ستة أيام في جنوب إفريقيا

في ضيافة العلوم ومخيال مانديلا

في ضيافة العلوم ومخيال مانديلا
ب.هشام
  • 1248
❊   ب.هشام ❊ ب.هشام

السفر إلى جنوب إفريقيا كان قطعة من عذاب، فقد كانت الرحلة طويلة وشاقة، طوينا خلالها أكثر من 12 بلدا في أكثر من 14 ساعة، إلا أن حب الاكتشاف ومتعة التواجد في بلد إفريقي كبير جعلنا نتجاوز هذا الشعور.

كانت الرحلة إلى بلاد نيسلون مانديلا، في إطار المشاركة في الجمعية العامة الـ11 لأكاديمية إفريقيا للعلوم، ومنتدى جنوب إفريقيا للعلوم في طبعته الرابعة بالعاصمة بريتوريا، في الفترة الممتدة بين 10 و14 ديسمبر المنصرم.

كنت ضمن وفد صحفيين إفريقيين قدموا من 15 بلدا، وجهت له الدعوة من طرف وزارة العلوم والتكنولوجيا لجنوب إفريقيا، بهدف الوقوف عن قرب على الجهود الكبيرة التي تبذلها في سبيل دعم وتنمية العلوم على المستويين المحلي والقاري.

وجهتنا الأولى كانت جوهانسبورغ التي وصلناها صباح يوم التاسع من ديسمبر قادمين من مطار دبي، كان انطباعي الأول وأنا أستمتع بالنظرات الأولى لهذا البلد، أنني في أوروبا، حيث خيّل إلي أنني في إنجلترا، بالنظر إلى التشابه الكبير بين البلدين في فن العمارة والبنية التحتية وحتى في نظام السياقة، حيث يعتمدون على السياقة اليمينية.

أثار التمييز بادية

وجدنا في استقبالنا ممثلا عن لجنة التنظيم الذي أشرف على نقلنا إلى مكان الحدث بمدينة بريتوريا، التي تبعد بحوالي 50 كلم. كان الجو حارا في المنطقة في فصل الصيف، لأن المناخ هناك شبه استوائي، وكنت أثناء الطريق أتبادل أطراف حديث شيق مع صديقي البلجيكي أيدان الذي يساعد لجنة تنظيم منتدى العلوم، من خلال مؤسسته الناشطة في مجال الاتصال العلمي وخبرته التي اكتسبها في تنظيم الكثير من التظاهرات العلمية، وقد تعرفت عليه في المنتدى العالمي للعلوم الذي احتضنته الأردن العام المنصرم.

سيبدو للزائر للوهلة الأولى، أن أثار سياسة التمييز العنصري التي عانى منها السكان الأصليون لا زالت قائمة، فرغم مرور سنوات كثيرة على استقلال هذا البلد، إلا أن هناك العديد من المظاهر التي تؤكد على وجود شرخ بين السكان الأصليين والمستعمرين، فهناك مثلا أنشطة يتعالى الرجل الأبيض عن ممارستها،  بالإضافة إلى وجود مناطق ومجمعات سكنية ممنوع على الأفارقة دخولها، حسبما أكده لنا سائق سيارة الأجرة.

تعرفت في صباح اليوم الثاني على زميل صحفي من مصر، اسمه أحمد بلح، التقيته في بهو الفندق دقائق قبل توجّهنا نحو المركز الدولي للمؤتمرات، من أجل المشاركة في اجتماع الأكاديمية الإفريقية للعلوم. كان أحمد بلح من بين الصحفيين العلميين البارزين في مصر، فقد كان من بين المؤسسين للرابطة العربية للإعلاميين العلميين، وهو حاليا يشغل منصب رئيس تحرير في مجلة الطبيعة التي تعتبر فرعا من المجلة الأمريكية الطبيعة.

400 باحث والشمال غائب

الحديث مع أحمد بلح كان شيقا ومفيدا، وقد تشكلت بيننا صداقة، حيث لم نفترق طوال الخمسة أيام التي قضيناها في بريتوريا، ناقشنا خلالها الكثير من المواضيع العلمية التي تهمنا في العالم العربي، وقمنا معا بجولة سياحية ممتعة إلى جوهانسبورغ.

سمحت لي المشاركة في اجتماع أكاديمية إفريقيا للعلوم، بالتعرف على نشاطات هذه الهيئة التي أصبحت تشرف على الكثير من برامج البحث العلمي وتقدم منحا دراسية للكثير من الباحثين في الدول الإفريقية، كما تشرف أيضا على مشاريع بحث مع مراكز علمية دولية مرموقة.

