"المساء" تثير مسألة المقاومة الثقافية وحروب الذاكرة
ضرورة التسلّح بوسائل منهجية وإعادة تقييم الفكر الاستعماري
- 1029
مكانة وآليات المقاومة الثقافية فيما اصطلح على تسميته بـ"حروب الذاكرة"، هو السؤال الذي حملته "المساء" إلى عدد من الباحثين والمهتمين بالتاريخ، انطلاقا من الدور الذي لعبته المقاومة الثقافية في إبراز عدالة الثورة الجزائرية وبعدها الإنساني، وساهمت في إنه إنهاء وجود استعماري استيطاني دام أكثر من قرن، وكذا التأسيس لفعل ثقافي مقاوم ومتواصل للتحديات العالمية الجديدة، فمن "يمتلك ذاكرته يضمن بقاءه، ويحصّن مناعته لمواجهة الراهن المدجّج بالصراعات والمخططات "النيوكولونيالية" والتغريب التاريخي الممنهج، لذلك تمثّل الذاكرة، اليوم، حربا منظّمة جديدة لمسخ التاريخ الوطني والقومي، وجعله فارغا ومشوّها لا يعبر إلا عن الشتات، والصراعات، والخلافات..".
البروفيسور عبد الحميد بورايو: حروب الذاكرة امتداد للمقاومة
في هذا الصدد، أوضح البروفيسور عبد الحميد بورايو لـ"المساء" أنّ حروب الذاكرة امتداد للمقاومة الثقافية في الفترة الاستعمارية، حيث كانت مجابهة بين الثقافة الوطنية الجزائرية والثقافة الاستعمارية، وتجلّت في مختلف النشاطات كالأدب الشعبي الجزائري، إذ كان المدّاحون في الأسواق يروون المغازي ويحرّضون على المقاومة بطريقة ثقافية بالعودة إلى التراث وتقديم انتصارات تاريخية وفي نفس الوقت إسقاط فنونهم على الحاضر المعاش وبيان وتجسيد الصراع بين المستعمِر والمستعمَر. قائلا إنّ هذه المقاومة الثقافية كانت أيضا من خلال نشاط المثقفين والصحفيين والإعلاميين والكتاب، الروائيين والشعراء وغيرهم.
بالنسبة للوقت الراهن، أكّد محدّث “المساء” أنّ هناك حرب ذاكرة حقيقية، فكلّ يريد أن يتناول التاريخ الثقافي من وجهة نظر معيّنة، فالمستَعمِر بفكر كولونيالي من جهة والوطني المدافع عن ثقافته من جهة أخرى، وبالتالي نعيش هذا الصراع، وعند العودة إلى هذا التاريخ الثقافي لابدّ من بيان الموقف من الذاكرة وهو نفسه مجال الصراع.
وعن سؤال حول طرق تقديم هذه الذاكرة والحفاظ عليها، قال البروفيسور بورايو إنّها متعدّدة، وتناول عن تجربة، قضية ترجمة النصوص التي كتبها المستعمرون عن الأدب الشعبي الجزائري، وأضاف "وجدت نفسي أترجم نصوصا تحمل فكرا استعماريا، وبالتالي كيف أقدّمه لشباب اليوم، فقرّرت وضع تقديم فيه شرح واف للفكر الكولونيالي قبل النص المترجم، فهذا أصبح ضروريا ولابدّ من تقييم الدراسات الكولونيالية وبيان قيمها ووجهة نظرها المتحيّزة للاستعمار والمستعمِر" مشيرا إلى ضرورة التسلّح بوسائل منهجية مستمدّة من الدراسات ما بعد الكولونيالية التي قدّمها باحثون ودارسون من العالم الثالث وآخرون من الغرب وقفوا إلى جانب الثورة مع إعادة تقييم الفكر الاستعماري ودحض المركزية الأوروبية التي سادت الفكر الكولونيالي.
الدكتور العيد جلولي: المقاومة الثقافية تكرّس الجانب الإنساني
من جانبه، قال الدكتور العيد جلولي إنّ موضوع المقاومة الثقافية مهم جدا، ومن وجهة نظري المقاومة الثقافية لا تتوقف، فأثناء الثورة وبعدها الثورة، وهي مستمرة، موضّحا لـ"المساء” أنّ الثورة الجزائرية مشروع دولة مستمر من أجل تكريس قيم أوّل نوفمبر.
وتابع بأنّ الثقافة لا تتوقّف بتوقّف فترة أو مرحلة معيّنة والثورة لا تنتهي بانتهاء حرب، ونحن دائما في صراع من أجل الذاكرة وترسيخ الهوية الوطنية التي تتشكّل من أبعاد عربية وأمازيغية وافريقية وإنسانية، فالثورة الجزائرية في مقاومتها الثقافية للمستعمر كانت تكرّس الجانب الإنساني، مضيفا بأنّ فثقافتنا إنسانية بالدرجة الأولى وليست محلية ضيقة وكانت دائما مقاومة لكلّ فكر جهوي ضيّق متطرف يريد أن يتخندق ويتشرنق داخل المحيط الضيق.
