حديث عن الرواية والقضية الفلسطينية مع إبراهيم نصر الله

طلائع النصر تدحض هرولة المطبّعين

طلائع النصر تدحض هرولة المطبّعين
  • القراءات: 636
مريم. ن مريم. ن

استقبل فضاء "تاسيلي"، أول أمس، ضيف "سيلا 2023" الكاتب الفلسطيني الكبير إبراهيم نصر الله؛ للحديث عن "الرواية والقضية الفلسطينية"، وكيف كانت صوتا للنضال والحياة والبقاء، مستعرضا تجاربه التي وُلدت من معاناة التشرد، وصولا إلى الوعي بالقضية، مع تجريب شتى الفنون الإبداعية التي تعكس القيم الإنسانية الجامعة، وتنديد صريح بكل أشكال التطبيع في الأدب والثقافة؛ من أجل جني مصالح ضيّقة، سرعان ما تزول.

طلب منشط اللقاء الدكتور مشري خليفة، الوقوف دقيقة صمت على أرواح شهداء فلسطين، ثم قدّم نبذة عن حياة الضيف، ومساره الأدبي، وانتشار أعماله، وترجمتها إلى لغات العالم، ليستهل نصر الله حديثه بتحية الجزائر، التي كانت بحضنها تشبه الأم الحنون، معبّرا عن ألمه لما هو جار في فلسطين من دمار وتقتيل، ومستعرضا وعي الشعوب بالقضية، وهو ما يتجلى في المظاهرات التي جابت عواصم العالم ومدنه؛ لرفع غزة عاليا.

مأساة المخيّم

قال المتحدث إنه من أبناء النكبة الأولى؛ عاش كأبناء جيله، التهجير والفقر والجوع، وعانى من الأفق المقفل. كما عاش المجازر المرتكبة في حق شعبه. ورغم ذلك لم يكن الاستسلام، لتتواصل الحياة بكل ما فيها من أمل في غد مشرق، معتبرا أن صمود غزة اليوم، ما هو إلا تراكم لمراحل الصمود عبر السنين والأيام، ذاكرا أنه وُلد في مخيم "الوحدات" قرب العاصمة الأردنية عمّان. وعندما أصبح طفلا دخل مدرسة المخيم، التي لم تكن سوى خيمة يجلس فيها التلاميذ على الأرض أو على الطين حتى في فصل الشتاء. وكان يتعلم مع أترابه بكتاب واحد، تحتفظ به المعلمة؛ لذلك كان، دوما، يحلم بامتلاك كتابه الخاص. وانتظر تحقيق ذلك طويلا، ليقرأ بعدها كما أبناء جيله الفلسطينيين، كتبا تغسل القلب، وتحاكي الألم؛ منها "البؤساء" مثلا. وظن أن الألم ليس في فلسطين وحدها، ثم جاءت السينما، ومعها البهجة، والجمال الذي كشف وجها آخر للعالم.

وفي الصف الإعدادي، كتب نصر الله أولى قصائده، كما قال، وكانت قصيدة هجاء في أستاذ العربية، لكنه استشهد في قصف قرب بيت عائلة نصر الله، وكاد الجميع يُقتلون، فقرر منذ ذلك الحين، أن لا يهجو أحدا، وأن يكون الأدب مع وليس ضد الإنسان. وفي الثانوية كتب روايتين متأثرا بالأدب الحزين، منها روايات إحسان عبد القدوس، ونجيب محفوظ. ودرس الموسيقى.

وعن هذه الأخيرة، أشار إلى أن أمه كانت ترفض أن يدرسها وتقول له معاتبة: "سينتهي بك الأمر طبالا خلف الفنانة سميرة توفيق ". وعلى ذكر والدته استحضر موقفا لها لم ينسه طوال حياته، عندما تحصّل على شهادة الثانوية وأراد استكمال دراسته، حيث ذهبت خارج البيت وجمعت أوراق "الكرمة" ووضعتها في حجرها، وقالت لابنها: " اُدرس بهذا "، لينتقل، بعدها، للدراسة في معهد وكالة الغوث مجانا مع الإقامة. ثم انتقل للتدريس لمدة سنتين، بالسعودية، فأصيب فيها بالملاريا. ورأى زملاءه والأطفال يموتون، ليوثق هذه التجربة القاسية في "براري الحمى" بلغة قوية، تواجه الموت والصحراء، لتتحرك في البراري وتولد معها الأسطورة. ثم كتب رواية "الخيول على مشارف المدينة" سنة 1985، ولم تخرج إلا بعد سنوات حين طعّمها بجنون الحداثة، وبمسرح العبث، وبالكلاسيكيات أيضا، ولتترجَم إلى الإنجليزية، وقبلها كان قدّم 4 دواوين لاقت نجاحا باهرا.

وقال نصر الله: " بعد مجازر بيروت سنة 1982 وتشتّت المقاومة، قال بن غوريون، أحد قادة إسرائيل: "يموت كبارهم، وينسى صغارهم "، فقرر الرد بكتابة تاريخ فلسطين من 1917 إلى 1948، موقنا أن فلسطين تستحق أكثر من رواية، فكان مشروع "الملهاة الفلسطينية" الذي نشر منه حتى الآن 6 روايات. وحرص في مشروعه على فكرة التنوع في تجربته؛ كي لا يقدم نصا واحدا، ولا يقع في فخ الروتين.

ولوج للقصائد الملحمية والسير المتخيلة

قال إبراهيم نصر الله إنه كتب القصائد ذات الألف بيت، تماما كما كتب القصائد القصيرة ذات 3 أبيات. ومن القصائد التي تحدّث عنها "نعمان يسرد لونه" و"باسم الأم والابن"، ثم جاء دور السير المتخيّلة. ورأى أن الإنسان أكبر من أن يُختزل في قصيدة أو رواية.

