جمال شرفي الخبير الدولي في الهندسة المعمارية ضيف «منتدى المساء»:

«السرطان العمراني» في توسع والحل يبدأ من الإحصاء الإجباري

«السرطان العمراني» في توسع والحل يبدأ من الإحصاء الإجباري
  • 8214
ر.كعبوب ر.كعبوب

تحدّث الخبير الدولي في الهندسة المعمارية، جمال شرفي، ضيف «منتدى المساء» عن واقع التعمير والمعمار وهندسة المدن ببلادنا، التي وصفها بـ«الكارثية» كونها خرجت عن مجال المراقبة، منذ أن تم التخلي عن شرطة البلدية، مؤكّدا أنّ رسالة رئيس الجمهورية في 2006، اختصرت كلّ الأسباب ووضعت اليد على الجرح، ولا توجد لدينا اليوم هوية عمرانية ومعمارية وبصمة جزائرية خالصة في هذا المجال، المرتبط بتاريخ وحضارة الأمة وتراثها المادي، مثلما هو الحال في الدول الأخرى، وأقربها الجارة، سواء في النمط المعماري القديم أو الحديث، وشرح ضيف «المساء» وهو رئيس المجلس الوطني لعمادة المهندسين الجزائريين سابقا، والرئيس الحالي للمجلس العربي الأعلى للتعمير والمعمار وتطوير المدن، الأسباب التي زادت في تدهور الإطار المبني وظهور ما أسماه بـ«السرطان العمراني» بكامل التراب الوطني، الذي لم تجد إزاءه الدولة حلا ودواء ناجعا، رغم تمديد قوانين تسوية وضعية البنايات ومطابقتها، مما ساهم بقسط كبير في تردي الإطار المعيشي.

ولحل هذه الوضعية، أكّد الخبير الدولي أنّه لابدّ أولا وقبل كلّ شيء من إجراء «إحصاء عقاري إجباري» لمعرفة كلّ التفاصيل والأرقام حول الإطار المبني، ليتم بعدها اتّخاذ الإجراءات المناسبة، كما دافع الخبير شرفي، من جهة أخرى عن مهنة المهندس المعماري، الذي صار اليوم -حسبه- رقما في أجندة المقاول، وليس محرّكا في قاطرة العملية التعميرية والعمرانية، وهذه الوضعية هي من أسباب استمرار «الكوارث العمرانية» التي تزيد الطينة بلة، كما دافع في حديثه عن أصحاب هذه المهنة النبيلة مشيرا إلى أنّ للجزائر كفاءات علمية وتقنية عالية مشهود لها في هذا الميدان، لكنها غير مستغلة محليا، حيث يتم تفضيل الخبرة الأجنبية.


اعتبر أنّ الفوضى يصعب استئصالها، شرفي:

المواطن «تغوّل» على سلطة الدولة

يختصر الخبير في الهندسة المعمارية، جمال شرفي، أسباب ما أسماه  بـ«سرطان العمران» في بلادنا، في نقطتين أساسيتين، الأولى تتعلق بغياب سلطة الرقابة في الميدان، وأهمها زوال شرطة البلدية التي كانت إرثا استعماريا تضاف إلى الإطار المبني، حيث كان لها دور محوري في الحفاظ على الإطار المبني وغير المبني بالمدينة، وكان لرئيس البلدية حينها السلطة والصلاحيات الكاملة في اتخاذ القرارات والإجراءات الصارمة في مختلف الأمور، وكان باستطاعته حتى أن بنفي أي مواطن من إقليم بلديته، عندما لا يحترم النظام العام، ويدخله حتى السجن، إذا تعدى على قوانين الجمهورية، ومنها المتعلقة بالبناء والتعمير.

