ثمار ملموسة للالتزامين الـ20 و46
ديناميكية ثقافية وفنية في مستوى تطلعات المبدعين
- 1082
لا يمكن إنكار الديناميكية التي يعرفها قطاع الثقافة والفنون في الأربعة أعوام الفارطة، حيث ما فتئ الالتزامان العشرون والسادس والأربعون، لرئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، يتجسدان خطوة تلو أخرى، وقد سعى من خلال الأول إلى جعل الإنتاج الفكري والثقافي والفني في خدمة النمو الاقتصادي فضلا عن خلق بيئة مواتية لظهور ونموّ المواهب الفنية، من خلال تشجيع مسارات تكوين دراسية وجامعية فنية وخلق شهادة بكالوريا فنية، إلى جانب تشجيع المقاولاتية الثقافية والفنية وإعطاء الأهمية القصوى للصناعة السينماتوغرافية، فيما تمحور الالتزام الـ46 حول دعم ومرافقة المبادرات التي يطلقها الفنانون الشباب من خلال وضع آليات الدعم وتشجيع الإبداع، علاوة على ترقية الكتاب والمطالعة خاصة في المدارس، وتثمين مهنة الفنان وكل الفاعلين في الثقافة وترقية دورهم الاجتماعي ووضعهم القانوني، وهو ما تجسد بصدور المرسوم الرئاسي المتضمن القانون الأساسي للفنان، الذي اعْتُبر حدثا تاريخيا يضاف إلى المكاسب العديدة التي تحققت لصالح مبدعي الجزائر.
جاء المرسوم الرئاسي رقم 23- 376 المؤرخ في 7 ربيع الثاني عام 1445 الموافق لـ 22 أكتوبر سنة 2023، بمثابة تكريس لالتزام من التزامات الرئيس عبد المجيد تبون، الذي ما فتئ يشدّد على ضرورة توفير الحماية القانونية والاجتماعية للفنانين، حفظا لحقوقهم وكرامتهم. فخلال مجلس الوزراء الذي انعقد في 20 فيفري الفارط، جدد الرئيس "حرصه على أن يتضمّن القانون الجديد الخاص بالفنان، آليات التكفل بالجوانب الاجتماعية لكل المبدعين الجزائريين على اختلاف فنونهم، عرفانا بما قدّموه ويقدّمونه من صور جميلة عن الجزائر".
فاتحة عهد جديد
في هذا الصدد، أشاد الفنانون بهذه الخطوة التي تعدّ استجابة لمطلب يعود لعقود من الزمن، والتفاتة جادة واعتراف رسمي بما يقدّمونه، ويضمن "الحق في الإبداع والمرافقة والحماية الاجتماعية"، معتبرين إياه بمثابة "مرحلة أولى لتثمين الإبداع والمبدع الفني".
فالقانون الأساسي للفنان، الذي ستصدر نصوصه التطبيقية خلال السداسي الأول من العام القادم، هو "فاتحة عهد جديد على الساحة الثقافية والفنية الجزائرية"، يضاف إلى عدّة مشاريع خاصة بالتكفّل الصحي والاجتماعي للفنانين، حيث أُطلق مشروع إنجاز مركز طبي اجتماعي لصالح الفنانين، كما تقرّر تحويل فيلا "المنزه" بحي القصبة العتيق إلى "دار للفنان" كفضاء يجمع الفنانين والمثقفين الجزائريين في كلّ التخصّصات، مزوّد بالمرافق الضرورية لضمان بيئة مناسبة للّقاء والتشاور والعمل التشاركي.
الانجازات المحقّقة والرعاية الكبرى وفق الرؤية الرشيدة لرئيس الجمهورية تجلت في عدّة مشاريع أخرى منها إنشاء الثانوية الوطنية للفنون "علي معاشي" إلى جانب إطلاق بكالوريا تخصّص فنون في السينما والسمعي البصري والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية وكذا القرار بالمضي نحو تعميم تجربة ثانوية الفنون على المستوى الجهوي، كدلالة على "العناية الفائقة لرئيس الجمهورية بفئة الناشئة والشباب المبدع"، حيث شدّد في أكثر من مناسبة على "ضرورة العناية بالتكوين الفني ومرافقة المبدعين المتخرجين من المعاهد الفنية".
