مكتسبات هائلة في قطاع الصحة منذ الاستقلال

مجانية العلاج، إنجاز الهياكل وعصرنة التكوين والتسيير

مجانية العلاج، إنجاز الهياكل وعصرنة التكوين والتسيير
  • القراءات: 1606
حسينة/ل حسينة/ل
 لاشك أن الجزائر، عملت منذ الاستقلال على وضع مبادئ أساسية تقوم عليها السياسة الصحية، سعيا منها لتجسيد حق المواطن في العلاج. كما نصت عليه المواثيق والدساتير، الذي اعتبر مكسبا ثوريا. هذه المبادئ عرفت نجاحات وبعض الاختلالات عبر المراحل المختلفة التي مرت بها البلاد، وكانت وضعية الصحة العمومية للجزائر قبل الاستقلال متردية، حيث كان الشعب الجزائري يعاني الفقر والحرمان ومختلف الأمراض الوبائية الناتجة عن الظروف المعيشية السيئة لأغلبية الجزائريين من جهة، وغياب التغطية الصحية من جهة أخرى. وساهمت مختلف السياسات الصحية المنتهجة منذ الاستقلال في تحسين نوعية العلاج وتوسيع التغطية الصحية، مما أدى إلى رفع معدل عمر المواطن إلى أزيد من 76 سنة وتحقيق جلّ أهداف الألفية.
ونجم عن هذه البرامج الصحية التي اعتمدتها الجزائر، القضاء على معظم الأمراض المعدية التي تفشت بكثرة خلال العشرية الأولى من عمر الاستقلال، إضافة إلى تحسين ظروف المعيشة، مما أدى إلى زيادة الأمل في الحياة من 47 إلى 76,5 سنة، رغم الظروف الصعبة وقلة الوسائل المادية والبشرية.
وتأتي هذه النتائج، تتويجا للجهود التي بذلت، على غرار ديمقراطية التعليم العالي، لاسيما الفروع الطبية، وتطبيق سياسات العلاج المجاني بتبني برامج وقائية على مراحل، على رأسها البرنامج الموسع للقاحات الأطفال الذي بلغ مستوى تجاوز توصيات المنظمة العالمية للصحة (90 بالمائة).
وقد ساهمت هذه الإجراءات في تخفيض وفيات الأطفال من 280 حالة لكل 1000 ولادة حية إلى 23 حالة لكل ولادة حية، وبهذه النسبة تكون الجزائر قد حققت أحد أهم أهداف الألفية، وفق معطيات الديوان الوطني للإحصاء.
كما لعبت الموارد البشرية دورا هاما في تحسين نوعية العلاج، بفضل تدعيم التكوين الطبي وشبه الطبي بما مقداره 14 مرة، حيث انتقل تعداد السلكين من 5 آلاف خلال نفس العشرية إلى أكثر من 75 ألف خلال سنوات التسعينيات، ليتجاوز هذا العدد 150 ألف السنة الماضية.
وبفضل هذه الجهود، بلغت التغطية الشاملة للقاح المضاد للسل (بي.سي.جي) 99 بالمائة واللقاح المضاد للشلل 91 بالمائة والمضاد للحصبة 88 بالمائة، ومضاد التهاب الكبد الفيروسي 90 بالمائة، مما أدى إلى القضاء نهائيا على بعض الأمراض الفتاكة، على غرار الملاريا التي لاتزال المراقبة عبر الحدود تتصدى لها، وكذا مرض السل الذي سجل تراجعا محسوسا ليقدر بـ20 حالة فقط لكل 100 ألف ساكن، وهي النسبة المماثلة المسجلة في بعض البلدان المتطورة، بالإضافة إلى التحكم في الأمراض الأخرى كالشلل والحصبة والديفتيريا التي أصبحت تقريبا منعدمة.
من القضاء على الأوبئة إلى التكفل بأمراض العصر
كان أول تحد للجزائر بعد الاستقلال هو كيفية  التقليل من الإصابات بالأوبئة التي كانت منتشرة في أوساط الجزائريين وذلك كأول خطوة ثم القضاء عليها نهائيا، من خلال مجانية العلاج، وتوفير اللقاحات الضرورية للحد من انتشار هذه الأمراض خاصة خارج المدن الكبرى. وقد تمحورت آنذاك استراتيجية تطوير قطاع الصحة حول تحسين التغطية الصحية وتحسين الوضعية بشأن مكافحة الأوبئة.