لكن هذا الدور –يقول محدثنا- اضمحل منذ سبعينيات القرن الماضي، وتخلينا عن هذه الطريقة، مما جعل المواطن «يتغوّل» على سلطة الدولة، بالتعدي على القوانين ومنها استنزاف الاحتياطات العقارية بالمدن، مشيرا في هذا الصدد إلى أن التعاونيات العقارية ساهمت بقسط كبير في هذه الوضعية، حيث استنزفت أهم وأحسن الأوعية العقارية بالمدن، ولم تجد الدولة من حل إلا تكليف مفتشي التعمير، للقيام بمراقبة عمليات البناء والتعمير، وكان دورهم هزيلا، بسبب قلة عددهم، مقارنة بالفضاءات المبنية، وكانت النتيجة، هو غياب البديل، مثلما هو الحال بولاية الجزائر، حيث لم تجد الدولة أراضي لتجسيد المشاريع السكنية والتجهيزات العمومية، لمواجهة الاحتياجات وتطهير ما بقي من الجيوب من الصفيح الذي كان يشكل قرابة المليوني نسمة. 

في سياق متصل، وصف ضيف «المساء» الخبير جمال شرفي قانون مطابقة البنايات والتسوية العقارية، الذي تم تطبيقه منذ أوت 2008، وتم تمديده مرتين بأنه «قانون فاشل»، ولن يؤتي ثماره، لأنّ انتشار رقعة الإطار المبني بشكل رهيب منذ عقود، جعل الحل مستحيلا في هذا الظرف، وقال محدثنا أن قانون (08/15) المؤرخ في20 جويلية 2008 المتعلق بقواعد مطابقة البنايات وإتمام إنجازها، جاء بعد سنوات من الإهمال والفوضى من أجل «تسوية فوضى العمران»، كحل ترقيعي، وليس جذري.

كما وصف شرفي هذا القانون بأنّ في ظاهره رحمة وفي باطنه عذاب شديد، مشيرا إلى أن هذا القانون الذي سبقته تعليمة في 1986 وجهت للبلديات تنص على تسوية فوضى البنايات أيضا، تم لحد الآن تمديده للمرة الثانية، فبعد انقضاء المدة القانونية الأولى المحددة بـ5 سنوات، كان التمديد الأول في عهد الوزير الأسبق للسكن والتعمير والمدينة، عبد المجيد تبون، من أوت 2013 إلى أوت 2016، لنعيش بعد ذلك مرحلة فراغ، لم تسجل فيها استجابة من طرف المواطنين أصحاب السكنات الفردية، وتم تسجيل عزوف كبير، لم نستطع فهمه، ليتم في عهد الوزير الحالي عبد الوحيد طمار الإعلان عن التمديد الثاني المحدد بأوت 2019. في سياق متصل، يؤكّد ضيف «المساء» أنّ وضعية الإطار المبني المتردي جراء غياب الرقابة واستفحال ظاهرة السطو على الاحتياطات العقارية ومنها الأراضي الفلاحية، ازدادت حدة خلال العشرية السوداء، حينما كانت الدولة تركز على الجانب الأمني، إذ بعد موجة النزوح الريفي نحو المدن، كانت الدولة تركز على الجانب الأمني، وكانت عاجزة على تطبيق قوانين التعمير، ومثال ذلك عاصمة البلاد التي ورثنا بها منذ الاستقلال إرثا معماريا محدودا لا يتعدى 14 بلدية من أصل 57، واستعملت فرنسا في تلك الحقبة العمالة الجزائرية من بنائين في مختلف التخصّصات لتشييد أحياء متناسقة ومدروسة، لكن بعد الاستقلال لم يتم احترام القواعد وأدوات التعمير الموروثة، ولم تكن مسيرة التعمير منذ ذلك الحين تتسم باحترام القواعد، ومنها المخطط التوجيهي للتهيئة والتعمير، وكذا مخطّط شغل الأراضي، وساهمت العشرية السوداء بقسط كبير في هذا التردي التعميري والمعماري، ومثال ذلك العاصمة التي أصبحت حواشيها مثالا حيا لسرطان العمران الفوضوي، والتوسع الأفقي الذي التهم أجود الأراضي الفلاحية بسهل المتيجة، ولم تجد الدولة إزاء ذلك حلا لهذا المشكل الذي تجذّر وصعب استئصاله، إلا بقوانين لمحاولة تسوية الفوضى التي لم تنته إلى حد الآن، رغم التسهيلات التي جاءت بها القوانين.


