الذكرى الـ64 لاندلاع ثورة نوفمبر

راية الإنجازات ترفرف فوق أرض الشهداء

راية الإنجازات ترفرف فوق أرض الشهداء
  • 5947
❊  مليكة خ ❊ مليكة خ

يحتفل الشعب الجزائري اليوم، بالذكرى الـ64 للثورة  التحريرية المظفّرة التي ضحى من أجلها أكثر من مليون  ونصف مليون شهيد، أبوا إلا أن ترفع راية الجزائر الحرّة و المستقلة عاليا بعد كفاح مرير أضحى نموذجا في التاريخ الحديث، حيث ما زالت الدماء التي ارتوت بها أرض الوطن تروي معجزات صنعتها مختلف فئات الشعب التي ضحت بكل ما لديها من أجل الدفاع عن عدالة القضية التي انتهت بتحقيق الاستقلال المنشود.. ويتزامن استحضار هذه الذكرى مع جملة الإنجازات المحققة على مختلف الأصعدة والميادين رغم مرحلة العشرية الصعبة التي مرت بها البلاد، إذ وعلى الرغم من مرارتها إلا أنها عزّزت فيما بعد التلاحم الاجتماعي، بفضل الالتفاف حول قيم المصالحة الوطنية ومبادئ بيان أول نوفمبر الذي مازال مصدر إلهام لسياسات البلاد.

فبعد مرور 64 سنة عن إعلان الثورة التي أفضت إلى الاستقلال، نجحت الجزائر في خوض الجهاد الأكبر رغم المصاعب الجمّة التي اعترتها في البداية لاسيما في مجال نقص التسيير وقلّة الكفاءات، غير أن ذلك لم يمنعها من مواجهة التحديات بثبات من خلال تحقيق إنجازات جد إيجابية بأبعد نقطة في البلاد وعلى جميع الأصعدة والميادين والقطاعات كالتعليم والصحة.

وإذا كانت العشرية السوداء قد عطّلت المسيرة التنموية في فترة معينة من التاريخ السياسي للبلاد، إلا أنها نجحت في تدارك الوقت الضائع من خلال إنجازات محققة أعادت الجزائر من بعيد ووضعتها أمام تحديات جديدة، على غرار مواصلة التقدم والتطور في ظل انهيار أسعار النّفط والبحث عن بدائل حقيقية من خلال تبنّي الاقتصاد المنتج، خاصة وأن الجزائر لها كل الإمكانيات لكسب مختلف الرهانات.

فقد عرف قطاع السكن نقلة نوعية بعد عزم الحكومة القضاء على كل مظاهر الصفيح نهائيا لأجل الإعلان عن مدينة الجزائر أول عاصمة إفريقية دون قصدير، مما يعد خطوة إيجابية في مجال تحقيق أهداف التنمية المستدامة في آفاق 2030، لتكون الجزائر قد حققت قبل الآجال المحددة بـ15سنة الأهداف المسطرة من طرف الأمم المتحدة في هذا المجال. 

وعرف قطاع السكن بالجزائر عدة مراحل تطورية من حيث النوع والكم، ففي سنة 1999 شهد القطاع انطلاق انتعاش حقيقي تميز بتحسين عرض السكنات الذي تعزز بمناسبة إعداد المخطط الخماسي 2005-2009، والذي يهدف إلى إنجاز مليون وحدة سكنية، فيما عكفت الدولة خلال السنوات الأخيرة على إنعاش قطاع السكن والعمران من خلال رفع إنتاج السكنات وتنويع الطلب وجهود القضاء على السكن الهش من خلال نظام مؤسساتي كامل.

كما عرف قطاع النقل على المستوى البري والبحري قفزة نوعية لضمان تنقل أفضل  للمواطنين، حيث سمح النقل البحري بتقريب المسافات بين الولايات الساحلية بعيدا عن زحمة السير، كما توسعت شبكة النقل بالسكك الحديدية وكذا الترامواي الذي استفادت منه عدة ولايات على غرار العاصمة، قسنطينة ووهران، علاوة على شبكة المترو التي كانت بمثابة حلم للجزائريين.

وشهد قطاع الفلاحة بدوره، إجراءات مكثفة من خلال خطط وسياسات ترمي كلها لدفع القطاع للعب دوره المنوط في الاقتصاد الوطني. ولعل أهم ما ميّز فتح أفاق جديدة للقطاع الفلاحي هو دفع الشباب نحو الاستثمار في القطاع، من خلال قروض من دون فوائد ومسح ديون الفلاحين وامتيازات عقود النجاعة، إلى جانب توسيع المساحات المسقية وإعداد برنامج طموح للصناعات التحويلية للمنتوجات الصناعية.

