف بالقضية الوطنية في الخارج والدفاع عنها عبر المنابر الدولية، ومن ثم الحصول على تأييد دولي واسع لهذه القضية العادلة.
والمتمعن في المسار الدبلوماسي للجزائر، يسلم حتما بأن ذلك الإرث الهائل من الإنجازات لم يكن وليد اليوم، بل قد سبق الاستقلال بفضل حنكة رجال حملوا على عاتقهم القضية الوطنية بكل عزم وتفان وحرصوا على إعلاء صوتها في سياق مبادئ بيان أول نوفمبر.   
ولعل ذلك ما يجعلنا نسلط الضوء على الأبعاد التي عززت المسار الدبلوماسي للجزائر من خلال دبلوماسية الثورة، حيث كانت أول مشاركة لها في مؤتمر باندونغ سنة 1955 التي مكنتها من التوجه نحو الكتلة الأفرو-أسيوية، نواة حركة عدم الانحياز، بالمطالبة رسميا بتسجيل القضية الجزائرية في هيئة الأمم المتحدة، وتوجيه إدانة للاستعمار الفرنسي. وأهم ما ميز هذه الأشغال هو احتدام نقاشاتها بخصوص إصدار قرار حول أهلية أو عدم أهلية الأمم المتحدة لبحث القضية الجزائرية، مما عزز مكاسب الجبهة الداخلية وأضعف الموقف الفرنسي بتدويل القضية الجزائرية.
ولم تتوقف المساعي الدبلوماسية عند هذا الحد بل دخلت  الحكومة المؤقتة في سلسلة مفاوضات مع السلطات الفرنسية، احتضنت أولاها مدينة مولان الفرنسية في جوان 1960، لتأتي مفاوضات إيفيان بمرحلتيها، الأولى ما بين 20 جوان و13 جويلية 1961، وقد شكل ملف الصحراء ومستقبل المعمرين في الجزائر حجر عثرة لإحراز تقدم في مسار المفاوضات، لتستأنف في لوغران الفرنسية في جويلية 1961، لكنها توقّفت للأسباب ذاتها، لتستأنف مرة أخرى في جولة ثانية ما بين 07- 18 مارس 1962.   
تعزيز الدور الإقليمي باحتضان أهم الاجتماعات التاريخية
وقد تكرس دور الجزائر الفعال على المستوى العالمي بعد انضمامها إلى المنظمات الإقليمية والدولية، كما هو الشأن لهيئة الأمم المتحدة في 08 أكتوبر 1962، ودورها في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية في 25 ماي 1963 ثم الاتحاد الإفريقي في 09 ماي 2002 بجنوب إفريقيا، إضافة إلى عضويتها الدائمة في حركة عدم الانحياز وانضمامها أيضا إلى الجامعة العربية في 16 أوت 1962، إلى جانب أنها عضو مؤسس لمنظمة التعاون الإسلامي بقمة الرباط في 25 سبتمبر 1969،
ومبادرتها في تفعيل مشروع المغرب العربي، الذي تجسد في قمة زرالدة بتاريخ 10 جوان 1988.                                      
كما تعزز دورها الإقليمي من خلال احتضانها لأهم الاجتماعات التاريخية مثل اجتماع القمة العربية السادسة في 26 نوفمبر 1973، إذ أن أهم ما جاء فيها هو العمل على إمداد دول المواجهة سوريا ومصر بكل وسائل الدعم في حربهما ضد إسرائيل، وعدم التراجع عن تحرير كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967، إلى جانب دعم ومساندة المقاومة الفلسطينية.
وخلال احتضان مدينة لاهور بباكستان القمة الثانية لمنظمة المؤتمر الإسلامي في فيفري 1974، أكد الرئيس الراحل هواري بومدين على ضرورة التضامن مع الشرق الأوسط، لا سيما  القضية الفلسطينية، مؤكدا على حتمية تطبيق القرارات المتخذة خلال هذه القمة، في الوقت الذي يجدر فيه التذكير بأن الجزائر قد عملت على تعزيز التعاون بين البلدان الأعضاء في المنظمة.