وواصل محدّث "المساء" بالقول إنّه في ظلّ الإنسانية اليوم، لابدّ أن يكون لنا موقع متميّز نبرز من خلاله الثقافة الجزائرية الأصيلة المتأصلة، وردّ عن سؤال حول آليات تحقيق ذلك بالتأكيد على دور المدرسة، عبر التركيز على برامجنا التربوية خصوصا في البدايات الأولى والمرحلة الابتدائية وقال "أنا من المختصين في مجال أدب الطفل، وأدعو للتركيز على الثقافة الجزائرية في برامجنا الموجّهة للأطفال، وتحصين الطفل تحصينا وطنيا في بعده العربي الأمازيغي الإفريقي والإنساني".
ويرى الدكتور جلولي أنّه بهذه الأبعاد الأربعة نتدرّج إلى المراحل الأخرى وصولا إلى الجامعة، حيث لا بدّ أن يكون موضوع الثقافة مقياسا يدرّس في كلّ التخصّصات حتى نغرس القيم الثقافية الوطنية في الأجيال القادمة، التي للأسف الشديد اليوم، حسب المتحدّث، تتّجه نحو فضاءات أخرى لابدّ من استغلالها كالوسائط الرقمية بهدف الوصول للأطفال والشباب، وأن تكون لدينا حسابات في الفايسبوك و"إكس" (تويتر سابقا) والتيكتوك وكل الوسائط التي نروّج ونثمن من خلالها ثقافتنا الوطنية الرصينة وتكون لنا رؤية ومشروع.
الدكتور الطيب ولد لعروسي: نريد أن نكون أكثر وعيا
أما الدكتور الطيّب ولد لعروسي ففضّل الحديث عن الراهن، وقال إنّ المقاومة الثقافية اعتُمدت في وقت ما، وفق إيديولوجيات معيّنة، وبحثت عن تحريك المجتمعات إيديولوجيا ومع الاشتغال على خلق إنسان من هذه الناحية، وقال “المشكل في العالم العربي أنّنا بقينا في هذا السياق، ولم نتحرّك وبقينا نردّد خطابا نحمّله الكثير من الأشياء التي في “لا وعينا” نريدها أن تتحرّك، لكن في الواقع العملي لا نجدها مبلورة بشكل علمي أكاديمي”.
وأضاف متحدّثا مع "المساء" أنّ هناك شرخا بين الخطاب والواقع، فنحن نريد أن نكون أكثر وعيا واقعيا ونتسلّح بشجاعة أكبر، وبالتالي نحن عندما نشتغل نركّز على الجانب الثقافي، وأوضح “أرى أنّ العالم العربي يشتغل على مواضيع مهمة جدا لكنّها موسمية أي أنّها لا نفكر لما بعد اللقاءات، ولا توضع في سياقاتها وتكون مشروعا، وترسّخ في كلّ وسائل الإعلام، بغض النظر عن طبيعتها، وفي الجامعات حتى يحتضنها العامة، قائلا “نحن نعيش في ما يسمى بالنضال الثقافي، لأنّه مشروع مبني على معطيات معيّنة تعتمد عليها في موضوع "الهندسة الثقافية"، كيف نهندس للثقافة، ولا نعتمد على المؤسّسات ولكن على شراكات مع مؤسّسات كبرى ووزارات وهيئات، لتجميع الجهود، ونحاول بلوغ أصداء تتجاوز الجدران الآنية".
وعن تأخّرنا في هذه المسألة، أشار الدكتور ولد لعروسي إلى أنّه هو مشكل كبير نعيشه، وأعطى مثالا بمعهد العالم العريي بباريس، حيث ينظّم ما بين 300 و350 نشاط ثقافي سنوي، فكم نشاطا ثقافيا تنظّمه المؤسّسات الثقافية الجزائرية، وما هي المواضيع المتناولة، هل ننظم النشاط الثقافي لأنّه يجب ذلك، أم يستوجب دراسته والغاية منه وكذا الفضاء المحتضن للنشاط، وقال “كلّ هذه الأمور تدرس، لا توجد مؤسّسات تبرمج نشاطات ثقافية دون شراكة، مع الإعلام والناشطين وغيرهم".
الدكتور واسيني الأعرج: المقاومة الثقافية هدية نقدّمها لأبنائنا
واعتبر الروائي واسيني الأعرج أنّ المقاومة الثقافية مهمة جدا لأنّها الأبقى، وهي مساندة للحروب العسكرية، وأضاف أنّ المقاومة الثقافية تمنح الامتداد للثورة وتنقل الصراع من الميدان العادي واليومي إلى المعارف والناس، فـ"نجمة “ كاتب ياسين أو ثلاثية محمد ديب أو “اللاز” للطاهر وطار أو “ريح الجنوب” لعبد الحميد بن هدوقة وحتى ما كتبه مفدي زكريا وأحمد رضا حوحو في ذلك الوقت، فحتى بعد أن وضعت الثورة أوزارها، ماذا بقي لنا في الذاكرة الجمعية، بقيت حكايات أبائنا وأجدادنا التي بدأت تزول برحيلهم، ولكن بقي أيضا ما سرد في الكتب.