التجربة الجزائرية في الإسكان نموذج عالمي

أكّد الخبير جمال شرفي، رئيس المجلس الأعلى للتعمير والمعمار وتطوير المدن، أنه استطاع أن يمثل الجزائر في المؤتمر العالمي للإسكان المنعقد بالقاهرة في ديسمبر 2016، التي غاب عنها الممثلون المدعوون من القطاع حينها، وعرض في اللقاء الذي حضره ممثلون عن قطاع السكن من 38 دولة من كافة العالم، وشارك فيه 1400 خبير في الهندسة المعمارية، التجربة الجزائرية الرائدة في عملية الإسكان، والبرامج السكنية الضخمة المخصصة للقضاء على أزمة السكن، حيث كانت الجزائر أنموذجا عالميا في هذا المجال، وقال محدثنا إنه قدم ورقة بحثية حول هذه التجربة كانت محل استقطاب الحضور، حيث تحدث عن المليونيات السكنية والقضاء على ظاهرة الصفيح التي لم تستطع الكثير من الدول التخلص منها.

شرّفت الجزائر ونلت الدرع الذهبي

قال السيد شرفي، إن الورقة البحثية التي قدمها، خلال المؤتمر العالمي للإسكان بالقاهرة في ديسمبر 2016، تصدرت قائمة سبعة بحوث عالمية اختيرت في اللقاء، ونال بها الدرع الذهبي، متقدما على كل الخبراء في المجال، وممثلا الجزائر أحسن تمثيل، وأسر لنا ضيف «المساء» أن هذا البحث تم إعداده بطريقة مستعجلة، لكنه كان الأحسن والأكثر استقطابا من طرف لجنة التحكيم.

مكان المهندس ليس في مؤخرة القاطرة ..

بشأن وضعية المهندس، لم يخف محدثنا أنه في وضعية لا يحسد عليها، وأنه صار في العربة الأخيرة مما وصفه بـ«قطار التعمير» رغم أن مكانه المناسب في مقدمة القاطرة، مفسرا ذلك بكون عملية التعمير التي يشترك فيها، مكتب الدراسات، صاحب العمل، ومقاولة الإنجاز، صار فيها المقاول هو كل شيء، وصار مكتب الدراسات بمهندسيه تابعا و«خماسا» – كما قال- لدى أشخاص ليس لهم علاقة بالبناء والتعمير والقوانين التي تحكمه، وهذه الوضعية هي التي ستؤدي إلى استمرار الوضعية المتردية للإطار المبني، وشبه محدثنا ذلك بالعملية الجراحية التي يكون ضمن طاقمها أشخاص في مهن أخرى ما عدا الطبيب الجراح.


إزالة فوضى العمران تبدأ بالإحصاء الإجباري للعقار

أكّد رئيس المجلس الأعلى للتعمير والمعمار وتطوير المدن، أنّ الفوضى الحاصلة في الإطار المبني بالجزائر، ليس لها في الوقت الحالي حلّ ظاهر، لأنّ كلّ المعطيات المتعلّقة بما هو منجز ليست مدونة، ومسجلة في سجل يحمل كل المعلومات الضرورية. ويرى محدثنا أنه لابد من إرادة سياسية لتفعيل عملية إحصاء إجباري شامل للعقار، على غرار الإحصاءات الأخرى التي تقوم بها الدولة، مثلما هو الحال بما تقوم به الدولة كل عشر سنوات، من إحصاء إجباري للسكان، ومن أجل تحقيق ذلك يمكن للدولة أن تجند إطاراتها لتجسيد هذا الإحصاء لجمع كل المعلومات الحقيقية عما هو منجز والخروج ببطاقية وطنية، يتم على ضوئها سن قوانين جديدة واتخاذ إجراءات، من شأنها وضع حد للفوضى المستمرة، ولم ينف الخبير شرفي أن هذا الإجراء، لو يطبق سيكشف «المستور» من التجاوزات الحاصلة في هذا القطاع، ويضع اليد على الجرح.