ولدى ترؤسها الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1974، عملت الجزائر على كسب اعتراف أممي بمنظمة التحرير الفلسطينية، في حين تم في 15 نوفمبر 1988 الإعلان في الجزائر عن قيام دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس.
وفي سياق تمسكها بمبدأ حق تقرير المصير ودعمها للحركات التحررية، فقد اعترفت الجزائر بجبهة البوليساريو ممثلا وحيدا  للشعب الصحراوي وبالجمهورية الصحراوية في السادس مارس 1976، كما امتدت مساندة الدبلوماسية الجزائرية لتشمل حركات التحرر الوطني في المستعمرات البرتغالية، ولم تتردد الجزائر في رفض نظام الأبرتايد في جنوب إفريقيا.
وكان الدور الدبلوماسي واضحا على المستوى الإفريقي، من خلال مساعي تحديث وظائف منظمة الوحدة الإفريقية خلال ترؤس الجزائر لقمة المنظمة سنة 1999 بتبني شعار السلم  كشرط أساسي لإحداث النهضة التنموية بالقارة السمراء، كما أثمرت جهود تحديث هياكل المنظمة بإنشاء الاتحاد الإفريقي سنة 2002 بجنوب إفريقيا، مما أعطى نفسا جديدا لاستحداث الرؤى في مجال تفعيل التعاون الاقتصادي بين الدول الإفريقية. إلى جانب إقامة هيئات جديدة على مستوى القارة الإفريقية، على غرار مجلس السلم والأمن وتأسيس البرلمان الإفريقي وكذا إتمام مسار إدماج هيئة النيباد ضمن تنظيماتها، علما أن رئيس الجمهورية كان من أبرز الفاعلين في هذا الصدد ولاسيما في إطار لقاءاته مع قادة مجموعة الدول الثماني والمنظمة الأوروبية للتعاون والتنمية من أجل تقديم الدعم للقارة الأفريقية.
وقد شاركت الجزائر في أغلب قمم مجموعة الثماني منذ 1999، حيث كثيرا ما كانت تغتنم الفرصة لطرح قضايا إفريقية على طاولة النقاش مع الدول المتقدمة، إلى جانب قمم مجموعة الخمسة عشر كترؤسها إحداها سنة 2004، وأخرى بهافانا بكوبا سنة 2006، كما حضرت قمة طهران بإيران سنة 2010، وكثيرا ما كانت تؤكد على ضرورة تعزيز التعاون جنوب - جنوب.
وفي سبتمبر 2012، استلمت الجزائر رئاسة مجموعة (77 + الصين) من قبل الأرجنتين، حيث عملت على تقوية التعاون
والثقة بين الأعضاء، مع جعل الشراكة والحوار كآليتين لمواجهة مختلف التحديات، دفع الحوار جنوب - جنوب، تفعيل تنمية حقيقية في الدول النامية والدعوة إلى الانسجام في العمل دوليا.
كما أن الدور الدبلوماسي للجزائر شمل أيضا تفعيل الجانب الاقتصادي باحتضان الجزائر لقمة الاوبيك في مارس 1975، حيث تمثلت أبرز التوصيات التي خرجت بها في عقلنة سياسات المحروقات ومواجهة جشع الشركات العالمية الكبرى التي تلهث وراء الذهب الأسود، إلى جانب التمهيد لإنشاء صندوق التنمية الدولية لدعم الدول الأقل نموا.