وأوضح الأعرج أنّه يعتبر المجال الأثمن والأعمق هو الكتاب، فعبره يمكننا قول ما نشاء ونوصل ثقافة المقاومة للآخرين، وكيف نحافظ على الذاكرة من غير هذا الوسيط، حقيقة هناك وسيط الصورة والصوت وكذا الأناشيد والأجوبة على أسئلة أطفال الآن، من خلال سرد التاريخ والشهادات التي حملتها الكتب، مضيفا أنّ المقاومة عبارة عن توريث وهدية نقدّمها لأبنائنا ومن بعدهم أحفادنا وتتناقل من جيل لآخر، للاستمرار في الوجدان، ليس بشكل عنيف فقط ولكن من باب أنّ من حق الإنسان العيش، وفي أن يكون حرا وأن يستمتع بوطن، وهي عناصر شديدة الأهمية، وهذا كلّه يقتضي، وفق محدّث "المساء" وجود وعي بالذاكرة. فلكلّ طريقته في النظر للذاكرة، وقال "لديّ ذاكرتي الخاصة وللمعتدي ذاكرته وفق ما يعتقده صحيحا، وفي الذاكرة الفرنسية هناك الفعل التبريري، لا بدّ أن يكونوا نزهاء ويواجهوا فضاعتهم وأنّهم كانوا المعتدين".
واستطرد صاحب كتاب "الأمير" أنّ المقاومة الثقافية تتمحور في كيفية تموقعنا ثقافيا من ناحية وعينا وفيما نقدّمه، مشيرا إلى أنّه يفضّل تقديم ذاكرة هادئة، بعيدا عن الحرب، فنحن شعب عشنا حروبا كثيرة من المقاومات الشعبية إلى حرب التحرير إلى الصراعات السياسية إلى العشرية السوداء، وهي حقب متحرّكة في التاريخ قائلا “أحاول أن أنقلها لأبنائي بهدوء وأن تتحول الثورة إلى وجدان إنساني وثقافي يحسون به. في الزمن الحالي علينا استرجاع قيم المقاومة الثقافية وإدراجها في حياتنا اليومية وجعلها قيمة مضافة".
البروفيسور منير بهادي: الثقافة هي التي تواجه حروب الذاكرة
أما البروفيسور منير بهادي، فأكّد أنّ الثقافة هي التي تواجه حروب الذاكرة، فبواسطة الكتابة والإبداع بمختلف أشكاله وألوانه يمكن أن نعيد تشكيل الذاكرة وفق المعطيات الثقافية سواء تاريخية أو راهنة، حسب النصوص الموروثة والخطاب الثقافي الموروث، موضّحا ضرورة إعادة قراءة هذا الخطاب في شكل معاصر من ناحية المنهجية والوسائل التقنية والسمعية البصرية من أجل إيصاله للأجيال الحاضرة والمستقبلية. وهي التي تحدّد شكل مقاومة حروب الذاكرة والهيمنة على الذاكرة، لأنّ الوسائل التي تستعمل الآن، في الهيمنة على ذاكرة المجتمعات والشعوب ليس نفسها التي كانت تستخدم تاريخيا.
وأضاف البروفيسور لـ"المساء" أنّ الوسائل التاريخية أصبحت موضوعا لهذه الوسائل الحديثة التقنية والتكنولوجية التي يعدّ تأثيرها أكثر تسارعا وأكثر حدّة مقارنة بالوسائل التقليدية لذلك بقدر وجوب توفير هذه الوسائل والتحكّم في تقنيتها وفي توظيفها بقدر ما يتم الاعتناء بالتراث الثقافي للمجتمع الجزائري، من أجل تقديمه تقديما يتماشى مع امكانات الاستقبال والتلقي لدى هذه الأجيال، ومن جهة الاهتمام به بالدرجة الأولى من طرف الأجيال الشابة والمهتمين والباحثين.
وتابع البروفيسور حديثه بالقول إنّ حصن هذه الحروب ليس مسألة مؤقتة أو نهائية وإنّما حروب الذاكرة حروب متواصلة ولا تعرف التوقف، منذ فجر التاريخ، وتستمر في المستقبل لأنّها من ضمن المسائل التي يتمّ الهيمنة بها ولذلك فالتحكّم في وسائل وموضوعات الذاكرة تحكّما واعيا علميا ومنهجيا، هو الذي يضمن وفق البروفيسور بهادي، لنا مستقبلا كيفية توجيه وتسيير وتدبيره الموضوعات المتعلقة بالذاكرة ومن جهة أخرى هو الذي يضمن لنا فعالية المقاومة في ميدان المحافظة على الذاكرة وجعلها وسيلة من وسائل التقدّم والرقي على المستوى العلمي والتكنولوجي والاجتماعي والحضاري.