نوفمبر الذي يحيا فينا
نوفمبر.. شعلة ثورة التحرير الوطني، التي جمعت عيدانها المقاومات الشعبية منذ أن دنّست أقدام الاستعمار الفرنسي هذه الأرض الطاهرة، والمنعرج الحاسم الذي أراده خيرة أبناء هذه الأمة، وأبناء وأحفاد أبطالها، من الأمير عبد القادر إلى الشيخ أمود زعيم مقاومة التوارق.
شعلة نوفمبر التي أوقدها ثلة من الأبطال فأضاءت للذي لا يرى والذي لا يريد أن يرى، حدود التضحية من أجل الاستقلال من براثن الاستدمار الفرنسي، الذي أذلّ العباد ونهب خيرات البلاد ونكّل بالأهالي كبارا وصغارا نساء ورجالا..
شعلة نوفمبر رسمت حدود الوطن، ووحدت بطاقة هوية أفراد الشعب المقاوم، وكسرت جدران القبيلة والجهوية والفئوية التي كرسها الاستعمار، ولعب على حبالها لإطالة عمر استعماره البلاد.
شعلة نوفمبر منارة استقطبت شتات المقاومات الشعبية، التي استفردت بأبطالها القوة العسكرية الفرنسية المدعومة من الحلف الأطلسي، فارتكبت في حقهم جرائم ضد الإنسانية باستعمال كل أنواع الأسلحة المحرمة دوليا، وهجّرت ونفت الآلاف منهم إلى أقاصي الأرض، لكنها لم تثن عزائمهم في مقاومتها، فقامت المقاومة تلو الأخرى، وقدمت قوافل الشهداء تلو القوافل.
فهذا الأمير عبد القادر الذي خاض أول مقاومة في غرب البلاد، وذاك أحمد باي في شرقها، مرورا بمقاومة الزواوة بمنطقة القبائل، وأحمد بن سالم بالأغواط، وبومعزة بالشلف والتيتري (المدية)، والزعاطشة ببسكرة والأوراس، مرورا بلالة فاطمة نسومر وبوبغلة، وأولاد سيدي الشيخ من البيّض إلى سور الغزلان، والمقراني ببرج بوعريريج حتى الحضنة مرورا بتيزي وزو، ثم ثورة جيجل والشمال القسنطيني، ومقاومة الشيخ بوعمامة من عين الصفرة إلى عين صالح مروار بتيارت وسعيدة، وانتهاء بمقاومة التوارق بقيادة الشيخ أمود بتاغيت والهقار وجانت وميزاب وورقلة..
..وجاء بيان أول نوفمبر 1954 ليكون وقود هذه الشعلة التي لا تنطفئ، وإن خبت في بعض المراحل من تاريخ جزائر ما بعد الاستقلال، والبوصلة التي لا تُضل مهما أريد لها أن يركبها الصدأ، لأن المعادن لا تحول، فكان (البيان) وثيقة مرجعية، لو اعتُمدها المجتهدون وحدها لكفتهم عناء البحث.
بيان لخّص بإيجاز فريد وأسلوب بليغ، هوية الشعب الجزائري وأهدافه من الحرب والسلم، وأسس للجمهورية الجزائرية (المحررة) الديمقراطية الاجتماعية (السيدة)، في إطار المبادئ الإسلامية. كما رسم البيان الأهداف الخارجية على المستوى الإقليمي والعربي والقاري والدولي في إطار ميثاق الأمم المتحدة.
المُراجع لهذا البيان الخالد يعتقد جازما أنه كُتب بواقعنا اليوم، مستخلصا من مطالب الشعب المنادي ببناء جزائر جديدة تسودها العدالة الاجتماعية على أسس الحرية والديمقراطية، منددا بمخلّفات الفساد التي أفرزها ركود مرحلة ما قبل إعلان الثورة التحريرية المسلحة، بل جاء إعلانها نتيجة هذا الفساد المتفشي والصراع على الزعامة، الأمر الذي أراح فرنسا الاستعمارية.
وها هو الشعب الجزائري اليوم يستلهم بيان أول نوفمبر في انتفاضته التي انطلقت في 22 فيفري 2019، وجعله مرجعية مطالبه السياسة والاجتماعية، ذلك أن نوفمبر بما يعنيه من قيم الحرية والسيادة والتضحية والروح الجماعية والإيثار، مازال يحيا فينا، وسيحيى في الأجيال التي تلينا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هذه الروح النوفمبرية نحتاجها اليوم، والجزائر في أزمتها السياسية، أكثر من أي وقت مضى، ليضع الحراك الشعبي "المصلحة الوطنية فوق كل الاعتبارات التافهة والمغلوطة" (البيان)، والقفز على تجار السياسة وصيادي الفرص وراكبي الموجات من اللاعبين على كل الأحبال، لتأمين حاضر الجزائر ومستقبلها.
وحريّ بورثة أبطال المقاومات الشعبية وثورة التحرير الوطني وشهدائها ومجاهديها أن يجعلوا بيان أول نوفمبر قاسمهم المشترك، ويتحركوا بروح ثورية لإنهاء هذه الأزمة بعزم وجزم الثوار اليوم قبل غد. ولعل الانتخابات الرئاسية، وإن لم تكن هي الحل كله، فإنها بداية الحل كله، كما كان أول نوفمبر بداية الاستقلال كله في مقابل المقاومات الشعبية المتعثرة لتباعد أقطابها في المكان والزمان.