وهران تربط ماضيها الماجد بحاضرها المشرق
قلعة لمقاومة الغزاة.. وقبلة للاشعاع العلمي
- 545
تزخر مدينة وهران، عاصمة ألعاب البحر الأبيض المتوسط، بتاريخ حافل بالأحداث قديما وحديثا، وحاضرٍ مشرق. وقد ظلت طيلة هذا التاريخ، إحدى أهم حضائر الإشعاع العلمي والثقافي بمنطقة الغرب، وقلعة لمقاومة الغزاة القادمين من الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط.
يعود تأسيس مدينة وهران، حسب أغلب المؤرخين، إلى سنة 902م، عندما استقر بها عدد من المهاجرين الذين قدِموا من الأندلس، واستعملوا ميناء المرسى الكبير في توسيع تجارتهم. ومع مرور الوقت انضم إليهم سكان المناطق المجاورة، فتوسّع عمرانها، وارتفعت كثافة سكانها، واكتسبت، بفضل موقعها المطل على البحر الأبيض المتوسط، أهمية استراتيجية بحرية واقتصادية وثقافية. غير أنّ نواة المدينة تعود إلى العهود البربرية القديمة، عندما شُيّدت “قرية إيفري” الصغيرة على الضفة اليسرى لوادي الرحى الذي يُعرف باسم “رأس العين”، حسب ما ذكر المؤرخ يحي بوعزيز في كتابه “مدينة وهران عبر التاريخ”، والذي يرى أن ما قام به المهاجرون الذين قدِموا من الأندلس، هو التأسيس الثاني للمدينة.
مركز للإشعاع الفكريّ والثقافي
خضعت وهران لحكم الفاطميين والمرابطين والموحدين والزيانيين والحفصيين والمرينيين. وعرفت تأسيس العديد من المدارس. وأضحت من الحواضر الرئيسة في البلاد، حيث ازدهرت بها العلوم والآداب.
وأنجبت وهران أعلاما في الفكر والثقافة والدين. واستقطبت علماء من مختلف المناطق. وعدّدهم بن عودة المزاري في كتابه “طلوع سعد السعود في أخبار وهران ومخزنها الأسود”، أكثر من 75 عالما ووليا ما بين القرنين التاسع والعشرين الميلادي، عملوا على نهضة المدينة، وساهموا في الحضارة العربية الإسلامية على مستوى العالم الإسلامي كله، حسب يحي بوعزيز.
ومن ضمن هؤلاء الأعلام، الشيخ أبو إسحاق إبراهيم الوهراني (10م)، والفقيه القاضي أبو عبد الله محمد الوهراني ( 13)، والطبيب أبو محمد بن عمرون الوهراني (11م)، والأديب ابن محرز الوهراني (12)، وإبراهيم التازي (15م)، والشيخ محمد بن عمر الهواري (1531- 1439) الولي الصالح الذي ارتبطت المدينة باسمه.
قلعة لمقاومة الغزاة
كانت مدينة وهران عرضة للغارات الإسبانية البرتغالية؛ حيث احتلها البرتغاليون مرتين، الأولى من 1415 إلى 1737، واستعادها الزيانيون. والثانية من 1471 إلى 1477، ثم احتلها الإسبان في سنة 1509 إلى أن تم طردهم سنة 1708، غير أنهم أعادوا احتلالها سنة 1732.
وتعرّضت وهران لعمليات الطمس والتخريب والتشويه لمعالمها الحضارية والعمرانية والتاريخية والثقافية والدينية، وخاصة العربية الإسلامية من قبل الإسبان. وقد تم التحرير النهائي لمدينة وهران في 27 فبراير من سنة 1792 بعد الحصار الذي فرضه باي معسكر محمد بن عثمان الكبير على الحامية العسكرية الإسبانية في وهران، والمرسى الكبير، والمعارك البطولية التي خاضها المتطوعون من كل مناطق غرب الوطن، والذين ألحقوا بالإسبان هزيمة نكراء، وأجبروهم على الجلاء، كما أبرز أستاذ التاريخ بجامعة وهران 1 “أحمد بن بلة” البروفيسور محمد بن جبور.
وعقب التحرير الثاني، بُذلت جهود كبيرة لإعادة لها أمجادها ووجهها العربي الإسلامي، وتعمير وإصلاح ما تخرب بها. ثم عاد الفرنسيون بعد احتلال المدينة سنة 1831، إلى عملية طمس معالمها الحضارية.
وخلال الثورة التحريرية، كانت وهران من بين المناطق التي تم بها التحضير لانطلاق العمليات الأولى في غرة نوفمبر؛ حيث تم تكليف المجموعة التي كان من ضمنها شهيد المقصلة أحمد زبانة، للاستيلاء على الأسلحة بثكنة حي “الكميل” وعمليات أخرى.
وقبل ذلك، شهدت تنفيذ عملية بريد وهران من قبل كوماندوس تابع للمنظمة الخاصة في يوم الإثنين 5 أبريل من سنة 1949، مما سمح بالحصول على أموال البريد لتمويل العمل المسلح ضد الاستعمار الفرنسي.
