جفّف دمعك يا زميلي..
جاءني أمس، صحفي موظف بجريدة خاصة منذ سنوات يبحث عن منصب شغل بجريدة "المساء". سألت الزميل عن أسباب رغبته في مغادرة جريدة يشتغل بها منذ سنوات: هل هناك دوافع ومبررات مقبولة أجبرتك على ذلك؟. الزميل أوضح بأنه لم يعد يتحمّل ضغوط العمل في مؤسسته: أجر لا يلبي أدنى مستلزمات الحياة المعيشية.. ورغم الوعود المتكررة لمالكي الجريدة فإنه غير مؤمّن. ثم تحولت تلك الوعود في الأشهر والأسابيع الأخيرة إلى ما يشبه الإكراه و"الحقرة" بالقول (من لا يريد العمل عليه تقديم استقالته).. ثم تم تقليص الأجر بدعوى تراجع الإشهار والمداخيل.. ثم يواصل الزميل شهادته بالقول: في الأسابيع الأخيرة لم نعد نتلق سوى بعض التسبيقات التي أخجل من ذكرها عن أجر لم يعد مرتبطا بالمدة الزمنية و"الشهرية"!؟. لكن ما أفاض الكأس ـ كما يقول الزميل ـ هو هاجس الندم الذي سكن رأسه وضميره. كيف؟!. أوضح الزميل بأنه كان يكتب ـ كزملائه ـ في تلك الجريدة تحت الطلب. حيث يتقيّد بما تسدى إليه من تعليمات. ويحدد له مسبقا ما يجب كتابته وما لا يجب كتابته. يقول إن صاحب الجريدة كان يلقي كل الأخبار والمواضيع التي يشتم منها "ايجابية " ولو كانت حقيقة وبالملموس في سلّة المهملات مع توبيخ صاحبها على أنّه "يشيّت للنظام". كانوا يطلبون منّا التركيز على السلبيات فقط ولو بتضخيمها وتهويلها... كانوا يقولون لنا أن القرّاء يريدون هذا، وهذه المواضيع هي التي "تبيع الجريدة" !؟. وواصل الزميل أن كثيرا من نظرائه في وسائل إعلام عديدة يعانون من هذا التعسّف والظلم. قلت: لماذا تقبلون هذا ويزجّ بكم في القذف والسب ويدفع بكم إلى العدالة؟!. كان جواب الزميل واضحا وصريحا: قبلنا الذل لأنّنا مجبرون على توفير "خبزة" أبنائنا وعائلاتنا.. إنّه خبز أسود ومر!. لم نجد خيارا آخر، قلت والكرامة ؟. كان جوابه: لا كفر أو كرامة لمن لم يجد خبز أولاده. في هذا الوضع يتساوى الكفر والإيمان. ويتساوى الذل والكرامة... قلت في نفسي صحيح يا زميلي: إن عمر لم يقطع يد السارق في عام المجاعة، وإنّ الشاعر العربي الكبير أحمد فؤاد مطر كان يقول: أئمة في المنابر ظهرا وعند الليل يسكبون الأقداح. هؤلاء "الكولون الجدد" من أرباب مثل هذه الصحف لا تسبقهم إلى المنابر والمساجد.. يعطوننا دروسا عن حرية التعبير وحقوق الإنسان والمساواة... الخ.