شخّص فيها الداء ووصف الدواء

رسالة الرئيس في 2006 أحسن تشريح لواقع التعمير

في رده على سؤال يتعلق برأيه في واقع التعمير والعمران والمدينة، ذكر ضيف «فوروم المساء» أن أحسن تعليق ووصف وتشريح لواقع هذا القطاع في بلادنا، هو ما حملته رسالة رئيس الجمهورية، السيد عبد العزيز بوتفليقة، التي بعث بها للمشاركين في الجلسات الوطنية للهندسة المعمارية في ديسمبر 2006، حيث تحدّث حينها بالتفصيل والتدقيق عن الداء الذي ينخر هذا القطاع الحساس، ووصفه بـ«مؤسف جدا «، وأنه «قد بلغ السيل الزبى»، حيث ذكر الرئيس لإطارات القطاع والعاملين فيه، أنّ المدن الجزائرية منذ الاستقلال عانت ويلات التعمير الفوضوي، ووصفت الوضعية بأنها صورة للفوضى واللاتناسق والإهمال، وغياب التنسيق ونقص الإبداع، فضلا عن التداخل في المسؤوليات، وقدّم حينها نصائح بشأن حالة «الاستعجال» التي كانت مفروضة من أجل تلبية حاجيات الناس وطلباتهم المتزايدة، والتي قال بشأنها إنه يكفينا أن نقتدي بما يفعله جيراننا وأشقاؤنا، وشدد حينها على ضرورة التطبيق الدقيق والصارم للقوانين التي، تؤطر التشييد والبناء، وأنه لابد من الخروج من الروتين والارتجال والشعبوية، وتنبي التجديد والابتكار والتخطيط وطنيا ومحليا، والكف عن العبث بخيرات البلاد وجمالياتها، وما هي في حاجة إليه من الإتقان والسرعة في الإنجاز لاستدراك ما فاتنا من فرص وما أضعناه من وقت ثمين كنا نزداد فيه تقهقرا بين بلدان تتدرج فيه تقدما.

ويعتبر محدثنا رسالة الرئيس مرجعا أساسيا وخارطة طريق، مسّت جميع الجوانب والأسباب، وأعطت مفاتيح الحل للمسؤولين في الدولة للالتزام بها لوقف النزيف أولا، والانطلاق في تطبيق رؤية جديدة لهذا القطاع الهام.


مدننا مراقد لا هندسة بها ولا روح

نفى الخبير جمال شرفي أن تكون لدينا مدن حديثة بمواصفات عالمية، وقال إن ما هو موجود عبارة عن مراقد تغيب فيها روح المدينة ومعايير سيكولوجية العمران والتعمير، وهي عبارة عن مراقد، مستدلا، على ذلك، بكون التوسع الأفقي والمدن الجديدة، جاء بطريقة سريعة لتلبية الاحتياجات والقضاء على سكنات الصفيح التي شوّهت حواشي العاصمة وجيوبها الحضرية، وأنها بذلك بعيدة عن مواصفات المدن التي تتوفر على كل ضروريات الحياة وتكون فيها الأمور مدروسة حتى من حيث طبيعة القاطنين بها. وأشار إلى أن عمليات الإسكان التي تقوم بها الدولة ورغم إيجابياتها، خاصة تلك المبرمجة تحت طائلة «البرنامج الاستعجالي»، تسير وفق أطر فوضوية غير مدروسة، وأنتجت بيئة سلبية ومناخا غير مريح للساكنة، ومنها تلك العصبيات التي ظهرت هنا وهناك بمدننا الجديدة، بسبب شجارات بين أبناء الأحياء، والتي تُعد نتاج عمليات لا تستند إلى قواعد الإسكان، التي تأخذ في الحسبان طبقات ومستويات الساكنة.