ومن أهم الأحداث التي احتضنتها الجزائر كانت القمة الرابعة لحركة عدم الانحياز في سبتمبر 1973، حيث تكرس التوجه الاقتصادي في مفهوم الحركة، علما أن عبارة النظام الاقتصادي الدولي الجديد دخلت القاموس السياسي عبر بوابة الحركة التي احتضنتها الجزائر في تلك السنة، وعليه عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة الدورة السادسة الاستثنائية في أفريل 1974 بعد دعوة الجزائر لذلك، بهدف مناقشة المشاكل الاقتصادية للدول النامية، لتصدر الجمعية العامة سنة 1974 قرارين، الأول يتضمن إعلانا لإقامة نظام اقتصادي دولي جديد، والثاني وضع برنامج هذا النظام، وهو ما يثبت دعم الجزائر الدائم لقضايا الدول النامية.
وإذا كانت هذه القمة قد حملت الطابع الاقتصادي باعتبار أن الصوت السياسي لم يكن كافيا آنذاك للتموقع بين قطبية ثنائية، فإن الاجتماع الوزاري الـ17 لحركة دول عدم الانحياز الذي احتضنته الجزائر شهر ماي الماضي، تحضيرا لاجتماع القمة للحركة المقرر العام 2015 في العاصمة الفنزويلية كاراكاس قد ركز على مناقشة "التضامن المدعم من أجل السلم والازدهار"، في وقت يشهد العالم تحولات جيو إستراتيجية كبيرة. ولذلك عكف المشاركون خلال هذا الاجتماع الهام على عقد اجتماعات غير رسمية عن قضايا تتعلق بالإرهاب والجريمة المنظمة والعنصرية ومعاداة الإسلام في بعض الدول الأوروبية.
تنسيق دولي في محاربة الإرهاب وضمان الأمن
وعلى ذكر التحديات الأمنية الدولية وكيفية مجابهتها، فقد ركزت  الدبلوماسية الجزائرية جهودها خلال  السنوات الأخيرة، على الدعوة إلى ضمان تنسيق أكبر بين المجموعة الدولية في محاربة الإرهاب وضمان الأمن، لا سيما في ظل التحولات التي عرفتها المنطقة العربية أو ما اصطلح على تسميته بـ’’الربيع العربي’’.
ولطالما كانت الجزائر سباقة في مطالبة المجتمع الدولي بتنسيق الجهود والتحسيس بخطورة الإرهاب والدعوة إلى سبل مكافحته، من خلال احتضانها لاجتماعات عالية المستوى، كما هو الشأن للندوة الدولية الأولى حول الشراكة والأمن والتنمية التي جمعت بلدان الميدان والشركاء من خارج الإقليم، لا سيما وأن منطقة الساحل تشكل مرتعا خصبا لاختطاف الرعايا الأوروبيين ومطالبة الإرهابيين بالفدية مقابل الإفراج عنهم.
ولم تنحصر أهداف الندوة في التحسيس بخطورة ظاهرة الإرهاب، بل تعدت إلى الدعوة إلى إعطاء دفع جديد وقوي للتعاون بين دول الساحل والصحراء الإفريقية، ليس في مسائل مكافحة الإرهاب فحسب، بل أيضا بخصوص الجريمة المنظمة والفقر، وإنعاش الأمن والاستقرار في المنطقة، لا سيما أمام الأزمة الليبية التي خلقت وضعا جديدا في المنطقة مع التداول المكثف للأسلحة. 
وكل ذلك تم في سياق تأكيد رفض الجزائر التدخل الأجنبي لما لذلك من تداعيات خطيرة على المنطقة، حيث التزمت بهذا الموقف طبقا لمبادئ سياستها الخارجية التي دعت من خلالها إلى ضرورة وقف إراقة الدماء والعنف وإيجاد حلول توافقية بين أبناء الشعب الليبي من أجل الوصول إلى المصالحة الوطنية المنشودة.
وهي السياسة نفسها التي انتهجتها في تسوية الأزمة المالية من خلال إشرافها مؤخرا على لقاءات تشاورية بين الأطراف المالية تمهيدا للانطلاق في الحوار الوطني المالي الشامل والذي ينتظر أن تحتضن الجزائر أولى مفاوضاته خلال هذا الشهر الكريم، علما أن اللقاءات مع الحركات المالية بالجزائر قد أفضت إلى التوقيع على "إعلان الجزائر" و«الأرضية التمهيدية" في سياق إيجاد حل نهائي للازمة.
