الدبلوماسية الجزائرية تستعيد مجدها

نقلة نوعية ترفع من الرصيد الثري للسياسة الخارجية

نقلة نوعية ترفع من الرصيد الثري للسياسة الخارجية
  • 2552

تحلّ ذكرى استرجاع السيادة الوطنية، هذا العام، في ظلّ انجازات نوعية حقّقتها الدبلوماسية الجزائرية على المستويات الإقليمية والدولية، مُواكِبة لتوجّهات السياسة الخارجية الجديدة  للبلاد وفق رؤية استباقية، جعلتها تسترجع دورها الحيوي في المحافل الدولية بعد فتور دام سنوات، غير أنّ هذه النقلة الجديدة أعادت إلى واجهة الأحداث، الانتصارات الكبيرة التي حقّقها هذا السلك خلال سنوات السبعينيات، لتعزّز بذلك رصيد الإنجازات التي يشهد لها القاصي قبل الداني.

حبلت السنوات الأخيرة بالكثير من المكاسب للجزائر على الصعيد الدبلوماسي، والتي كان آخرها انتخاب الجزائر عضوا غير دائم  في مجلس الأمن لمدة سنتين بدءا من 1 جانفي 2024، على إثر تصويت 193 دولة عضو في الأمم المتحدة.

وفضلا عن أن هذا الانتخاب، يعدّ تقديرا لدورها المحوري في منطقتها، فإنّه يعكس في الوقت نفسه التقدير والاحترام الذي يحظى به رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، من قبل المجتمع الدولي، عرفانا لمساهمته في إحلال السلم والأمن الدوليين.

ويضفي هذا الانتخاب في الجهاز الرئيسي للأمم المتحدة المكلّف بحفظ السلم والأمن الدوليين على الجزائر، مسؤولية خاصة متمثّلة في المساهمة في مسار صنع القرار الدولي، كما تعدّ فرصة  لها لإعادة تأكيد مبادئها وقيمها وتبادل رؤيتها بشأن القضايا المدرجة على جدول أعمال مجلس الأمن في مجال السلم والأمن الدوليين.

تعزيز السلم والأمن الدوليين

وتتطلّع الجزائر في هذا السياق لتركيز جهودها لتعزيز السلم والأمن الدوليين، وتنشيط العمل متعدّد الأطراف المتجدّد مع تقوية الشراكات الرئيسية، بالإضافة إلى تعزيز مبادئ وقيم عدم الانحياز ومواصلة الجهود لمكافحة الإرهاب وتعزيز مشاركة النساء والشباب في هذه الجهود الدولية، فضلا عن إسماع صوت الدول العربية والإفريقية والدفاع عن المصالح الاستراتيجية المشتركة في مختلف القضايا التي تندرج ضمن اختصاصات مجلس الأمن. كما جاء هذا الانتخاب بعد أشهر فقط من تولي الجزائر رئاسة قمة جامعة الدول العربية بنجاح كبير، بعد انقطاع دام ثلاث سنوات بسبب جائحة كوفيد-19، حيث مكّنها هذا الحدث العربي من لعب دور هام في تعزيز العمل العربي المشترك وتحقيق وحدة الصف، والتي كانت من أبرز ثمارها عودة سوريا إلى الجامعة العربية بعد جهود حثيثة سابقة قامت بها من أجل تحقيق الإجماع العربي حول هذه المسألة.

وكان هذا المحفل العربي أيضا فرصة “لإعادة بثّ روح التضامن العربي”، حيث رافعت الجزائر من أجل استرجاع جامعة الدول العربية مكانتها على الساحة الدولية والاضطلاع بدورها كمنظمة عربية قويّة ومؤثّرة، لتمكينها من مواجهة التحديات الحالية والمستقبلية، خدمة لتطلّعات وآمال الشعوب العربية واستقرار المنطقة، فضلا عن السعي لإيجاد مخارج للأزمات المطروحة على الساحة الاقليمية وتعزيز التلاحم العربي ومناصرة الحق والعدالة وتغليب لغة الحوار والتفاهم.