مدينة الجمال والتراث
وتمتلك مدينة وهران من المقومات الاقتصادية والتجارية والسياحية والمعالم التاريخية، ما يجعلها تستحق بجدارة، لقب عروس البحر المتوسط، ومدينة الجمال والتراث.
فهذه المدينة الواقعة أسفل السفح الشرقي لجبل المرجاجو وفوق شاطئ خليجي هادئ، تتميز بنمطها المعماري المعاصر، الذي أعطى الوجه الجميل للباهية وشوارعها التجارية كثيرة الحركة، ومآثر الحقب التاريخية التي تعاقبت عليها، وشواطئها الساحرة، التي تجعل منها منطقة جذب، ووجهة سياحية بامتياز.
ولاتزال المساجد العتيقة والحصون والقلاع والأبراج ورباطات الطلبة، قائمة بهذه المدينة، تشهد على الحضارات التي تعاقبت على وهران، والمقاومات التي خاضها سكانها ضد الغزاة، لا سيما المستعمر الإسباني والفرنسي.
كما تشتهر وهران بحي “المدينة الجديدة”، قلبها التجاري النابض، الذي يتوافد عليه المواطنون على مدار السنة، لاقتناء حاجياتهم المختلفة. ورغم التدافع والتزاحم، لا يتردد زوار الباهية على التوجه إلى هذا الحي، الذي ينشط به، أيضا، العطارون، والعشابون، وباعة الكتب القديمة وأقراص الأفلام والموسيقى، وتنتشر بها مطاعم الأكلات الشعبية.
وفي المساء، يغيّر الوهرانيون وجهتهم إلى شارع واجهة البحر الذي يُعتبر الوجهة المفضّلة للسياح، لا سيما في فصل الصيف، حيث يمكن المرء احتساء فنجان من القهوة أو تناول المثلجات، والتمتع من بعيد بزرقة البحر، وحركة السفن بمحيط الميناء.
وقد عرفت وهران، ثاني أكبر مدينة بعد الجزائر العاصمة والتي تجاوز عدد سكانها 726 ألف نسمة، توسعا عمرانيا كبيرا في السنوات الأخيرة، امتد شرقا إلى غاية إقليم بلدية بئر الجير، وغربا إلى بلدية السانية. وسمح هذا التوسع ببروز العديد من النشاطات التجارية والخدمية.
قطب تنموي متميّز
ومع هذا التوسع العمراني، أصبحت المدينة تتشكل من مزيج من المباني، يجمع بين الطراز القديم، والطراز الحديث المتميز بالمباني الشاهقة الفخمة ذات الواجهات الزجاجية، والعمارات التي أُنجزت في إطار البرامج السكنية المختلفة.
كما نالت المدينة حظا من مشاريع البنية التحتية المتطورة من شبكات طرقات سريعة، وجسور، وأنفاق، والتراموي الذي طُليت عرباته باللونين الأبيض والأحمر، فزاد الباهية جمالا، وربطها ببلدية السانية بالضاحية الغربية، وبئر الجير بالضاحية الشرقية عبر خط طوله 19 كلم.
كما تَعزّز النقل الجوي بإنجاز محطة جوية عصرية جديدة بمطار “أحمد بن بلة” الدولي، طاقتها 5ر3 ملايين مسافر في السنة، قابلة للتوسع إلى 6 ملايين، ستدعم، مما لا شك فيه، مكانة وهران في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط.
ولم تعد الباهية تلك المدينة التي تدير ظهرها للبحر كما وصفها ألبير كامو في روايته “الطاعون” التي صدرت سنة 1947، بل هي تعانق البحر على الدوام؛ حيث ازدهرت نشاطات الصيد البحري الذي تعزز بالعديد من الهياكل. وتضاعفت المعاملات التجارية عبر مينائها البحري، الذي تدعم هذه السنة بتسلّم توسعة نهائي الحاويات، الذي سيسمح باستقبال البواخر كبيرة الحجم، ومعالجة إلى غاية 1 مليون حاوية.
وتَشكل بمحيط هذه المتروبولية نسيج من النشاطات الصناعية والخدمية في شتى القطاعات عبر العديد من المناطق الصناعية. وتواصل وهران منذ الاستقلال، ربط ماضيها الماجد بحاضرها المشرق، من خلال التوسعات العمرانية الكثيرة، وتنشيط الحركة التجارية والثقافية والسياحية، وتطوير الأقطاب الصناعية المتخصصة بالشراكة، على غرار البتروكيمياء، وصناعات الحديد والصلب، والسيارات والقطاع الصيدلاني.
وتطمح المدينة التي تتوفر على ثلاث جامعات ومراكز بحثية عديدة والتي تدعمت بمرافق رياضية جديدة ومركبات سياحية ومستشفيات، لمواصلة نهضتها في كل المجالات كحاضرة متوسطية.