رحم الله رمعون.. لقد كان يفكر
حدثني مبدع شاب ألّف كتابا عن أنواع النباتات والأشجار والطيور التي تتميز بها جبال وغابات قالمة وأراد طبعها في إحدى مطابع الشرق الجزائري (مطبعة مشهورة) طلب منه صاحب المطبعة أن يترك القرص المضغوط، ثم يعود بعد شهرين للتفاوض عن كلفة الطبع والتوزيع، وهي مدة حددها صاحب المطبعة للجنة القراءة للاطلاع على المحتوى ودراسة احتمالات النجاح والرواج. بعد شهرين يقول المتحدث إنه عاد تبعا للالتزام السابق وللموعد المحدد، لكن صدمته كانت كبيرة حين تلقّى تحفّظ صاحب المطبعة الذي أرجع له القرص وأخبره بأن كتابه "غير صالح للنشر"؟! وسيكون خسارة لصاحبه وللمطبعة إذا طُبع، ثم نصحه بكتابة شيء آخر "يباع"؟ يقول صاحب الكتاب الذي يوضح أنه استغرق منه قرابة خمس سنوات في الجمع والمعاينة والتدقيق في الأنواع والأسماء... إنه سأل صاحب المطبعة عن أنواع الكتابات والكتب الرائجة أو المربحة أي التي يفضل طبعها، فكانت صدمته أكبر حين أجابه صاحب المطبعة: فنون الأكل والطبخ مثلا.. وقصص الأطفال كلونجة بنت الغول وعويشة والحراز... أو الكتب الدينية كـ "عذاب القبر"... فأدرك صاحبي أن عذابه ومتاعبه وجهوده التي استمرت خمس سنوات في الجبال بحثا وتدقيقا في أنواع النباتات والأشجار، كانت مجرد مضيعة للوقت ولا تساوي شيئا أمام كتاب "لونجة بنت الغول" أو "عذاب القبر"!؟
لذلك فلا غرابة أن تستمع لـ "غناي" ولا أقول فنانا، وهو يؤكد في حوار لصحيفة أو في حوار تلفزيوني أو إذاعي، أن الأغنية من كلماته وألحانه وكتبها بنفسه "أمس"؛ أي في يوم وليلة (مع احترامنا لأغنية وردة)! أو ما يتفاخر به بعض المنتجين على أن الفيلم أو السكاتش لم يستغرق منهم أكثر من أسبوع!
مؤسف وضع الإبداع والمبدعين!؟ وأين نحن من إلياذة مفدي الجزائر، ومقدمة ابن خلدون وإبداعات شكسبير أو ابن المقفع أو لامارتين أو العقاد أو ماركيز أو ستاندال أو شلي أو حتى أحلام مستغانمي؟!...
رحم الله الكاتب اليهودي الكبير رمعون، الذي كان يلجأ إلى إغلاق الشارع الذي يسكن فيه بوضع لوح يعلقه في مدخل الشارع، يكتب عليه العبارة التالية: "سكوتا من فضلكم.. رمعون يفكر"، وهو الذي كان يترك إبداعه أو روايته بعد الانتهاء من كتابتها لمدة لا تقل عن سنة، يخصصها لمراجعتها وإعادة تنقيحها بالحذف أو الزيادة، وكان يبرر ذلك بالقول: "لا أريد أن أغالط قرائي (أي لا أغشهم).. إني أريد أن تتجذر كتاباتي في ذاكرتهم تلقائيا. وحتى تتجذر يجب أن يكون ما أقدمه مفيدا ونافعا على مر السنوات، ليثمر أفكارا تكون منطلقا ومحركا لأفكار جديدة مفيدة. أنا أريد أن أكون بمثابة الجذع وليس الأوراق التي تذروها الرياح كل خريف"، هذا رمعون المفكر. لكن ما سلف أن تحدثت عنه في مقدمة الموضوع في علاقة صديقي المبدع بالمطبعة، هو "أوراق الخريف"، وهل يستوي الجذع والورق!؟