تشجيع الخبرة الوطنية في مجال الصناعات الثقافية والفنية
لطالما كان وضع تصوّر متطوّر لصناعة الكتاب أحد أولويات قطاع الثقافة والفنون، حيث التزم السيد الرئيس بتطوير الصناعة الثقافية من خلال حوافز وتدابير جذابة وتشجيع الخبرة الوطنية في مجال الصناعات الثقافية والفنية، خاصة مع التغيرات المتتالية التي يشهدها العالم، الذي بات مبنيا على اقتصاد المعرفة والرقمنة، ما يضع القوانين والاستراتيجيات التقليدية محلّ حرج كبير، ويجعل الصناعات الثقافية كلّها، وصناعة الكتاب تحديدا، في موقع إشكالي في كل مرة، وعليه تسعى وزارة الثقافة والفنون من أجل تمكين الكتاب وتهيئة الظروف لكلّ مهنيي ومحترفي الكتاب، لحلّ مشكلات مجالهم والمساهمة معا، باقتراح حلول عاجلة وقابلة للتنفيذ، وآليات عمل مستمرة تسمح لسوق الكتاب، بامتصاص صدمات التحوّلات الممكنة. وبلوغ رؤية استراتيجية وطنية شاملة.
وتعتزم وزارة الثقافة والفنون، تنظيم جلسات وطنية ثانية حول النشر والكتاب والمطالعة، أواخر السنة الجارية، ستكون "فاصلة ونهائية"، بعد الأولى المنعقدة يومي 28 و29 ديسمبر 2022، بالمكتبة الوطنية الجزائرية، ومن بين أهم المسائل التي يجري الاشتغال عليها من طرف الخبراء، مراجعة القانون الأساسي للمركز الوطني للكتاب، بهدف تفعيله في مجال النشر، إلى جانب تحيين محتوى برنامج التكوين المتخصص في مجال الطباعة وترقية المهنة، وتفعيل مبدأ الاحترافية، وكذا مناقشة إمكانية تخفيض الضرائب على نشاط النشر، وكذا المواد الأولية في صناعة الكتاب، على غرار الحبر والورق، والتنسيق المستمر مع مختلف القطاعات الوزارية ذات الصلة بميدان الكتاب والنشر، ومن جملة القضايا المشتركة، استيراد الكتاب والتوزيع والآليات الكفيلة بتسهيل مختلف الإجراءات المتعلقة بالكتاب.
البعد الإفريقي خيار استراتيجي هام
تدرك "الجزائر الجديدة"، وفق رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، في رسالته للمشاركين في ملتقى الجزائر الدولي "الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي"، أنّ البعد الإفريقي يبقى خيارا استراتيجيا هاما يمكّن الشعوب من استكمال طموحاتها المنشودة، بتعزيز العمل الدبلوماسي وتنشيط السياحة الدينية وكذا الاستفادة من عمق الطرق الصوفية وامتداداتها في إفريقيا، ما يؤدي إلى تحقيق الانسجام في المواقف السياسية وتفعيل التعاون الاقتصادي وكذا ترقية التبادل العلمي والثقافي.
وأضاف الرئيس أنّ الجزائر التي خدمت إفريقيا في عهدها الماضي، ستواصل المسيرة في حاضرها ومستقبلها، مستلهمة كل ذلك من أمجاد أسلافنا، مستدلا بما قام به الإمام العلامة المغيلي الذي تمكّن من الاستثمار في البعد الإفريقي واستطاع أن يكوّن أرضية للوفاق والتعاون البنّاء.
ودعا في هذا الإطار البلدان الإفريقية إلى أن تنحو اليوم من أجل إرساء تكامل اقتصادي إفريقي، مستنيرة في ذلك بآثار الإمام المغيلي الاقتصادية والتنموية في البلاد التواتية، منها "السوق الكبيرة" المشهورة بقصر سيدي يوسف، والتي كانت بمثابة قطب اقتصادي يربط إقليم توات بكثير من الأقاليم والبلدان.
ووافق رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، في ختام أشغال ملتقى الجزائر الدولي "الإمام المغيلي"، على إنشاء "مركز الإمام المغيلي للبحوث والدراسات الإفريقية والعربية" ليكون "رافدا للتنمية في إفريقيا" واعتماد "أسبوع ثقافي إفريقي" باسم "أدرار عاصمة الثقافة الإفريقية"، تتزامن تظاهراته الثقافية والسياحية والاقتصادية مع ذكرى الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي.