كما أنّ اختيار الجزائر لانعقاد القمة العربية بتاريخ الفاتح من نوفمبر، المصادف لاندلاع الثورة التحريرية، ينطوي على دلالات نابعة من مبادئها الثابتة التي عبّر عنها بيان أول نوفمبر1954 والمتعلّقة بحقّ الشعوب المضطهدة في تقرير مصيرها.

من هذا المنطلق، عملت الجزائر على جعل الاجتماع العربي الكبير مناسبة جديدة من أجل التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية ومواصلة الدفاع عنها، لكون هذه القضية تعدّ بالنسبة للجزائر “أم القضايا عبر كل الأزمنة”.

انتصار باهر للقضية الفلسطينية

ونجحت الجزائر قبل أيام من انعقاد القمة، في لمّ الشمل الفلسطيني على أرضها، بعدما ظلّت الفصائل الفلسطينية منقسمة ومتنافرة لمدّة 15 عاما، حيث بادرت إلى دعوة ممثليها للمشاركة في “مؤتمر لمّ الشمل من أجل الوحدة الوطنية الفلسطينية”، في محاولة للتوصّل إلى اتّفاق قبل القمة وهي المبادرة التي توّجت في 13 أكتوبر الماضي، بما سمي بـ"إعلان الجزائر” الذي يضع حدّا للانقسام.

وساهم توقيع الفصائل الفلسطينية على اتّفاق المصالحة بالجزائر في إعادة القضية الفلسطينية ليس للواجهة فحسب، وإنّما أيضا لمحور الاهتمام العربي والدولي، بمناسبة انعقاد القمة العربية.

كما شكّلت القمة العربية حدثا عالميا، من خلال مشاركة ممثلي عدّة منظمات دولية، ما يؤكّد الدور المحوري للجزائر على المستويات الإقليمية والافريقية والعربية والأوروبية المتوسطية والدولية، فضلا عن أنّها تناولت لأوّل مرة مواضيع معيّنة مثل الأمن الغذائي والأمن المائي والأمن الطاقوي وقضايا تغيّر المناخ والحاجة إلى حلول عربية للمشاكل العربية.

ولعلّ أبرز إنجاز حقّقته الدبلوماسية الجزائرية هو تعليق تواجد الكيان الصهيوني ضمن مؤسّسات الاتحاد الإفريقي بصفة عضو مراقب، خلال اجتماع لرؤساء الاتحاد بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا، حيث فشل أصدقاء اسرائيل في افريقيا وفي مقدمتهم نظام المخزن المغربي، من تثبيت قرار إداري اعترته أخطاء إجرائية وقانونية.

كما أولت الدبلوماسية الجزائرية أهمية خاصة لإفريقيا، من خلال تعزيز وجودها وتأثيرها في منطقتي الساحل والمغرب العربي، فضلا عن ترقية حركيات التعاون والشراكة والاندماج في كلّ التجمعات التي تنتمي إليها، إلى جانب تقييم العلاقات مع الشركاء الاستراتيجيين للجزائر لجعلها قوّة توازن من خلال الأخذ بعين الاعتبار المعطيات البراغماتية والحفاظ على مصالح البلاد في التعاملات مع الشركاء الاجانب للجزائر ضمن مقاربة “رابح –رابح”.

وفي الوقت الذي أصبح فيه جوار الجزائر مقلقا بسبب الأزمة الليبية، وعدم الاستقرار السياسي والأمني في دول الساحل الأفريقي وغرب أفريقيا، فضلا عن التحديات الأمنية الخطيرة التي انجرت عن تطبيع نظام المخزن علاقاته مع الكيان الصهيوني، تبنّت الجزائر سياسة خارجية اتّسمت بالواقعية، عبر دبلوماسية تحكمها المبادئ والأهداف الواردة في مختلف المواثيق والدساتير الوطنية الجزائرية، وأهمها مبدأ عدم التدخّل في الشأن الداخلي للدول، والتي تعدّ في مجملها امتدادا لمبادئ ثورة نوفمبر 1954.