ولم تكن تسوية النزاعات عبر الوساطة أمرا جديدا على الجزائر، فقد سبق لها أن لعبت دورا بارزا في هذا الصدد من خلال  الوساطات التي قامت بها سابقا كما هو الشأن لمسألة تحرير  الرهائن الأمريكيين في إيران سنة 1982 وإيجاد حل للنزاع بين العراق وإيران سنة 1975 واتفاق السلام بين إثيوبيا واريتريا في سنة 2000.
إجماع على فعالية المقاربة الأمنية والسياسية للجزائر
ويجمع المتتبعون على فعالية المقاربة الأمنية والسياسية التي تتبناها الجزائر على المستويات الإقليمية والجهوية والعالمية،  كونها ترتكز على الحوار لا التدخل في الشؤون الداخلية للدول وعلى التنسيق الأمني والمساعدة التقنية (التكوين والسلاح الضروري لمكافحة الإرهاب).
وعلى مستوى ترقية دور منظمة الأمم المتحدة، أصبحت الجزائر في الوقت الراهن، شريكا لا يمكن الاستغناء عنه في المفاوضات الدولية، فمند سنة 2000 تم تمثيل الجزائر عدة مرات من طرف رئيس الجمهورية في أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة نذكر منها قمة الألفية، المنعقدة في سبتمبر 2000، والقمة الدولية في سنة 2005، المخصصة لإصلاح هيئة الأمم المتحدة.
كما انتخبت الجزائر عضوا في مجلس الأمن في سنة 2003 فكان ذلك تكريسا لاستعادة الجزائر مكانتها على الساحة الدولية ونوعا من الاعتراف بمساهمتها الفعالة في مسار  إصلاح منظمة الأمم المتحدة والذي تتمثل أولى مراحله في إنشاء مجلس حقوق الإنسان ولجنة الأمم المتحدة لتعزيز السلم وفي ضبط استراتيجية واضحة لمكافحة الإرهاب عبر العالم.
وعلى صعيد اتحاد المغرب العربي، بادرت الجزائر منذ سنة 2001، بإعادة تنشيط هياكل ودواليب هذه المجموعة المغاربية ووضع حد للجمود الذي شل نشاطاتها مند سنة 1995. أما على الصعيد العربي فتعتبر قمة الجزائر، التي انعقدت في شهر مارس 2005، معلما بارزا في إصلاح منظومة العمل العربي المشترك، والدليل على ذلك هو القرارات التي أسفرت عنها  والمتعلقة بإلغاء العمل بنظام التصويت بالإجماع وبإنشاء عدد من المؤسسات الجديدة مثل البرلمان العربي الانتقالي والمجلس العربي للسلام والأمن ومحكمة العدل العربية.
وعلى المستوى الأوروبي، استغلت الجزائر فرصة إبرام اتفاق الشراكة لتفتح سبل الحوار المستمر مع دول الاتحاد الأوروبي خدمة للمصالح المشتركة. وذلك بهدف الوصول في نهاية المطاف إلى خلق منطقة للتبادل الحر بين الطرفين في أفق سنة 2017.
ويمكن القول أن الجزائر التي تعد قلب شمال إفريقيا، تظل العمق الاستراتيجي لهذه المنطقة بالنظر لموقعها البحري، مما يجعلها تحمل على عاتقها مسؤولية الدفاع عن الأمن القومي الذي يمس المصالح العليا الثابتة للعديد من القوى الإقليمية  الدولية، ويمكن إبراز هذه الأهمية من خلال ما كتبه شارل ديغول الرئيس الأسبق الفرنسي عندما قال "إن الإستراتيجية الرومانية قامت على أساس أن من يريد أن يتحكم في القارة الأوروبية لابد أن يسيطر ويمارس سيادته في شمال إفريقيا".