وقد تميزت الحقبة الزمنية ما بين نهاية الستينيات ونهاية السبعينيات بإعطاء العلاج الأولي، الأولوية، وذلك عن طريق توفير قاعات العلاج والمراكز الصحية على مستوى كل بلدية، بالإضافة إلى انطلاق الحملات الوطنية للتلقيح ضد شلل الأطفال ومكافحة الملاريا، غير أن التغطية الصحية في تلك الحقبة والتي تلتها، لم تكن بصفة متعادلة بين سكان المدن الكبرى، والمناطق الداخلية والريفية بصفة عامة، وهذا الخلل استدركته الدولة من خلال السياسة الصحية التي سطرتها خلال العشرية الأخيرة، لضمان تغطية متكافئة بين كافة السكان على كامل التراب الوطني دون إقصاء أو تهميش.
وخصصت أموالا ضخمة لإنجاز الهياكل الصحية، بما فيها المستشفيات للرفع من عدد الأسرة لتحقيق زيادة في طاقة الإيواء، حيث من المقرر فتح عدد من المراكز الإستشفائية والمستشفيات الجامعية في مناطق الجنوب الكبير في كل من ورقلة وبشار، بالإضافة إلى إنشاء ثالث مستشفى ببشار في السنة المقبلة. كما أقرت وزارة الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات أزيد من 20 مليار دولار للمشاريع المتعلقة بالرعاية الصحية في آفاق 2025، والموجهة لتطوير 700 مركز طبي، ولإنشاء عيادات متعددة الخدمات في القرى والأرياف، بالإضافة إلى 200 عيادة متنقلة لفائدة البدو الرحل، لضمان تغطية صحية تصل لآخر نقطة من التراب الوطني.
وبعد أن حققت نجاحا كبيرا في مجال القضاء على الأمراض والأوبئة، التي كانت في سنوات الستينيات والسبعينيات تعد من الأمراض الفتاكة، وهذا بشهادة التقارير التي نشرتها المنظمة العالمية للصحة، فإن الجزائر تواصل بذل جهود أكبر من أجل التقليل من الاصابة بالأمراض العصرية الخطيرة كالسرطان بأنواعه خاصة سرطان الثدي؛ الذي يسجل سنويا أكبر عدد من الوفيات في صفوف النساء يليه سرطان الرئة، حيث سيتم فتح 50 مركز أشعة لعلاج المصابين بهذا الداء المميت، بالإضافة إلى تطوير زراعة الأعضاء، وقد خصصت ميزانية معتبرة لذلك تسعى الدولة من خلالها إلى التكفل الأفضل بهذا المرض من جهة ولتقليص الفاتورة الضخمة التي يكلفها العلاج في الخارج.
ويجمع المختصون على أن المنظومة الصحية تعرف تحسنا كبيرا من ناحية الجوانب العلاجية بفضل نشر البحوث للتحكم في تكنولوجيات القطاع الصحي وتحسين خدمات الضمان الاجتماعي، ويعد ذلك بلا شك مفخرة للجزائر في عيد استقلالها الـ 52.
 هياكل جوارية لتجسيد الصحة للجميع
وأدى تعزيز القطاع بهياكل صحية إلى تراجع محسوس في الأمراض المعدية والقضاء على بعضها تماما، وكذا انخفاض الوفيات بصفة عامة ولدى الأطفال والأمهات الحوامل على وجه الخصوص إلى 5 بالمائة سنويا، بفضل ارتفاع معدل الولادة المدعمة طبيا الذي وصل إلى 98 بالمائة، وفتح 88 مصلحة تتكفل بصحة الأم والطفل بالعديد من المراكز الجوارية التي يحصيها القطر الوطني.