وبما أنّ السياسة الخارجية الحالية للجزائر، تأثّرت بالأوضاع الناتجة عن تطوّرات النسق الدولي المتوتر في ظلّ الحرب الروسية-الأوكرانية،  فقد عملت على رسم معالم الصورة الاستراتيجية  لهذا النسق، لمواكبة التغيّرات والتقلبات التي تفرضها البيئة الإقليمية والدولية، خاصة مع ارتفاع أسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية بسبب  هذه الأزمة، ما جعلها تلعب دورا كبيرا في انتعاش الحركية  الاقتصادية باعتبارها دولة نفطية.

وأبرز ما سجّلته الدبلوماسية الجزائرية هو تقديم الجزائر ملف انضمامها إلى مجموعة “البريكس” والذي حظي بالقبول من قبل روسيا والصين  وجنوب افريقيا، حيث أكّد رئيس الجمهورية في لقاء اعلامي سابق أنّ عام 2023 سيكون متوّجا بدخول الجزائر إليها، من خلال حضور اجتماعاتها الرسمية.

زيارات الرئيس تبون إلى الخارج لرسم خيارات استراتيجية جديدة

وبناء عليه، فقد كان ملف “البريكس” من النقاط المدرجة في برنامج  زيارة رئيس الجمهورية إلى موسكو الشهر الماضي، والتي جاءت بدعوة من نظيره الروسي فلاديمير بوتين، حيث كانت المناسبة أيضا فرصة لاستعراض الشراكة الاستراتيجية والقضايا الدولية، بما في ذلك الشرق الأوسط ومنطقة الساحل والتعاون في مجال الطاقة داخل “أوبك”.

وقد أكّدت هذه الزيارة على تطوير إعلان التعاون الاستراتيجي الموقع بين البلدين عام 2001 ليصبح اتفاق شراكة، يشمل قطاعات اقتصادية وزراعية وأمنية وسياحية وبيئية وصحية.

وقبلها كان الرئيس تبون  قد زار البرتغال في أوّل زيارة رسمية لرئيس جزائري منذ أكثر من عقدين، حيث استقبل خلالها بحفاوة بالغة من قبل مسؤولي هذا البلد.

ولا تمثّل البرتغال فقط بلدا مهما من الناحية الاقتصادية، فهي من المجال الجيوسياسي قفزت في ترتيب الأولويات لدى الجزائر إلى المقدّمة في شبه الجزيرة  الايبيرية، في ظلّ فتور العلاقات بين الجزائر ومدريد بسبب الموقف المتغيّر لحكومة سانشيز  إزاء  أزمة الصحراء الغربية، لتكون بذلك لشبونة ثاني محطة للرئيس تبون في القارة الأوروبية بعد روما التي تقيم معها الجزائر علاقات تفضيلية.

كما سبق لرئيس الجمهورية أن أجرى سلسلة زيارات إلى الخارج، شملت عواصم عربية وإسلامية وغربية على غرار تركيا، المملكة العربية السعودية، تونس، مصر، قطر والكويت، في الوقت الذي زار فيه قادة دول شقيقة وصديقة الجزائر من أجل بعث مجالات التعاون الثنائي و تعزيز الشراكة .وتسعى الجزائر من خلال هذه الزيارات المتبادلة، لإضفاء البعد الاستراتيجي على علاقاتها الحيوية، فضلا عن رسم معالم جديدة تتماشى والأولويات السياسية والاقتصادية للبلاد، في ظلّ ظرف دولي حسّاس يتّجه نحو نظام متعدّد الأقطاب.

كما يمكن إدراج التحركات الدولية للجزائر، ضمن سياق فرضته خيارات اقتصادية بالنسبة  للجزائر، قصد التخلّص من تبعية اقتصاد النفط والتوجّه نحو اقتصاد متوازن، ما جعلها توجّه البوصلة نحو دول أكثر تجربة في مجال اقتصاد المعرفة والمؤسّسات الناشئة وإرساء نسيج صناعي من المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة والبحث عن دول مرافقة للجزائر في هذه المجالات، تتّسم  علاقاتها معها بالندية خدمة  للمصالح المشتركة.