"السانسيمونيّون"..
محرك الظاهرة الاستعمارية في الجزائر
- 782
بداية نقول، لا أحد يمكنه أن ينكر أن أتباع سان سيمون كانت تحركهم دوافع إنسانية نبيلة راقية، مفتاحها الأخوة الإنسانية بين مختلف أبناء العائلة البشرية. كما إنهم كانوا لا ينطلقون من منطلق مصلحي اقتصادي نفعي، كما هي حال الرأسماليين. ولكن هذا وحده لا يكفي، ليقنعوا الجزائريين بأن يتحولوا إلى نسخ منهم. وخصوصا إذا ما عرفنا موقفهم من الدين، هذا الذي كان ولايزال المحور الذي تدور حوله، حياة معظم الجزائريين، ومن المحال التخلي عنه لصالح أي فكرة أخرى مهما كانت براقة، ذلك أن المجتمع الجزائري في القرن التاسع عشر، كان يحتكم إلى ثنائية المسلم والكافر، فمن هو ليس مسلما فهو بالضرورة كافر. ومن هنا توجب رفض كل ما يسوقه ذلك الآخر الكافر، أو على الأقل أخذ الحيطة منه. ومن جهة أخرى، فأنصار السانسيمونية كانوا ينظرون إلى الإسلام بنفس نظرتهم إلى المسيحية، وكانوا يعتقدون بإمكانية تجاوزه كما تم تجاوز المسيحية، وهذا خطأ منهجي، أدى إلى فشل مشروعهم في الجزائر.
ولتتضح الصورة أكثر، فهم، في حد ذاتهم، تراجعوا عن أفكارهم في الجزائر، وأصبحوا من دعاة النظام الاستعماري الاستيطاني إن لم يكونوا أبرز دعائمه منذ اللحظة الأولى لسقوط مدينة الجزائر. ولنكن أكثر دقة، فهم من نظَّـر له في باريس، وأوحوا به إلى النظام الفرنسي الحاكم، الذي ما كان إلا وسيلة تنفيذ بأيديهم، وبهذا أصبحوا هم، وكما غيرهم، إحدى الأدوات الاستعمارية في الجزائر، ولهذا قبرت ما يسمونه زورا المهمة التحضيرية إلى الأبد، ولم يبق منها سوى ذكرى دعاية كاذبة، كالحمل الكاذب أو السراب الخادع. وأخلت المكان للهمجية والتوحش، ولكل شرور الاستعمار، التي غرست جذورها في أعماق الجزائر لمدة قرن واثنين وثلاثين سنة.
وبغض النظر عن صدق نية السانسيمونيين في ما يخص طوقهم الشديد لتحضير الجزائريين، حسب مفهوم الحضارة عندهم، فهم كانوا ينطلقون من فكرة، مفادها بأن العرب وعلماءهم كانوا محرك تقدم الإنسانية إلى غاية طردهم من إسبانيا في 1609، ولهذا يجب مد يد المساعدة لهم، ليرجعوا ويحتلوا من جديد المكانة التي يستحقونها. ولقد واتتهم الفرصة بعد الغزو الفرنسي للجزائر في عام 1830، ليجسدوا أفكارهم على أرض الواقع، وخصوصا ما تعلق بنقل الجانب المادي التقني إليها. ولأجل البحث عن مثل هذه الفرص، فهم، كما يقول المؤرخون، من دفعوا بفرنسا إلى غزو مصر، ثم غزو الجزائر من بعدها، وعليه فهم كانوا محرك الظاهرة الاستعمارية في القرن التاسع عشر. ولا يمكن تبرئتهم، أو على الأقل البعض منهم، من تلك النكبات التي حلت بالجزائر والجزائريين في فترة تواجدهم بها.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن كلا من الجنرال لاموريسيار ومعه رئيس الحكومة كافنياك، وهما من السانسيمونيين، كانا من أبرز أعمدة سياسة حرب الإبادة والتقتيل الوحشي التي انتهجتها فرنسا في الجزائر، وكانوا من أبرز أدوات تنفيذها، فها هو الأول يخبرنا برأيه في الحرب، فهي حين يتعلق الأمر بشعوب متخلفة، عمل تبشيري خاصة بالنسبة لأناس لا يعرفون غير السلاح كلغة اقتناع. وإنني أعتبر الاحتلال وسيلة كبرى لتوريد الأفكار، كما إن في الحدود الفاصلة بين المدنية والهمجية لا بـد من وجود رجـال يحملون السيف. هذه هي فلسفة هذا السان سيموني النبيل، ويا لها من نبالة هو، لا محالة، محسود ومشكور عليها!