يضاف إلى هذا، ضمان متابعة الحمل الذي يشكل خطورة على الأم إلى جانب تنظيم التخطيط العائلي، حيث انخفض معدل الإنجاب من 7 أطفال لكل امرأة خلال السنوات الأولى للاستقلال إلى2,5 خلال السنوات الأخيرة. ورغم المجهودات المبذولة عرف التكفل بالعلاج المتخصص طلبا متناميا، مما استدعى اللجوء إلى تحويل عدد من المرضى إلى الخارج إلى فرنسا في بداية الأمر ثم دول أوروبية أخرى، من خلال تعاقد الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مع المؤسسات الاستشفائية بهذه الدول. ورغم الانعكاسات السلبية للعشرية السوداء على القطاع، إلا أنه حافظ على وتيرة التقدم التي كان عليها، بل سجل تحسنا في أهم المؤشرات الوقائية والتلقيح والعلاج القاعدي.
كما ساهمت سياسة الانفتاح بتعزيز القطاع بعدة عيادات استشفائية تابعة للقطاع الخاص، وتخلي الدولة عن احتكارها لاستيراد وتوزيع الأدوية لفائدة هذا القطاع، مع تشجيع بروز عدة وحدات إنتاج.
تكييف البرامج مع احتياجات السكان
وتميزت العشرية الأخيرة، بتكيف البرامج الصحية مع احتياجات السكان وإعداد قوانين تسيير جديدة للمؤسسات الاستشفائية الكبرى، وتعزيز مراكز العلاج الجواري التي تتكفل بالعلاج القاعدي، حيث وصل عددها إلى 7033 مركز وأكثر من 1500 عيادة متعددة الخدمات، بالإضافة إلى المؤسسات الاستشفائية الجامعية (14مستشفى) والمتخصصة (68 مؤسسة) وأكثر من 300 مؤسسة استشفائية تابعة للقطاع الخاص.
وبتوفير هذا العدد الهائل من الهياكل الصحية المنتشرة عبر القطر، تكون الجزائر –حسب مدير الوقاية بوزارة الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات والأستاذ المختص في الأمراض الوبائية،السيد إسماعيل مصباح- قد رفعت قدرة استيعاب المرضى خلال السنوات الأخيرة بأزيد من 71 ألف سرير أي ما يعادل سريرا واحدا لكل 500 مواطن.
وشكل العنصر البشري محور هذه السياسات، بتكوين أكثر من 80 ألف طبيب في جميع الاختصاصات، مما كان له الأثر البارز على التوزيع العادل في العلاج عبر القطر، كما أدى الأثر المادي لمضاعفة ميزانية القطاع بـ14 مرة منذ الاستقلال (أكثر من 233 مليار دج) بدوره إلى تحسين نوعية العلاج.
بطاقة «الشفاء» مولود العصرنة والصحة المدرسية للمتابعة المستمرة
وكللت كل هذه المجهودات بعصرنة المنظومة الاجتماعية، بتعزيزها بالبطاقات المغناطيسية «الشفاء» والعمل على تعميم استعمالها، من خلال تعاقد الصندوق الوطني مع الوكالات الصيدلانية التابعة للقطاع الخاص وطبيب العائلة والمخابر البيولوجية، ما نجم عنه التكفل الجيد للصندوق بصحة المؤمنين اجتماعيا وذوي الحقوق البالغ عددهم 22 مليون جزائري. وقد منحت هذه البطاقة الإلكترونية معاناة دامت سنوات، ومكّنت حتى غير المؤمنين من ذوي الحقوق الاستفادة من التغطية الاجتماعية واقتناء الدواء مجانا.
كما كان للصحة المدرسية مفعولها الإيجابي على ترقية صحة النشء، من خلال المتابعة المستمرة لجميع الأطوار، فيما لعبت جمعيات المرضى إلى جانب بقية المتدخلين في القطاع دورا محوريا في المساهمة في التحسيس والتوعية، مما ساهم إيجابيا في إثراء المخططات الوطنية وجعلها أكثر مسايرة للواقع.
إلا أنه وعلى الرغم من المجهودات المبذولة والنتائج الإيجابية التي عرفها القطاع، يجمع الخبراء على أن العشرية الأخيرة أفرزت معطيات جديدة، تمثلت أساسا في نقص التنظيم والتسيير، مما حتم رفع تحديات تتعلق بالتحكم في الاتصال الصحي وتعزيز وتنسيق العمل بين القطاعات وتطوير اليقظة الصحية.
كما يعتبر التحكم في التموين بالمواد الصيدلانية وتنمية الموارد البشرية عاملين هامين يتطلبان جهودا إضافية لتلبية احتياجات السكان، إلى جانب عصرنة تسيير المستشفيات الكبرى وإدراج عقود النجاعة التي تفرض نفسها من أجل تشجيع المنافسة التي ينجم عنها تحسين تسيير الخدمات.