لكن ما لفت انتباهي، أن هذه الهيئة التي انطلقت عام 1985، لا تضم في عضويتها سوى 400 باحث، أغلبهم من جنوب، شرق وغرب إفريقيا، وهي تكاد تخلو من ممثلين عن الشمال، باستثناء مصر التي كانت ممثلة بالعديد من الباحثين، وتونس التي كانت ممثلة بباحث علمي واحد يشتغل في جامعة الملك فهد بالسعودية.

لم أستسغ غياب باحثين علميين عن الجزائر وأردت معرفة السبب وراء ذلك، لكن الذي قيل لي في الكواليس لم يكن منطقيا ومقبولا، حيث أكد لي رئيس أكاديمية البنين للعلوم، وهو عضو في أكاديمية إفريقيا للعلوم، بأن المرشح يجب أن تتوفر فيه الكثير من الشروط التي تؤكد أنه فعلا يتمتع بكفاءة علمية مرموقة، لم أناقشه كثيرا لأنني كنت أعلم أنه لا يدري كثيرا عمن يتحدث، لكنني عرفت أن غياب الجزائريين عن هذه الأكاديمية كان بسبب عدم معرفتهم المسبقة بها، أو ربما لزهدهم فيما تقدمه من خدمات، وهذا مستبعد لأن مشاريع البحث العلمي التي تشرف عليها الأكاديمية مرموقة وراقية، على غرار مشروع إفريقيا 3” للصحة الذي يعتبر من بين البرامج البحثية الكبيرة التي أطلقتها، يهدف إلى جمع أكبر عدد من المعطيات العلمية حول خصائص جينات الإنسان الإفريقي، وكيف تتأثر بمحيطها، لتحديد الأسباب الرئيسية التي تجعل بعض الأمراض تعرف انتشارا كبيرا في إفريقيا، مقارنة بغيرها من دول العالم، وهو يدار بميزانية تقدر بـ170 مليون دولار.

‘’ميركات أكبر برنامج إفريقي

اليوم الثاني من الاجتماع كان مخصصا لمناقشة إستراتيجية الأكاديمية خلال السنوات الأربع القادمة، وعرضت مديرة العلاقات الخارجية والاستراتيجيات البرنامج للنقاش، واستغلينا الوضع للحديث مع العديد من الباحثين الذين ساهموا في إثراء النقاش ورسم الصورة الجديدة لهذه الأكاديمية، التي يبدو أنها تبحث عن مكانة لها في المجتمع العالمي للبحث العلمي.

أما اليوم الأول من منتدى العلوم، فكان حافلا وثريا بالنشاطات والمحاضرات والنقاشات العلمية المرموقة، وقد جرت وقائعه بجامعة بريتوريا، تحت إشراف وزيرة العلوم والتكنولوجيا لجنوب إفريقيا، التي ركّزت في الكلمة التي ألقتها حول برنامج جنوب إفريقيا لدعم العلوم والتكنولوجيا، أكدت فيها أن حكومة بلادها لا تدخر جهدا في دعم البحث العلمي باعتباره الوسيلة الأساسية لبلوغ أهداف التنمية المستديمة، وتحسين ظروف معيشة مواطنيها، وقالت إن بلادها تحتل حاليا المرتبة الـ29 عالميا من حيث الإنفاق على البحث العلمي، ولها برامج بحث علمية مرموقة، على غرار برنامج ميركات الفضائي الذي يعتبر أكبر برنامج في إفريقيا، والثاني عالميا في رصد الفضاء، وهو يدار بالشراكة مع إفريقيا.

من جهته، أشاد السيد فلاديمير سوشا، إطار في لجنة البحوث العلمية بالاتحاد الأوروبي، بالجهود التي تبذلها جنوب إفريقيا في سبيل دعم البحث العلمي، وأكد أن هذا البلد له طاقات خلاقة ومبدعة مكنته من تحقيق إنجازات علمية وبأقل التكاليف، وهو يعد ببلوغ مرتبة متقدّمة في صف الدول المتقدمة علميا.

شكل منتدى العلوم طوال أيامه الثلاث، فسحة علمية من خلال العديد من الورشات التي أقيمت للمناقشة، حيث تجاوز عددها الأربعين، تطرق من خلالها المشاركون إلى مختلف القضايا الراهنة التي تشغل بال العلميين، خاصة آثار ومخلفات الثورة الصناعية الرابعة على الحياة العامة للبشر، التي أخذت حيزا كبيرا من النقاش. 