أما الثاني (كافينياك) فيصنَّف مع مجرمي الحرب ممن سبقوه أو ممن جاءوا بعده، من روفيقو، وسانت أرنوا، وبليسيه، وراندون، فكلهم في الضراوة سواء، كما يقول عباس فرحات، ولهذا فالسانسيمنيون لم يكونوا بردا وسلاما على الجزائريين. وانطلاقا من أعمالهم السابقة فقد خانوا الفكر النبيل الذي كانوا يروجون له، ليتحولوا إلى استعماريين، شأنهم شأن بيجو وغيره. وأعمالهم في الجزائر تتطابق مع أعمال الصهاينة في فلسطين. وجرائمهم في حق الجزائريين تتفوق على جرائم الحركة الصهيونية في حق الفلسطينيين. والكل ـ أي مختلف أطياف المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر ـ كانت تلتقي في خدمة المصالح العليا للمشروع الاستعماري الفرنسي في الجزائر، فعلى سبيل المثال نذكر السانسيموني أنطوان ميشال كاريت، الذي انحصر عمله في وضع الخرائط التي سوف يستغلها جيش الاحتلال في إتمام عملية غزوه للجزائر. وربما كانت نيتهم سليمة حينما وضعوا تلك الخرائط، ولكن النتيجة كانت أرضا محروقة، وإبادة جماعية للجزائريين.
نعم إنه وكنتيجة مباشرة لخيبة أملهم في مصر، وخروجهم منها، فإنهم التحقوا بالجزائر، ولعبوا "أدوارا هامة في تثبيت الاستيطان الأوروبي تحت السلطة الفرنسية. كما سعوا إلى "إدماج المجتمع الجزائري في المجتمع الأوروبي الدخيل، وتوجيه الفكر والثقافة من خلال التحكم في المدارس التي أنشأوها خصيصا لذلك" (مصطفى عبيد، الجزائر في كتابات توماس (إسماعيل) أوربان 1812 – 1884، دراسة تاريخية تحليلية)، ومنهجهم يتعارض ويتصادم، بشكل صريح، مع هوية الشعب الجزائري، ولذلك لا ننتظر من الأخير، أن يعتنق أفكار السانسيمونيين.
كما إن ما نتج عن تعاونهم مع النظام الاستعماري في الجزائر، كانت نتيجته كارثية على الجزائريين حتى لو لم يكونوا يقصدون. وتلك النتائج تتناقض مع مشروعهم المزعوم في الجزائر، ولذلك فهم يتحملون جزءا مما آل إليه الوضع في الجزائر، خاصة أنهم كانوا متواجدين بين صفوف الجيوش الفرنسية الغازية لمختلف أنحاء الجزائر، مثلما هي الحال مع السانسيموني أريان بربروجر، سكرتير السفاح كلوزيل.
وقد يتساءل البعض كيف قبل السانسيمونيون التعاون مع السفاحين من غزاة الجزائر؟ حدث ذلك لأن جنرالات الحرب في الجزائر كانوا بحاجة لمن يبرر لهم عملية الغزو تاريخيا وأخلاقيا، وهو ما تكفل به السانسيمونيون. وفي المقابل فإن الجيش الغازي يمكّنهم من احتلال الأرض، وهذه الأخيرة هم في حاجة ماسة إليها لتجسيد أفكارهم عمليا، فمن دونهم الاستعمار يفتقد الشرعية، ومن دونه لا وجود لهم على أرض الواقع، ثم هناك ما يجمعهم كموقفهم من الأتراك، واعتبارهم غزاة أجلافا، ومتوحشين، وأن خلاص الجزائر والعالم الإسلامي عموما، يكمن في المدنية الأوروبية، وما دون هذا لهو التوحش والتعصب والبربرية.
كما إن لا أحد يستطيع أن ينكر أن إسماعيل أوربان، وهو أبرز وجه سانسيموني في الجزائر، كان يهدف إلى أن "تختفي مظاهر العبودية، وأن يتعايش كل من على المعمورة شرقا وغربا في حب وسلام" (نفس المرجع المذكور أعلاه). كما يجب القول إن أفكارهم الداعية إلى الأخوة الإنسانية وتطوير كل الأمم والشعوب، كانت تتناقض مع أهداف غلاة الكولون في الجزائر، ومع سياسة الدولة الفرنسية، التي سيوجهونها (الكولون) كيفما يشاءون ولو إلى حين. كما لا ننسى أنهم لم يكونوا اللاعبين الوحيدين على الساحة الفرنسية والجزائرية في تلك الفترة، ما سيؤدي إلى تصادمهم مع معارضيهم، خاصة أنهم دعاة الجزائر الجديدة، التي يريدون بناءها، وتكوين مملكة عربية بها، جزائر لكل الأعراق والأجناس. ولكن للأسف الشديد، لئن كان إسماعيل أوربان يدعو إلى ضرورة إنهاء الحرب في الجزائر، فإن دعاتها يرغبون في أن تكون مفتوحة لتحقيق أغراضهم الخاصة. ولئن كان (سان سيمون) يرفض سياسة التنصير فهذه الأخيرة ستبدو كأنها سياسة الدولة الفرنسية، خاصة في عهد لافيجري.