فضلا عن إنجاز فيلم مطوّل عن الإمام المغيلي يؤرّخ لأمجاده وإنجازاته ومآثره، واعتماد جائزة الإمام المغيلي السنوية للدراسات التراثية والثقافية المشتركة، بالإضافة إلى العمل على مواصلة انعقاد الملتقى في طبعات سنوية ونشر كافة أعماله عبر كلّ الوسائل والوسائط المتاحة.
وفاء بالالتزامات الإقليمية
وضمن الوفاء بالتزاماتها تجاه القارة السمراء، افتتحت الجزائر بقصر "بولكين" في حسين داي، المقر المؤقت لمتحف إفريقيا الكبير، الذي يعتبر مشروعا رائدا مسجّلا في أجندة الاتحاد الافريقي، في مجال تثمين الفنون والتراث الإفريقي، لجعله مركز إشعاع ثقافي وعلمي للباحثين والمختصين، في انتظار تجسيد المشروع على أرضية، خصصتها الجزائر على مساحة تقدر بأكثر من 42 ألف متر مربع.
وبعد أن نجحت الجزائر في إنشاء المركز الإقليمي لـ"اليونسكو" لحفظ التراث الثقافي اللامادي في إفريقيا، سنة 2018، يمكن اعتبار افتتاح هذا المشروع، المتحف الإفريقي الكبير، بمثابة خطوة جديدة نحو تجسيد التزامات الجزائر على المستوى القاري، في مجال الحماية والحفاظ على الثقافة والتراث في القارة الإفريقية، حيث توفر للمختصين والباحثين في مجال التراث في إفريقيا، أوّل متحف قاري بهذه الأهمية والمكانة.
والغرض من المتحف الكبير لإفريقيا، هو إنشاء متحف معاصر ديناميكي وتفاعلي لجمع وحفظ ودراسة المجموعات المتحفية، والمشاركة في تاريخ إفريقيا وثقافتها، والحفظ على تراثها المادي وغير المادي، كما يرتكز المتحف أيضا، على علم النسب الإفريقي، وعلى النصب التذكارية الخاصة بتجارة العبيد، بالنظر إلى التمركز الكبير لجاليتها عبر كل القارات، وإلى المستقبل الاقتصادي والاجتماعي لسكانها الشباب.
وتحقيقا لرؤية الرئيس تبون وحرصه على العمق الإفريقي للجزائر، ارتأى القائمون على صالون الجزائر الدولي للكتاب، أن تثمَّن روابط الانتماء، والتاريخ والجغرافيا للقارة الأم، حيث نُظّمت الدورة السادسة والعشرون، بنفحات افريقية ومدّت الجسور الثقافية والإبداعية المتصلة بالقارة السمراء تحت شعار "افريقيا تكتب مستقبلها"، وبُرمجت عدد من الندوات ذات صلة، على غرار "الثقافة الإفريقية وتأكيد الذات في القرن الحادي والعشرين"، و"الالتزام في الأدب الإفريقي"، و"المشترك الصوفي الجزائري الإفريقي"، ناهيك عن الاحتفاء بالذكرى العاشرة لرحيل نيلسون مانديلا بمشاركة نخبة من الكتّاب الأفارقة فضلا عن الندوة الدولية حول "المشترك الصوفي الجزائري الافريقي، قوّة ناعمة من أجل مستقبل إفريقيا".
الجرد والرقمنة لحماية التراث الثقافي
وضمن مساعي تنفيذ سياسة التخطيط والتطوير في إطار سياسة الدولة الرامية إلى رقمنة الإدارات والهيئات، تعمل وزارة الثقافة والفنون، على مشروع نظام المعلومات الجغرافي لقطاع الثقافة، سيمكّن من إدارة المرافق الثقافية والتراثية والأثرية عبر بوابة جغرافية، وسيسمح أيضا بجرد ورقمنة
كل المواقع ذات الصلة، قصد تصميم وتطوير نظام المعلومات الجغرافي للبنى التحتية الثقافية والمعالم التاريخية والمواقع الأثرية والقطاعات المحفوظة والحظائر الثقافية، ما يعزّز القدرة على صون وحماية التراث الثقافي. في هذا الصدد، أشارت وزيرة الثقافة والفنون صورية مولوجي إلى أن هذه الخطوة يؤكّد الالتزام بحماية التراث الثقافي أولا، وانتهاج كل السبل التي تمكّن من تثمين التراث الجزائري في المشهد الثقافي الإنساني.