كما تعرف الجزائر مشاريع صناعية هامة من خلال استحداث أقطاب ومناطق صناعية ضخمة من شأنها الدفع بالقطاع وتوفير مناصب شغل، وكذا الرفع من الناتج الداخلي الخام وتنويعه، مع ترقية السياسات القائمة على نجاعة ومردودية القطاع وترسيخها في الاقتصاد العالمي، وهذا بفضل إستراتيجية وطنية طموحة ترتكز على التأهيل الصناعي و إنشاء أقطاب صناعية عبر عدة مناطق من التراب الوطني. 

ولابد من الإشارة هنا إلى المصانع التي شيّدت بالجزائر في ظروف اقتصادية حرجة بعد تراجع مداخيل النّفط، وهي تلك الخاصة بإنتاج وتركيب السيارات لماركات عالمية قصد التخفيف من فاتورة الاستيراد وكذا توفير مناصب شغل، فضلا عن توفير العملة الصعبة من خلال التصدير نحو البلدان الإفريقية.

ومن أهم القطاعات التي تولي لها الدولة الجزائرية أهمية كبرى نذكر قطاع التربية والتعليم، حيث قامت ببناء هياكل ومؤسسات تعليمية عبر كل ولايات الوطن وحتى المناطق النائية منها، إلى جانب فرض مجانية التعليم على مستوى كل الأطوار بعدما كانت الأمية تغطي الأكثرية الساحقة خاصة إبان الاستعمار الفرنسي، و نجحت في القضاء بشكل شبه كلي على مظاهر الجهل والأمية. ويعد تشييد المسجد الأعظم الذي يطل على خليج الجزائر أكبر إنجاز عرفته البلاد كونه يعد الأكبر على المستوى الإفريقي والثالث في العالم بعد مكة والمدينة، كما أن به أطول مئذنة في العالم بارتفاع يفوق 300 متر و يضم المسجد 12 بناية منفصلة، ومن معالمه المميزة وجود مئذنة ستكون أيضا منارة للسفن يصل  ارتفاعها إلى265 م.

الاستلهام من قيم نوفمبر

وكان لزاما أن نتوقف عند هذه الإنجازات خلال هذه المناسبة العظيمة رغم النقائص التي مازالت تعتري المسيرة التنموية، مما يتطلب الاستلهام من قيم نوفمبر التي تحمل بعدا استشرافيا لمواصلة رسالة الشهداء .. ولا يسعنا الا التعريج على محطات الثورة التحريرية من باب تذكير جيل اليوم بنضال السلف.

فقد تم وضع اللمسات الأخيرة للتحضير لاندلاع الثورة التحريرية في اجتماعي 10 و24 أكتوبر 1954 بالجزائر من طرف لجنة الستة، حيث ناقش المجتمعون قضايا هامة هي  إعطاء تسمية للتنظيم الذي كانوا بصدد الإعلان عنه ليحل محل اللجنة الثورية للوحدة والعمل ، ليتفق المجتمعون على إنشاء جبهة التحرير الوطني وجناحها العسكري المتمثل في جيش التحرير الوطني.

وتهدف المهمة الأولى للجبهة في الاتصال بجميع التيارات السياسية المكونة للحركة الوطنية قصد حثها على الالتحاق بمسيرة الثورة. وتجنيد الجماهير للمعركة الحاسمة ضد المستعمر الفرنسي وتحديد تاريخ اندلاع الثورة التحريرية.

وكانت بداية الثورة بمشاركة 1200 مجاهد على المستوى الوطني وبحوزتهم 400 قطعة سلاح وبضعة قنابل تقليدية فقط، وكانت الهجومات تستهدف مراكز الدرك والثكنات العسكرية ومخازن الأسلحة ومصالح إستراتيجية أخرى، بالإضافة إلى الممتلكات التي استحوذ عليها الكولون.

وشملت هجومات المجاهدين عدة مناطق من الوطن واستهدفت عدة مدن وقرى و قدرت حصيلة العمليات المسلّحة ضد المصالح الفرنسية عبر كل مناطق الجزائر ليلة أول نوفمبر 1954 ثلاثين عملية خلّفت مقتل 10 فرنسيين وعملاء مع جرح 23 آخرين علاوة على خسائر مادية تقدر بالمئات من الملايين من الفرنكات الفرنسية.