ولئن كان يعترف ويقر بحقوق الجزائريين، فإن الكولون لا يعترفون بأي حق إلا بحقوقهم، كما يخبرنا بذلك الوزير جول فيري، الذي يقول إنه من الصعب إقناع المعمر بأن هناك غير حقوقه هو في البلاد العربية. وغير هذا كثير من نقاط الاختلاف بينه وبين اللاعبين في الجزائر، والغلبة في الأخير كانت لهؤلاء، ما سينتج عنه ما هو معلوم من تاريخ أسود ومخز لفرنسا الاستعمارية في الجزائر. نعم، لا يمكن أن نبرّئ السانسيمونيين وعلى رأسهم إسماعيل أروبان، من تحمّل مسؤولية ما كان يحدث وحدث في الجزائر من ويلات القرن التاسع عشر، فالرجل عمل تحت إمرة السفاح بيجو والمجرم بيلسيه، ولكننا لم نسمع له صوتا منددا بكل تلك الفظاعات التي حدثت في عهدهم، أو على الأقل كان يجب عليه أن يقول الحقيقة، أو ينسحب من المشهد، طالما هو، وكما يدعي، يرفض الحرب والتقتيل، وإلا لماذا كان جزءا من سياسة الأرض المحروقة التي انتهجها الجنرال بيجو ضد الأمير عبد القادر؟! ومهما كان عذره فهو مرفوض لمَا آلت إليه أوضاع الجزائريين نتيجة تلك السياسة البغيضة.
كما إن ما طُبق في عهد الإمبراطور نابليون الثالث أيام كان أوربان يعيش أوج مجده، فإن النتائج كانت مأساوية على الجزائريين. وعلى رأس ما طـُـبق تقسيم القبائل إلى دواوير، ما خلق الملكية الفردية بين الجزائريين. وهذه الأخيرة سوف تكون أقصر الطرق للاستيلاء على أراضيهم، ومن ثمة تفقيرهم وقذفهم في أتون جحيم البؤس والشقاء، وهي سياسة غير حكيمة من إسماعيل أوربان ومن معه. ثم إنه كان لا يختلف عن بقية غلاة الاستعماريين، حينما يدعو إلى دحر الجزائريين إلى الصحراء، وإلى استخدام القوة لترويضهم، وغير هذا كثير من الآراء التي يبدو فيها أوربان كغيره من الاستعماريين. ونحن هنا لا نعاديه أو نؤيده بقدر ما نتعجب من أن يصدر كل ما ذكر من رجل يدعي الإسلام، والدفاع عن مصالح الجزائريين، ولكنه هو والسانسيمونيون لم يكونوا يريدون علاقة ندية بين الجزائر وفرنسا، بل علاقة التابع بالمتبوع، علاقة الأخ الأصغر بالأخ الأكبر، علاقة التلميذ بالأستاذ، علاقة فاعل وموضوع، وعلاقة القاصر بالوصي، وهذا ما أدى إلى فشل مشروعهم بالجزائر، فهم، أيضا، كانوا يدورون في متاهة المركزية الأوروبية المقيتة.
وبغضّ النظر عما كان يقوله الإمبراطور نابليون الثالث المتحالف مع السانسيمونيين، كمن واجبهم أن يقنعوا العرب بأنهم لم يقدموا إلى الجزائر من أجل اضطهادهم واغتصابهم، "ولكن جئنا لنحمل إليهم الحسنات والتمدن والحضارة"، وعليه فهو يقترح أن تترك الزراعة للأهالي. كما يقترح أن تترَك تربية المواشي والزراعة للعرب. أما المعادن واستغلال الغابات فيجب أن توكل المهمة للأوروبيين الأذكياء (المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 54). ويا له من كلام جميل "كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء"! والغيمة المبرقة تعد الفلاح بالغيث، ولكنه لا يرى منها شيئا! ذلك أنها، هي الأخرى، تحمل وعدا كاذبا وأملا خادعا. ولئن لم ينجز في الجزائر أي من المشاريع السابقة، فلا داعي للحديث عن المهمة التحضيرية الفرنسية في الجزائر، ثم إن كلام الإمبراطور السابق كلام عنصري استعلائي، يقضي بأن العرب لا يصلحون للتقنية الحديثة، لذلك تَوجّب إبقاؤهم ملتصقين بالأرض! وهي كلها مبررات مرفوضة، سوف يستند عليها دعاة حرمان الجزائريين من التعليم في فترة لاحقة، ذلك أنه لا جدوى من تعليمهم، لكونهم لن ينتفعوا لا هم منه، ولا الدولة التي ستشرف على تكوينهم! وهكذا كان السانسيمونيون جزءا من صناع الشرور التي لحقت بالشعب الجزائري خلال الليل الاستعماري البغيض.