حزين لرحيل "البريطانية" وليس لاختفاء "طحالب الصحف"

العربي ونوغي العربي ونوغي

أنا شديد الحزن لتوقف بعض الجرائد عن الصدور تباعا، وأحيانا في يوم واحد، ليس في بلادنا فقط، ولكن في أنحاء عديدة من العالم.

صعب على أي صحفي يلتصق بالقلم ويعشق صيد الأخبار أن لا يوجعه توقف جريدة ما عن الصدور مهما كان سحبها أو توجهها أو حتى بلدها!؟. إلا إذا لم تكن الصحافة جزءا منه، هواؤه وحياته لأن الكثيرين ممن يتعاطون هذه المهنة المتعبة يركبونها ويمارسونها لأسباب وبدوافع مختلفة، سواء من باب الهواية والاحتراف كما سلف الذكر، أو من باب "الخبزة"، أو من باب الجمعيات الخيرية ودار اليتامى، أو بأهداف وحسابات سياسية وكذا بأهداف المحاصيل الإشهارية. لكن لن نحزن لاختفاء كل الصحف، إذ علينا أن نفصل بين من يستحق الرثاء وتلك التي كان يجب أن تختفي من باب تطهير الساحة من طحالب الصحف التي ملأت الدنيا طنينا وجعجعة ولم نر لها طحينا.

توقفت أمس الأول صحيفة "لانديباندت" البريطانية عن الصدور وخرجت من الورق إلى الرقمنة. والخميس الماضي توقفت أشهر صحيفتين لبنانيتين عن الصدور: "النهار" و«السفير". وتوقفت صحف أخرى في أمريكا وإفريقيا وأستراليا بدافع تراجع مقروئيتها أو مداخيلها الإشهارية أو لاختلاف على "الشكارة" كما يحدث أحيانا عندنا. في الجزائر توقفت عديد الصحف الخاصة، وأخرى تعاني الاحتضار والمحاولات الأخيرة مع البقاء لأنها لم تعد تكفل مداخيل الاستمرار. 

خلاصة القول إن الصحافة الورقية تواجه ثلاثة تحديات كبرى تهددها بالاختفاء نهائيا: 

1 – الأزمة الاقتصادية التي انعكست آثارها على الجميع.

2 – ثورة الاتصالات التكنولوجية التي تجاوزت أقلام الحبر والرصاص وقضت على صحافة الورق كالأنترنت والرقمنة والنقال والفضائيات والإذاعات التي لم تعد تسمح بانتظار ما تنشره الصحف في اليوم الموالي. 

3 – الابتذال والاجترار الناجم عن تدهور المستوى والمؤدي إلى الانحراف والابتعاد عن الاحترافية أو السقوط في سلطة المال وشرنقة السياسة، وهذا أمر نفر القراء من صحفهم ومنشوراتهم. 

هذه أسباب موضوعية لاختفاء بعض الجرائد الورقية ذات الشهرة والأقل شهرة في عديد الدول. لكن في المقابل، كل الجرائد التي اختفت في بريطانيا وأوروبا ولبنان وغيرها من البلدان لا تتستر على مداخيلها أي لا تتهرب من الضرائب، ولا يوجد عامل واحد غير مصرح به. لكن في بلادنا صحفيون ومستخدمون قضوا سنوات بدون تأمين أوتصريح لدى الضمان الاجتماعي. لا يتمتعون بأدنى وأبسط حقوقهم المهنية. وأحيانا الإنسانية من كرامة واحترام وحسن معاملة. هذا واقع مر. التهرب الضريبي حدث ولا حرج. إن منطق "شعيب لخديم" على حد تعبير المرحوم علولة سائد في الصحافة الخاصة والعمومية، حتى وإن كانت هذه الأخيرة أقل جورا وظلما واستغلالا. لكن مع ذلك هناك مظلومون في الصحف ووسائل الإعلام العمومية أيضا. 

لذلك حين تتوقف صحف مثل "لانديبندت" البريطانية والسفير والنهار اللبنانيتين فإن صحافييها ومستخدميها من حقهم أن يحزنوا على مناصب وحقوق ستضيع. لكن في حالة بعض الصحف القائمة على الاستغلال والربح على حساب حقوق صحافييها ومستخدميها، فغلقها غير مأسوف عليه، بل إنها إزالة طبيعية لأعشاب طفيلية وغلق لباب أو منبر من منابر الاستغلال والربح غير المشروع على حساب صحافييها وعمالها ومعاناتهم وعرقهم وحتى متاعبهم مع المتابعات القضائية، بل وسجنهم لأنهم كانوا يكتبون تحت الطلب بأوامر أصحاب الجرائد ويقبلون منصاعين حفاظا على خبزهم الأسود، ثم إذا سقطوا رهائن القذف وجدوا أنفسهم يجابهون أروقة العدالة بدون حماية من دفعهم إلى الكتابة من زاوية الإثارة.

إذن الفرق شاسع بين اختفاء صحف وصحف. من تترك فراغا في الساحة الإعلامية، وحزنا لدى قرائها وصحافييها بسبب اختفائها، ومن تقدم خدمة للجميع باختفائها لأنها "أكلت عرق صحافييها وعمالها" وجوعتهم لتملأ جيوب مالكيها بالسحت وأكل الحقوق.