وفي إطار جهود الدولة للمحافظة على "الحرف والتقاليد العتيقة التي ترمز للجزائر وثقافتها وهويتها وتاريخها، كونها دليلا هوياتيا، وحاملا للذاكرة والعادات والتقاليد"، سجّلت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، مؤخرا، ملف "النقش على المعادن: الذهب، الفضة النحاس، المهارات والفنون والممارسات"، في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية، باسم الجزائر، و9 بلدان عربية أخرى، في انتظار دراسة ملف "الزي النسوي الاحتفالي للشرق الجزائري الكبير: معارف ومهارات متعلقة بخياطة وصناعة حلي التزيين: القندورة والملحفة"، في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، لليونسكو، وذلك خلال الموعد السنوي المحدد من طرف منظمة اليونسكو في 31 مارس من كل سنة.
في نفس السياق، وتطبيقا لتوجيهاته القاضية بضرورة تعزيز حماية التراث الثقافي الوطني وصون الذاكرة الجماعية والسهر على استرجاع الممتلكات الثقافية المتواجدة في الخارج، بغية حفظها وتثمينها، استردت الجزائر، قطعة أثرية ذات قيمة تاريخية كبيرة تتمثّل في سيف الأمير عبد القادر، الذي كان مبرمجا للبيع في المزاد العلني بباريس (فرنسا)، وتم اقتناؤه يوم 8 أكتوبر الفارط من طرف مصالح السفارة الجزائرية. ويبلغ طول هذا السيف الأثري 107 سم وهو مصنوع من مادة الفضة، به غمد خشبي مغطى بالفضة مزخرفة بلفائف أوراق الشجر ومزود بسوار بحلقتين معلقتين بسلسلة، وهو مؤرخ في الفترة الممتدة ما بين 1808 إلى 1883.
وضمن التدابير الموضوعة للحدّ من محاولات بعض الدول الأجنبية نسب التراث الجزائري المادي وغير المادي إليها. سيتمّ إنشاء المركز التفسيري ذي الطابع المتحفي للشعر الشعبي وفنون أداء التعابير الفلكلورية التقليدية ببشار، والمركز التفسيري ذي الطابع المتحفي للمهارات والتقاليد الشعبية المرتبطة بمنطقة أولاد نايل، ليضافا إلى المركز التفسيري ذي الطابع المتحفي للباس التقليدي الجزائري بتلمسان.
وقفة للتقدير والتقييم
الجزائر وهي تحتفل بستة عقود من استرجاع السيادة الوطنية، أرادت أن يكون احتفالها تثمينا للإنجازات التي حقّقتها الجزائر طيلة ستين سنة من الحرية، مثمنة رمزية العرفان والاعتزاز بتاريخ بلد المليون ونصف المليون شهيد، خاصة مع تجديد رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، التزامه برعاية التاريخ والذاكرة الوطنية، حيث ما انفك يشدّد في شتى خرجاته الإعلامية على أنّ هذا المسعى "واجب وطني يمليه الوفاء لنضال وكفاح الشهداء الأبرار".
في سياق هذه النظرة التي وضع معالمها السيد الرئيس، وارتكزت على التقدير والإجلال للمجاهدين كونهم صنعوا إلى جانب الشهداء ملحمة ثورية خالدة يتردد صداها في كل أصقاع الدنيا، كانت ستينية استرجاع السيادة الوطنية التي أسدلت ستارها في جويلية الماضي، بعد عام من الاحتفالات والتخليدات، فاسحة المجال للذكرى الواحدة والستين بشعار "جزائر الانتصارات.. مكاسب وإنجازات"، سانحة للانحناء بفخر واعتزاز أمام نضال مجاهدين انتزعوا الاستقلال وأصبحوا في ذاكرة الشعب أبطالا، وهبوا حياتهم للوطن فأصبحوا الذاكرة التي تحمل الكرامة والبطولة، فهم "حرّاس لأمانة الشهداء ورسالة نوفمبر الخالدة" مثلما أكّد عليه الرئيس تبون، ومن الضروري تعهّدهم بما يستحقون من عناية وتكريم في جزائر تتجه نحو تكريس ثقافة العرفان وتمتين اللحمة الوطنية وتقوية وتحصين الجبهة الداخلية في عالم مفتوح على الاضطراب".