شهادة حية عن طفولة الشهيدة «فضيلة سعدان»

- 5986

أزيد من سبعين عاما وأنا محملة بتفاصيل صديقة طفولتي، وإن هزمني الزمن بتجاعيده، غير أنه لم يستطع أن يهزم ما نقش في ذاكرة القلب والروح عن هذه الطفلة المتميزة.
تعرفت على الطفلة فضيلة سعدان في صباي المبكر عندما أدخلني والدي إلى المدرسة الابتدائية ببلدية الحروش سنة (1943 ـ 1944)، كان عمرها حينذاك خمس سنوات وكنت أكبرها بعامين. كانت تتميز بالهدوء والانزواء ولا تختلط كثيرا بزميلاتها في القسم، اقتربنا من بعض، وأصبحنا صديقتين وتزاملنا في الصفوف الدراسية إلى غاية 1949.
وكانت إضافة لذكائها وتفوقها في دراستها، فتاة لطيفة وطيبة ومتواضعة وملكت الحسنيين: جمال الوجه وجمال الروح. درسنا في «القاعة الوردية» كما كانت تسمى، لأن المجمع الدراسي الذي أصبح حاليا «ثانوية زيغود يوسف»، كان قيد الإنشاء ولم تنته الأشغال به إلا سنة 1951.
كانت فضيلة سعدان شديدة الوعي بما يحدث في وطننا من أحداث وخصوصا آثار الاحتلال على الشعب الجزائري، فكانت تكره الظلم وتحمل في جيناتها الروح النضالية والثورية منذ صغرها، ولطالما حدثتني عن غضبها من احتلال المستعمر لأرض جزائرنا. أما أنا فكنت لا أجرؤ على التحدث مثلها، لكن كنت أصغي إليها وأدرك في أعماقي هذا الظلم الجاثم على أرضنا وطفولتنا، وأحيانا كنت أزورها في منزلها للعب سوية وقراءة قصص الأطفال التي كانت تملك منها الكثير... كنا نتشارك في اللعب والأسرار.
في إحدى العطل المدرسية، زرت بيت جدتي وهناك تحدثت إلى خالتي (بوقلعة زكية) التي كانت صديقة مقربة لمريم سعدان الأخت الكبرى لفضيلة سعدان، كانت خالتي زكية ومريم معا في نفس القسم الذي تدرس فيه السيدة بروجيرار (brugerare)، ولأنهما لا تنفصلان عن بعضهما البعض، أطلقت عليهما لقب «العنزتان الحميمتان» على سبيل المزاح.
تحدثت إلى خالتي عما تخبرني به فضيلة سعدان وعن ثورتها واستيائها من المحتل، ولم تندهش بمكاشفتي لأن عائلة سعدان عائلة مناضلة حتى النخاع، فوالد فضيلة ومريم كان مناضلا ورجلا ثوريا وقد استشهد إثر جروحه جراء تعذيبه في أحد السجون الفرنسية في ذلك الوقت.
نظرت إلى خالتي وقالت لي سأخبرك بسر: «ألم تلاحظي ذلك الصندوق الكبير الموجود في بيت مريم وفضيلة؟» فأجبتها «أذكر أنه في مرة من المرات أخرجت فضيلة قصة من ذلك الصندوق لنقرأها عن الأميرة والتنين».
وواصلت تروي قصة الصندوق:«في مظاهرات الثامن ماي 1945 رفع المجاهد شريف بوقدوم علم الجزائر احتفالا كغيره من أبناء جيله بأن الاستعمار الفرنسي سيفي بوعده بمنح الحكم الذاتي للجزائر فور تحقيق النصر على النازية، ولكن المستعمر نكث بوعده وتحولت الاحتفالات إلى مجازر دامية وطارده العسكر. هرب شريف بوقدوم طلبا للنجاة وتوجه إلى عائلة سعدان وخبأ علم الجزائر عندهم في ذلك الصندوق الخشبي الكبير المليء بالكتب وأغراض أخرى».
وبعدها قرأت لي خالتي مجموعة رسائل كانت تكتبها لها صديقتها مريم أثناء دراستها بقسنطينة، كانت رسائل جميلة تحتوي على يومياتها وبعض الأشعار الجميلة من بينها:
ككل سنة، يعود طائر السنونو إلى عشه
وتظل زكية صديقتي
المستقبل ليس ملكا لأحد
المستقبل بين يدي الله
عندما يحين الوقت صديقتي
سأقول لك نلتقي عند الله
أتمت فضيلة سعدان تعليمها الابتدائي والإعدادي بالحروش وانتقلت للدراسة بقسنطينة، في حين لم أكمل مشواري الدراسي، ولكنني درست وحصلت على شهادة الابتدائي.
وفي سنة 1956 قرأت في جريدة
«la Dépêche de Constantine» خبر توقيف فضيلة سعدان وسجنها بسجن الكدية في قسنطينة، بعد إضراب الطلبة الجزائريين سنة 1956 بتهمة التحريض على الإضراب في ثانويتها.