وتحدّث الضيف عن ديوان "مرايا الملائكة " في 180 صفحة، الذي جاء بعد استشهاد إيمان حجو رضيعة ذات 4 شهور، ولم تفارقه ابتسامتها الملائكية؛ وكأنّها نائمة تقاوم الموت بجمالها. وكانت بالنسبة له تجربة قاسية، قرر بعدها هجرة الشعر. وعاش البعد والانهيار لمدة 5 سنوات، ليلتفت إلـى " الملهاة الفلسطينية" بـ 15 رواية مستقلة في البناء الفني، فكتب عن "أعراس آمنة" ليضع يده مجددا على الوجع، ويكتب عن مرحلة لم تنته بعدُ. كما كتب "تحت شمس الضحى" بعد الانتفاضة. ويواصل تجرؤه على التاريخ بطرح رؤيته.

وبالنسبة لـ"زمن الخيول البيضاء" قال إنه كتبها عن شخصيات عاشت قبل نكبة 1948، لاقت التمجيد رغم أخطائها الفادحة وخطيئتها في حق فلسطين، ومُثلت؛ ما جعل أكبر مؤرخي فلسطين يقول له: "لقد رأيت ما لم نره كلنا ". كما أكد في سياق حديثه، أنه دخل إلى مناطق جديدة لم يعشها؛ منها أحداث المستقبل، وهو اختيار مخيلة الكاتب وعقله، يكاد يكون اكتشافا ظل مغمورا، يتجلى، أيضا، في رواية "حرب الكلب الثانية" التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2018. وقال: "إنها أيقظت مناطق جديدة في عقلي وخيالي. وطرحت عليّ أسئلة لم أطرحها على نفسي من قبل، فكان عليَّ أن أؤثث المستقبل باختراعات جديدة غير موجودة اليوم".

وعن حضور الشعر والرواية قال إنهما عنده يتبادلان الخبرة؛ فالسرد مثلا، أفاده في شعر الملاحم، واخترق أعماله. كما تناول ديوانه "الحب الشرير.. طوق الذئبة في الألفة والاستذآب" الذي يجمع الحب بالتوحش؛ من خلال حكاية حب ملحمية عاصفة، يتقاطع فيها جمال الحب مع عنفه.

وعن السير أوضح أنها ذات أهمية في أعماله. ومن ضمن ما كتب "طفولتي حتى الآن "، كتبها بدون البعد عن الصيغة الروائية، بذكريات الطفولة التي لا تغيب. وتحدّث أيضا عن "زمن الخيول البيضاء "؛ رواية من روايات ملحمة "الملهاة الفلسطينية ". وصدرت الرواية عام 2007. وتُرجمت إلى اللغة الإنجليزية. ووُصفت بأنها "الإلياذة الفلسطينية ". وقد أسهب الكاتب في الحديث عنها؛ بدأت أحداثها من ما قبل النكبة حتى سنة 1948. وقال عندما وصل إلى نهايتها انهار وبكى؛ وكأنه يكتشف النكبة لأول مرة.

وأشار الضيف إلى أنه يتابع إنتاجات الأدب الصهيوني، وسرديته، ورموزه الطاغية، مع عرض عشرات الأفلام المتبنية لأطروحته، وكل ما سواها يدمر. كما وقف عند دور المجتمع الفلسطيني المسيحي، وقال إنه انتبه وكتب عنه مبكرا، وقدّم "ثلاثية الأجراس" كتحية لمسيحيّي فلسطين ونضالهم؛ فقد أغنوا، حسبه، العالم العربي، وأثروا فكره وثقافته.

إدانة للتطبيع

قال الكاتب نصر الله إنه يكافح مع غيره، التطبيع بكل أشكاله، وأن الفلسطينيين عانوا من الاحتلال الذي دخل بالقوة وغزاهم، وكذلك الحال ستكون مع من يدخله إلى بيته برضاه، واصفا ذلك بالغباء المطلق، ومؤكدا أن القضية لا تباع، وأن من يطبّع لا يضر فلسطين، بل يضر نفسه وبلده، متوقفا عند من طبّعوا؛ منهم الكاتب المغربي الطاهر بن جلون، الذي تَنصّل من هويته، وراح يطبّع مع إسرائيل، ويعطيها شرعية الدفاع عن نفسها، ويتهجم على الفلسطينيين.

وقال ضيف الجزائر: "من باع فقد باع نفسه، وفلسطين لا تباع. ويكفي أن المثقفين العرب أمضوا بـ6 آلاف توقيع، بيان المساندة، وظلوا مع القضية ".

كما انتقد نصر الله "سلالم الشرق" وقال إنها أسوأ رواية لأمين معلوف، يصوّر فيها الفلسطينيين بأبشع صورة، ويتهمهم بالتقصير في صون بيوتهم، ليؤكد أن كل تطبيع هو بالضرورة تَبنٍّ للرواية الصهيونية.

وتميزت المناقشة بالثراء مع جمهور نخبوي بامتياز، وفيها أشار نصر الله إلى أن الشعر كان أكثر إخلاصا للقضية في المرحلة الأولى؛ بسبب أن التجربة الروائية كانت لم تنضج بعد، ليتوقف عند "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، الذي يروي النكبة والتهجير. ويَعدّ ابراهيم نصر الله هذه الرواية معلما غيّر كل شيء، بل هي مؤسسة فلسطينية قائمة بذاتها.