من الأرجوانية إلى الأبارتايد

من بين الورش التي استوقفتني كثيرا ولا زالت تشغل فكري إلى اليوم، تلك التي تم التطرق فيها إلى موضوع الحد من مخاطر المخدرات، من خلال تبني إجراءات تبدو بالنسبة لنا في الدول الإسلامية والعربية على الأقل غير مقبولة، لأن أصحاب هذا الطرح يدعون إلى معاملة المدمنين كالمرضى وليس كمجرمين،  ويطالبون حكومات الدول بعدم التعرض لهم أو الزج بهم في السجن، لأن ذلك سيزيد من مشاكلهم الاجتماعية.

المخدرات بالنسبة لهم مثلها مثل الخمور، يجب على الحكومات أن ترخص ببيعها كما حدث مؤخرا في كندا وغيرها من دول العالم، لأن الأمر سيساهم في اعتقادهم، في حماية المدمنين من تناول مواد خطيرة يتم خلطها مع المخدرات،  والتي تؤدي في كثير من الأحيان إلى الوفاة....وغيرها من الإجراءات التي هي حاليا محل نقاش دولي، وقد تبنتها العديد من الدول الغربية، كألمانيا، سويسرا وأستراليا.

الرحلة إلى جنوب إفريقيا لم تكن علمية فقط، بل سياحية أيضا، حيث اغتنمنا أوقات الفراغ للقيام بزيارة إلى وسط مدينة بريتوريا التي تعتبر العاصمة الإدارية لجنوب إفريقيا، والتي يطلق عليها اسم المدينة الأٍرجوانية لكثرة أشجار الجاكارانده بها، وهي مدينة جميلة جدا ببناياتها القديمة ولوحاتها الطبيعية الخضراء.

لكننا لم نمكث في بريتوريا طويلا، حيث فضلنا العودة إلى مدينة جوهانسبورغ لزيارة متحف الأبارتايد، الذي يعتبر من بين أكبر متاحف العالم الذي يوثّق للجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وكان هذا المتحف في السابق سجنا استعمله نظام الأبارتايد لسجن السكان السود وتعذيبهم.

‘’أفارقة.. قبل كل شيء

يحتوي المتحف على العديد من المعروضات الخاصة بهذه الفترة، مثل الصور الفوتوغرافية، الأقفاص البشرية، وسائل التعذيب التي كانت تستخدم، إلى جانب جناح خاص بالزعيم نيلسون مانديلا الذي كانت تربطه علاقة قوية وروحية بالجزائر، حيث كتبت في مذكراته الدرب الطويل نحو الحرية، أنه استلهم الكثير من قيم الحرية من ثورة الجزائر وبسالة ثوارها الذين واجهوا ببسالة كبيرة أعتى استعمار في تلك الفترة.

كان مانديلا قد تلقى تدريبا عسكريا في الجزائر، وزار عام 1961 وحدات قتالية من جيش التحرير الوطني التي كانت ترابط في مدينة وجدة المغربية، التي كانت تحتضن قاعدة خلفية لجيش التحرير الوطني، وكانت تزود الثوار بالسلاح والأدوية، وهناك التقى مانديلا بالرئيس الراحل هواري بومدين، وهو اللقاء الذي يوثّقه متحف الأبارتايد من خلال صورة كبيرة، جاء فيها أن مانديلا خلال لقائه الكولونيل بومدين بالمغرب، استفاد من هذا الأخير بنصيحة بسيطة لكنها قوية وهي لا تكن عاطفيا وكن منطقيا، الهدف الرئيسي لكل التنظيمات التحريرية المسلحة في العالم ليس الإطاحة بالنظام، إنما دفعه للجلوس إلى طاولة التفاوض.

كان مانديلا يقول دائما بأن التنظيم المسلح الذي أنشأه لم يكن هدفا في حد ذاته، إنما لحمل نظام الأبارتيد على التفاوض وكان له ذلك عام 1990، بعد سنوات طويلة من الكفاح والنضال والتشرد في السجون.

رحلة جنوب إفريقيا لم تكن علمية فقط، بل ومحطة تاريخية وثورية عشت من خلالها في هذا المتحف لحظات الميز العنصري والمعاناة الكبيرة التي عاشها السود، تماما كما حدث في الجزائر، ولا زلت أيضا أتذكر ما قالته لي السيدة فيرونيكا وأنا أودعها، وهي إطار في مديرية البحث العلمي والتكنولوجي في وزارة العلوم والتكنولوجيا بجنوب إفريقيا إلى اللقاء أخي، فنحن قبل كل شيء أفارقة.

    

    

 

  ب.هشام