في قلب التغيرات المناخية
كيف يواجه سكان منطقة "إلماين" الجبلية ندرة المياه؟
- 2282
في الحدود بين ولايتي برج بوعريريج وبجاية وعلى بعد 300 كلم شرق العاصمة الجزائرية، تنتصب بلدية إلماين شامخة فوق أعالي جبال "مازة"، تواجه مع أبنائها الذين لم يهجروها، قساوة الطبيعة، تحنّ إلى زمن من الخيرات قد ولّى ومضى، وتئن لواقع حاضرها الذي جفته سحب السماء.
في بلدية إلماين وقراها الست التي تحوم حولها، هناك صراع مع الطبيعة لا يكاد ينتهي على مدار السنة، معاناة في الشتاء من قلة الأمطار والثلوج، وجلد في الصيف لمواجهة ارتفاع درجات الحرارة وحرائق الغابات التي تخنق الأنفاس في مشهد من مشاهد أزمة التغيرات المناخية.
لكن الطريق إلى منطقة إلماين لم يعد صعبا كما في السابق؛ لأن مسلك الطريق السيار الجديد مرورا بـ "تمقرة" آخر قرى مدينة بجاية العتيقة، أصبح يوفر على سالكيه بالسيارة، الكثير من العناء والوقت.
بعد ثلاث ساعات من رحلة ممتعة ذات صباح من شهر ديسمبر المنصرم، دخلنا مدينة "إلماين"، الجو لم يكن باردا كثيرا في الصباح، وأخذ في الاعتدال ليضاهي الربيع مع مرور الوقت.
وعلى مرمى البصر، تبدو أراضي الفلاحة يابسة ومقفرة؛ فالمطر لم ينزل منذ أكثر من شهرين، وفي الغداة بُرمجت صلاة الاستسقاء؛ طلبا للغيث.
الظروف ليست على ما يرام؛ فالحصار يطبَّق على أهل القرية من الجانبين؛ خوفا من انتشار فيروس كورونا وجفاف محتمَل.
حديث السكان في المقاهي والأزقة، في الغالب، حول فشل موسم الزيتون هذا العام. كانت الحسرة بادية على محيّا الكثير ممن تحدثنا إليهم من أرباب الأسر، الذين يعتمدون على الفلاحة الجبلية، وخاصة غراسة الزيتون، لإعالة عوائلهم.
محمود كزو من قرية "لمطرذ" التابعة لبلدية إلماين، من الفلاحين الذين يعتمدون كثيرا في معيشتهم، على محصول جني الزيتون، يروي لنا: "محصول بساتين الزيتون هذا العام يكاد يكون منعدما بسبب ندرة الأمطار؛ ماذا عسانا نفعل؟ ربما يأتينا الموسم القادم في ظروف أفضل".
الحسرة كانت أيضا بادية على الكثير من شباب المنطقة ممن ليست لهم مناصب شغل قارة وممن اعتادوا على العمل في جني الزيتون لتدبير أمورهم؛ مثل عمر الذي قال: "مناصب العمل في منطقتنا نادرة، ولذلك فإن الكثير من شباب المنطقة يفضلون الهجرة نحو المدن؛ بحثا عن العمل أو البقاء واحتراف المهن الموسمية كجني الزيتون، لكن من الواضح أنه لن يكون في هذا الموسم عمل كثير".
قلة الأمطار الشتوية والثلوج تسببت أيضا في نضوب بعض الينابيع الطبيعية التي كان سكان المنطقة يرتادونها للتزود من المياه الشروب؛ فماء الحنفية ليس متوفرا كثيرا.
منطقة إلماين بها العديد من الينابيع الطبيعية، أشهرها ينبوع "إمزرارق"؛ نسبة لقرية إمزرارق. وسكان المنطقة يرتادونها كثيرا؛ لأن مياهها عذبة، كما يعتقد البعض أنها صحية.
قمنا بجولة حول الينبوع في المساء؛ حيث سلكنا الطريق المؤدية إلى حمام المنطقة الشهير. ولأن الوقت كان متأخرا نوعا ما لم نصادف في عين المكان، سوى شابين وطفل. وبدا واضحا أن مياه "مزرارق" لم تعد تجري كما في السابق، وهو ما أكده لنا زهير أحد الشبان، الذي علّق: "في الماضي كانت مياه هذا الينبوع تجري بقوة إلى درجة أن خريرها يُسمع من بعيد. أما اليوم فقد أصبحنا نقف في طابور للتزود من مياهها في بعض الأحيان".
ويحكي عبد الحفيظ بن سيلين ـ وهو إطار ببلدية إلماين مختص في البيئة وأحد مرافقي جولتنا هذه ـ "التغيرات المناخية كانت سببا في انقطاع المياه العذبة عن الكثير من الينابيع الطبيعية في المنطقة. وإذا كان متوفرا في أخرى فإنه لم يعد يجري كما في السابق".
عبد الحفيظ بن سيلين هو من شباب البلدية المتميزين والناشطين، يومياته حافلة بالإنجازات؛ فبالإضافة إلى عمله اليومي في مكتب البلدية، يمارس هواية الرسم، والنحت على الخشب، وكتابة الأشعار، وهو كثير القراءة والمطالعة فضلا عن ذلك.
ويعتقد عبد الحفيظ أن تراجع منتوج الزيتون لا يعود فقط إلى ندرة الأمطار، بل لوجود بعض الممارسات الفلاحية التقليدية السيئة التي يطبقها الفلاحون في بساتينهم؛ مثل سوء نفض الأشجار أثناء عملية جمع الزيتون، الذي يتسبب، غالبا، في ظاهرة المعاومة؛ أي أن المنتوج لا يكون وافرا سوى عام بعام.