وسبق العمل المسلّح الإعلان عن ميلاد جبهة التحرير الوطني التي أصدرت أول تصريح رسمي لها عرف بـ«بيان أول نوفمبر"، وقد وجهت هذا النداء إلى الشعب الجزائري مساء 31 أكتوبر 1954 ووزعته صباح أول نوفمبر، حددت فيه الثورة مبادئها ووسائلها كما رسمت أهدافها المتمثلة في الحرية والاستقلال، ووضع أسس إعادة بناء الدولة الجزائرية والقضاء على النظام الاستعماري، ويعتبر بيان أول نوفمبر 1954 بمثابة دستور الثورة ومرجعها الأول الذي اهتدى إليه قادة ثورة التحرير وسارت على دربه الأجيال.

ولم يكن سهلا القضاء على ثورة أول نوفمبر، على الرغم من الأوضاع الصعبة التي انطلقت فيها الثورة مثل ندرة الأسلحة وعمليات التمشيط وصعوبة الاتصالات ومحاولة كل منطقة أن تقود الجماهير الشعبية حسب ظروفها، إلى جانب  مساندة المجاهدين بجميع الأسلحة، كما حاول المسؤولون في الخارج إظهار صورة الجزائر المقاومة وعملوا على تزويدها بالأسلحة.

وتدعمت صفوف جبهة التحرير الوطني بانضمام الطلبة والعمال، حيث قام الاتحاد العام للعمال الجزائريين في 1956 بعدة إضرابات وطنية مساندة لجبهة التحرير، كما نظم الطلبة في 1956 نصف شهر تضامني ضد القهر والاضطهاد.

وابتداء من مارس 1956 كان من الضروري إيجاد تنسيق شامل بين مختلف قيادات المناطق من أجل وضع منهج استراتيجي موحد وقيادة سياسية وعسكرية وطنية، حيث تجسد هذا المنهج بإنشاء المنطقة الثانية ومنطقة الجزائر بقيادة زيغود يوسف وعبان رمضان، كما عقد اجتماع باسم مؤتمر الصومام في 1956، حيث اتخذت خلاله عدة قرارات مهمة.

ولقد استعمل الجيش الفرنسي أعنف الوسائل كالاعتقال وتحطيم المحلات التجارية والتعذيب والاغتيالات من أجل كسر وتعطيل الإضراب والوقوف في وجه الفدائيين. و في عام 1959 كلف الجنرال  ديغول، بتقليص مقاومة مجاهدي الداخل عبر مخطط شال بمختلف عملياته، وكانت  تلك التي تمت ضد منطقتي القبائل والأوراس من أكثر المخططات وحشية.

في 1960 تشكلت قيادة الأركان برئاسة هواري بومدين، وكانت تهدف إلى مواجهة الخطوط المكهربة للسدود والهجوم على المراكز الفرنسية وفتح ثغرات تسمح لوحدات صغيرة بالمرور عبرها، مما تطلب إعادة تنظيم جيش الحدود على شكل فيالق وكتائب قتالية خفيفة مسلّحة، وإنشاء عدة مراكز للتدريب وفتح جبهات جديدة في أقصى الجنوب الشرقي مع ليبيا ومالي، وبذلك أصبح جيش الحدود جيشا تقليديا مما اضطر القوات الفرنسية إلى التمركز على الحدود وبالتالي التخفيف عن ولايات الداخل.

إن المقاومة المستمرة للشعب الجزائري وصمود المجاهدين وإخفاق الحملات العسكرية الاستعمارية، وإخفاق جميع الإجراءات السياسية الفرنسية وتعاطف عدد كبير من البلدان مع الجزائر، كانت كلها العوامل الأساسية التي مهدت الطريق لإجراء مفاوضات بين الجزائر وفرنسا.

ومع مجيء ديغول، أصبحت هذه المفاوضات جدية بعد أن أخفق الأخير في تطبيق سياسته المسماة "سلم الشجعان" التي حاول بواسطتها الاتصال بالمسؤولين المحليين لجبهة التحرير الوطني، إلى جانب إخفاق "خطة شال" العسكرية أو ما يسمى بخطة قسنطينة.

وعبّر الرئيس بن خدة، من جهته عن موافقته على إجراء المفاوضات في إطار الاستقلال. وانتهت المفاوضات بإبرام اتفاقية ايفيان في 1962 والتوقيع عليها من طرف كريم بلقاسم، رئيس الوفد المفاوض، وفي اليوم التالي أعلن الرئيس بن خدة، وقف القتال وهكذا تمكن الجزائريون من نيل استقلالهم.