80 ألف طبيب تخرجوا من الكليات الجزائرية منذ الاستقلال
توصلت كليات الطب في الجزائر إلى تكوين ما يقارب 80 ألف طبيب في مختلف التخصصات منذ الاستقلال بعد ما كان عدد هذا السلك لا يتجاوز 500 طبيب من مختلف الاختصاصات في سنة 1962.
وإذا كان التكوين الطبي قد اقتصر خلال السنوات الأولى للاستقلال على كلية الطب لجامعة الجزائر التي تخرج منها سنويا آنذاك بين 30 إلى 40 طبيبا فقد تم تدعيمها بكليتين خلال السنوات التي أعقبت الاستقلال بكل من جامعتي وهران وقسنطينة.
وشهدت سنوات السبعينيات بعد تعيين المرحوم محمد الصديق بن يحيى على رأس وزارة التعليم العالي إصلاحات عميقة، حيث لجأ القطاع إلى التعاون الأجنبي لاسيما الدول الشرقية لاستدراك قلة التأطير بعد مغادرة الإطارات الفرنسية.
وخلال السنوات الأخيرة وصل عدد الكليات عبر القطر إلى 11 كلية أربعة منها بالوسط (العاصمة، البليدة، تيزي وزو وبجاية) وأربع كليات بالشرق (عنابة، سطيف، باتنة وقسنطينة) وثلاث كليات أخرى بالغرب (وهران وسيدي بلعباس وتلمسان) مع مشروع إنشاء ثلاث كليات أيضا بالجنوب الجزائري.
وكونت هذه الكليات مجتمعة  أزيد من 6205 طبيب في العلوم الطبية ما بعد التدرج في اختصاص طبيب وجراح أسنان وصيدلي وأكثر من 10161 في التعليم الاستشفائي الجامعي والإقامة.
ويرى المختصون في التعليم العالي والبحث العلمي أن التكوين بالجامعات الجزائرية يضاهي نفس التكوين بالدول المتقدمة وقد أثبت الأطباء الجزائريون الممارسون بمستشفيات هذه الدول مكانتهم بجدارة.
وأكد الأخصائيون أن توفر هذا العدد الهائل من المتخرجين ساهم في ضمان التكوين والتأطير من طرف إطارات وطنية وزيادة في عدد الأطباء مما ساهم في توسيع التغطية الصحية من طبيب واحد لكل 26 ألف نسمة وجراح أسنان واحد لكل 72848 نسمة وصيدلي واحد لكل 41667 نسمة في سنة 1962 إلى طبيب واحد لكل 900 نسمة وجراح أسنان واحد لكل 3097 نسمة وصيدلي واحد لكل 3967 نسمة.
ورغم أن الدولة الجزائرية استطاعت أن تحقق تغطية صحية لكل المواطنين من حيث عدد الأطباء العامين والصيادلة وجراحي الأسنان، فإن ذلك لم يمنع من تسجيل عجز في بعض الاختصاصات لاسيما بمناطق الهضاب العليا والجنوب.
وفي هذا الإطار تبنت السلطات العمومية في الفترة الأخيرة سياسة وطنية ترمي إلى ضمان التغطية الشاملة لكل جهات الوطن من خلال توفير السكنات الوظيفية ومضاعفة الأجور والمنح للأطباء المختصين الذين تم إيفادهم إلى الجنوب في إطار الخدمة المدنية. كما اتخذت إجراءات تحفيزية أخرى من أجل استقرار هؤلاء الأطباء نهائيا بالمناطق التي يرسلون إليها.
 كما بلغ عدد الأساتذة المؤطرين 564 أستاذا و432 أستاذ محاضر و2564 أستاذ مساعد.
يعتبر القطاع الصحي ثالث قطاع في الدولة من حيث توظيف الموارد البشرية بعد قطاعي التربية والجماعات المحلية، إذ يوظف أكثر من 230 ألف مستخدم من مختلف الأسلاك.
واستجابة لمتطلبات العصر والتحديات التي تواجه القطاع عملت السلطات العمومية على تطويره، كما وكيفا لتقديم خدمة في مستوى تطلعات المواطن الجزائري.