لقد اعتاد فلاحو المنطقة على الكثير من التطبيقات السيئة التي تؤثر سلبا على وفرة وجودة المحصول على حد سواء؛ فهم، مثلا، لا ينطلقون في عملية الجني إلا أواخر شهر ديسمبر؛ إذ ينتظرون أن يكتمل نضج الثمار، بل يتجاوزون تلك المرحلة، كما لا يعمدون إلى تمرير المحصول إلى المعصرة مباشرة بعد الجني، إلا بعد تخزينه لعدة أيام؛ اعتقادا منهم أن هذه العملية ستنتج زيتا أكثر عذوبة ونكهة.
مواجهة آثار التقلبات المناخية لا تكون إلا بالطرق العلمية
قضينا ثلاثة أيام في مختلف قرى البلدية في استقصاء مرن لانشغالات موسم الجني، واستمتعنا خلالها بجمال طبيعتها وحلو الحديث مع سكانها الطيبين، لنعود أدراجنا إلى العاصمة، حاملين معنا الكثير من الأسئلة التي كانت تحتاج إلى أجوبة شافية.
وكانت وجهتنا الأولى المعهد التقني لأشجار الكروم والزيتون الكائن مقره بتسالة المرجة بضواحي الجزائر العاصمة؛ حيث استقبلتنا مهندسة الفلاحة زهرة كماش، التي تشرف على مصلحة الدعم التقني.
السيدة كماش من الخبيرات في مجالها، فبالإضافة إلى تعليمها الأكاديمي، فهي تنحدر من إحدى قرى منطقة تيزي وزو التي قطعت أشواطا متقدمة في مجال غراسة الزيتون، وهي اليوم من المناطق القليلة التي تقوم بتصدير زيت الزيتون إلى الخارج. كما فازت في العام المنصرم بالجائزة الأولى للمجلس العالمي للزيتون.
وتقول كماش بأن مواجهة آثار التغيرات المناخية في المنطقة لا يمكن أن تكون إلا باعتماد الطرق العلمية في الاعتناء بالبستان، وذلك بداية باختيار الشتلات المقاومة للظروف المناخية الصعبة، ثم اختيار اليد العاملة المؤهلة في عملية الجني؛ لأن النفض العشوائي هو المسبب لظاهرة المعاومة. كما تنصح الخبيرة باستعمال المواد العضوية الصديقة للبيئة لتهيئة التربة، وتطبيق ممارسة محترفة أثناء عملية تقليم الشجرة. أما مشكلة ندرة المياه في المواسم الجافة، فيمكن احتواؤها وفقا لمنظورها؛ من خلال وضع حواجز صغيرة؛ حيث عللت ذلك قائلة: "بما أن أغلب البساتين تقع في المناطق الجبلية فإن أفضل طريقة لمواجهة ندرة المياه هي وضع حواجز من الحجارة في الجهة السفلى من كل شجرة، وهذا حتى نمنع مياه الأمطار من الجريان بسرعة، وبالتالي السماح للتربة بامتصاص أكبر قدر ممكن منها".
وبالنسبة للدكتور إبراهيم قريشي، المدير العام للمعهد الوطني للإرشاد الفلاحي، فإن من أهم المشاكل التي تواجه شعبة الزيتون، النزوح الريفي الذي لايزال مستمرا إلى غاية اليوم؛ حيث يضطر الكثير من الفلاحين للهجرة، مخلفين وراءهم أراضي باتت، اليوم، مهملة، فيما تعرّض الكثير من هذه البساتين للتجزئة بسبب الميراث، وهو ما دفع الكثير من الوارثين إلى التخلي عنها، خاصة إذا كانت المساحة الموروثة صغيرة، وتقع في منطقة وعرة.
ولاحتواء كل هذه المشاكل يعتقد الدكتور قريشي أن على الفلاحين احتراف هذه المهنة بحق؛ إذ يجب ممارستها بمنطق تجاري بحت، مسوغا لنظرة اقتصادية جديدة، تجعل من البستان مؤسسة ربحية قائمة بذاتها؛ إذ ينبغي، حسبه، "للفلاحين أن يفكروا بمنطق تجاري؛ لأن ذلك سيدفعهم، حتما، إلى توسيع نشاطهم، وبالتالي تطبيق ممارسات فلاحية سليمة من حيث عقلنة استغلال المياه، والاعتناء الجيد بالبستان". كما أكد محدثنا أهمية الاستثمار في هذا النشاط بالنسبة لأبناء المنطقة، الذين يبحثون عن مناصب شغل خارج مجال الفلاحة، والنظر إلى هذا النشاط ببعض الحداثة وحساب المردودية وفرص استغلال الآليات التي توفرها الحكومة، مبرزا رؤيته بشكل مباشر وصريح؛ "أدعو شباب المنطقة إلى استغلال الآليات التي وفرتها الحكومة، لتسهيل عمليات الاستثمار مثل قرض التحدي، الذي يمكّن الفلاح من الحصول على مبلغ مالي لتمويل مشروعه في مدة خمس سنوات بدون فوائد".
دعمُ الفلاحين ماديا لن يعود بالفائدة المرجوة إذا لم تكن هناك مرافقة أو متابعة مستمرة من طرف اللجان المختصة؛ لأن بعض الفلاحين يقترضون ولا يستغلون تلك الأموال في وجهتها الصحيحة، وهو ما شدد عليه عبد الحفيظ بن سيلين، الذي ما فتئ يتحدث عن آلية ناجعة، هي "مرافقة الفلاحين المستفيدين من الدعم المادي، ومراقبتهم باستمرار، لسد الطريق أمام الانتهازيّين".
❊ تم إعداد هذا الروبورتاج في إطار مشروع: MédiaLab Environnement .